العدد 432 -

السنة السابعة والثلاثون، محرم 1444هـ ـ آب 2022م

النظام الاقتصادي الأمثل (2) (في ظلال النظام الاقتصادي الإسلامي)

محمود عبد الهادي

نظام الإسلام نظامٌ فريدٌ بديعٌ شاملٌ

النظام الاقتصادي الإسلامي هو قواعد وأحكام شرعية، فمصدره الشريعة الإسلامية، وهو كسائر أحكام الشريعة أحكامٌ لأفعال العباد، ففيه ما في الشريعة من أحكام التكليف: الفرض أو الواجب، والمندوب أو المستحب، والمباح، والمكروه، والحرام أو المحظور، كما فيه ما فيها من أحكام الوضع؛ السبب، والشرط، والمانع، والرخصة والعزيمة، والصحة والبطلان والفساد. وهذا التفصيل والنظر الدقيق إلى أفعال الناس والحكم عليها لا نجده في أي قانون أو تشريع وضعي: فهو حين يجعل الزكاة فرضًا محدد المقدار، فإنه يجعل الزيادة على ذلك من الصدقة المستحبة التي يثاب عليها المسلم.

وهو حين يجعل الربا حرامًا، فإنه يجعل الفرض مندوبًا يثاب فاعله. وهو حين يحرم كنز المال ومنعه عن السوق لغير حاجة، فإنه يحث على العمل والتجارة والشركة والإنفاق في الخيرات، ويجعل كل ذلك مندوبًا، ويجعل التخيُّر بين تلك الأعمال وأمثالها مباحًا. وهو في كل حال يحرم كنز المال ويوجب وضعه في السوق وبين أيدي الناس لتمويل المشاريع وتنفيذها وللعمل والإنتاج وسد الحاجات. وهو حين يجعل التجارة مثلًا من المندوبات ويحثُّ على تنمية الملك بها، فإنه يحرم أكل المال بين الناس بالباطل، فيحرم الغش والخداع والكذب والقمار والربا. وهو حين يجعل التنافس في السعر أو الجودة مباحًا فإنه يحرم قصد الإضرار بالغير ويحرم الاحتكار. وهو حين جعل التركةَ حقًا للوارث فإنه منع توريث القاتل. وهو حين يسمح للفرد بأن يقلِّل من العمل وأن يزهد في الكسب وتحقيق الربح، فإنه يوجب عليه حدًّا أدنى من العمل ومن قصد تحقيق القيمة المادية لينفق على نفسه وعياله ومن تجب عليه نفقتهم. وهو حين يسمح له بأن يزيد في طلب الكسب وزيادة المال والسعي خلف القيمة المادية، فإنه يوجب عليه حدًّا أدنى من الأعمال التي يجب أن تحقق القيمة الروحية وحدها وذلك بالعبادات التي أوجبها عليه، وبما أوجب عليه في ماله من زكاةٍ وحقوقٍ، وجعل الزيادة في كل ذلك من المندوبات، وأوجب عليه في سلوكه ومعاملاته أخلاقًا ورحمةً وأن يغيث الملهوف بحيث يحقق أيضًا القيم الأخلاقية والإنسانية، وهكذا تمضي أحكام الإسلام ومنها أحكام تملُّك المال وتنميته وإنفاقه بنظام مفصَّل بديع يعالج كل أفعال الناس بمعالجات تنفذ إلى أعماق النفس وحقائقها وإلى ما تبتغي تحقيقه ولا تطمئن إلا بتحقيقه من قِيم روحية ومادية وأخلاقية وإنسانية، وبحيث يعالَجُ كل فرد مهما اختلفت ميوله وتميزت عن غيره، فينتج عن ذلك مجتمع آمنٌ تطمئن فيه النفوس وتتحقق فيه كل القيم بشكل متوازن.

وهو حين أباح التجارة والإجارة والشركات بأنواعها المشروعة، والكفالة والرهن والحوالة والإحالة والضمان والقرض والهبة والوصية… فإنه جعل لصحة ذلك كله أسبابًا وشروطًا تحيط بكل حالات الوقائع المختلفة؛ بحيث يرتفع النزاع وتتبيَّن الحقوق. وكذلك حين أباح التملك، فإنه جعل الملكية ثلاثة أنواع: ملكية فردية جعل السلطان فيها للفرد على ما يملكه، وملكية عامة ينتفع منها وبها كل أفراد الرعية، فلا يحتكرها أو يتميَّز بها أحد على غيره، وملكية الدولة وهي ما جعل الشرع للدولة أن تتصرف بها لمصلحة الأمة والرعية وفق السياسة الشرعية، فترفع بها الفقر، وتنشئ ما يوزِّع الثروة فيحفظ التوازن ويمنع الطبقية، وما يدفع عن الأمة العدوان ويحقق حمل الدعوة والجهاد. وكذلك جعل كلًا من هذه الأنواع الثلاثة معروفًا بأسبابه وأوصافه الشرعية، فلا يملك أحد أن يحوِّل شيئًا منها من نوع إلى آخر، فلا يحوِّل الملكية الفردية إلى عامة أو إلى الدولة، ولا العامة إلى فردية أو إلى الدولة.

نظام للإنسان بوصفه إنسانًا وليس للأدوات

وإن من أهم ما نلاحظه في هذا النظام أن أحكامه موجَّهة إلى أفعال الناس بوصفها أفعالًا إنسانية، أي تصدر عن الناس، وقد عرَّف العلماء الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فهو ليس نظامًا للوسائل أو الأشياء وإن بيَّن أحكامها كلها، وإنما للأفعال التي يقوم بها الإنسان مستعملًا الوسائل والأشياء، وهو ليس نظامًا لعين المال أو الثروة وإن بيَّن ما يجوز أن يكون مالًا وما لا يجوز، وإنما هو نظام لفعل الإنسان المتعلق بالمال أو الثروة؛ بكيفية تَمَلُّكِها أو التصرف بها كتنميتها أو إنفاقها. وهذا بخلاف النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي كان من أول مشكلاته وأخطرها في نظرياته وتنظيرات فلاسفته العجزُ المطبقُ ومن ثم الضلال عن الطريق الصحيح للبحث. فالبحث هو في الإنسان؛ في كيفية تملكه للمال ولوسائل إشباع الحاجات، وفي كيفية دفعه إلى الإنتاج وتنمية ملكيته، وفي سد وإشباع حاجات الفقراء والعاجزين، أو الذين نزل بهم من المصائب والجوائح ما جعلهم من العاجزين أو المحتاجين… وكل ذلك يكون على أساس أحكام الشرع ولتحقيق أهدافه التي تضمن وتحقق ما يحفظ على الناس أمنهم وكراماتهم وطمأنينتهم وسائر حاجاتهم الاقتصادية وغير الاقتصادية. ولكن النظام الرأسمالي – بخلاف النظام الإسلامي – وقع صريعًا من أول طروحاته ونظرياته؛ إذ وقف عاجزًا عجزًا مطبقًا عن معالجة الإنسان وحاجاته من حيث هو إنسان، فبدل أن يبحث في الإنسان وحاجاته – ولو في الإنسان عمومًا فضلًا عما يتميز به فرد عن فرد من الناس في الميول والقوى الفكرية والجسدية – بدل ذلك وجدناه يقرِّر للإنسان حريته في التملك وفي تنمية ملكيته، ثم يتبجَّح بهذه الحرية التي قرَّرها، وكأنه يحرِّر بها الطاقات ويطلقها للناس جميعًا للتملك والإنتاج وزيادته، فينتج عن ذلك غنى المجتمع ورفاهه!  ثم لم يلبث أن أدرك من معنى هذه الحرية أنها تُفضى إلى نقيضها بما تؤدي إليه من فوضى واعتداء ونقض لأصلها، فخرج بما رآه قيدًا يمنع أضرارها الوخيمة بل القاتلة، فقال بأنه تنتهي حرية الفرد حيث تبدأ حرية الآخرين. وهكذا مضت فلسفة هذا النظام ينقض فرعُها أصلَها، وعجزت مرةً أخرى أن تبين للعقل أين تبدأ حرية الآخرين ليعرف أين تنتهي حرية الفرد. ولم يكن من مآل هذه الفلسفة إلا أن يستأثر أصحاب الثروة والسلطة بأن يحدِّدوا ويقنِّنوا هذه البداية وتلك النهاية بحسب مصالحهم، فحكموا على العاجزين والفقراء بالموت أو بالعبودية المقنَّعة بحجاب اسمه الحريات وحرية الملكية.

عجز النظام الرأسمالي وفشله ونتنه

فشتَّان شتَّان بين نظام الإسلام الذي جاء من عند العليم الخبير يبيِّن للناس الواجبات بأعيانها والمندوبات بأعيانها وكذلك المباحات والمحرمات والمكروهات، فيبيِّن الصلاحيات والحقوق ويبيِّن الواجبات والقيود بنظام مفصَّل دقيق… شتَّان شتَّان بين هذا النظام وبين نظام يتفلسف فيه متبجِّحون ضالُّون، ويفلسفه مُدَّعون عاجزون تائهون، فيعلنون حرية الملكية التي ما هي إلا عجز عن أدنى تنظيم لشؤون الإنسان، ثم يزداد العجز عجزًا ويصبح ضلالًا مُعيبًا إذ يقيِّدون الأصل بما يَنقضه ويُلغيه، ثم يصبح العجز والضلال جرائم وشذوذًا؛ إذ يتحكم أصحاب المال والسلطة بأحكام هذا النظام وقوانينه فيفصِّلونه بمقاييس أهوائهم وشهواتهم، ثم يُخرجون للناس الكذب ضروبًا والخداع فنونًا والفخاخ إغراءً وألوانًا جذابة، يقدمونها لهم باسم الديمقراطية والألفاظ المرغوبة، يفرشون سجادةً زاهيةً على مزبلة أوساخهم وعلى دماء وأشلاء ضحاياهم، فهل يخفى نتنُهم؟!.

فمن لي بهؤلاء الذين عندما سمعوا تعبير النظام الاقتصادي الإسلامي جعلوا يستهزئون ويُنكرون! من لي بهم وهم من جلدتنا ومن ذراري أمتنا، فمَنِ الأحقُّ أن يستهزئ بالآخر، عملاء الفكر الغربي وببغاوات هذه الحرية المزعومة أم دعاة الإسلام ودعاة أنظمته ومنها النظام الاقتصادي الاسلامي؟! بالتأكيد دعاة النظام المنبثق عن عقيدة الإسلام أحقُّ.

صور من ضلال النظام الرأسمالي، المشكلة الاقتصادية:

لم يجد دهاقنة هذا الفكر الرأسمالي سبيلًا إلى نظام يعالج سلوك الإنسان وأفعاله، فراوغوا ليفلسفوا ضلالهم ووضعوا نظرياتهم للأشياء وللوسائل وليس لأفعال الناس وسلوكهم، فشطحوا إلى ما لا يقبله عقل ولا يستقيم تحت نظر، وكأنهم طمس الله على أعينهم فأنَّى يُبصرون. فقالوا إنه لأجل كفاية حاجات الناس من السلع وسائر الحاجات يجب تكثير هذه الأشياء وزيادة إنتاجها. وبنَوْا على هرطقاتٍ وخيالات لا تثبت، بل ثبت ضلالُها بالحسِّ منذ ظهورها، ولكنهم ما انفكوا يبنون خداعهم عليها، وهي أن وسائل الإشباع وسد الحاجات أقل من الحاجات؛ لذلك لا بد من زيادة الإنتاج إلى أقصى حد ممكن، بل منهم من كان ذهب إلى أن البشرية في خطر، وذلك حسب نظرية لابلاس التي تقول إن زيادة البشر تتبع متوالية هندسية؛ 1، 2، 4، 8، 16، … وهكذا، في حين زيادة الإنتاج في الأرض تتبع متوالية حسابية؛ 1، 2، 3، 4، 5، … وهكذا، وعليه فإن الإنتاج لا يفي بالحاجات. وفي هرطقات فلسفتهم للنظام الاقتصادي الرأسمالي قالوا إن حاجات الناس تتكاثر ولا تنتهي بينما الإنتاج محدود، وهو ما سمَّوه الندرة النسبية للسلع والخدمات. وعليه؛ فلأجل حل هذه المشكلة ينبغي توجيه الفكر والتشريع والاقتصاد نحو زيادة الإنتاج وتنمية الثروة. وهكذا انتقل التفكير بالتشريع عندهم من تفكير بالإنسان وواقعه وخصائصه وحاجاته وميوله وأفعاله إلى تفكير بمادة الثروة وكيفية زيادتها. فتفكيرهم منصبٌ على إيجاد الثروة وعلى زيادتها وليس على كيفية تمليكها للأفراد، ولا على أن يتمكَّن الكل من كفاية حاجاتهم، أي على زيادة الثروة في البلد وليس على كيفية تملكِّها من قِبَل الأفراد وتوزيعها عليهم، وتفكيرهم منصب على تشجيع الابتكار والاكتشافات والعلوم لأجل تكثير الإنتاج وتحسينه، وأما النظام الذي يوضع لأجل تنظيم أعمال الإنسان ونشاطاته عندهم فله عنوان واحد، هو الحريات التي ينبغي أن يتمتع بها الفرد وتشجيع المبادرة الفردية. ولقد ثبت خطأ نظرية لابلاس ولا حديث لنا فيها. كما ثبت خطأ وضلال فكرة الندرة النسبية للسلع والخدمات من خلال ما نشاهده في الأرض من ثروات تهدر وثروات لا تستغل بل استغلالها ممنوع، في حين الملايينُ من البشر ذوي القدرات الفكرية والجسدية عاطلون عن العمل. ومع ذلك ما زال ذوو السلطة والمال المتنفعون يطبقون نظرياتهم الفاسدة بالقوة والتضليل ويستعمرون شعوب العالم، ومازال العملاء يؤدُّون أدوارهم والببغاوات يكرِّرون التفاهات. وليس هذا قاع انحطاط هؤلاء، بل قاعهم أعمق؛ إذ هبط إلى أدنى من مسكة عقل وفهم، فصاروا عند النظر إلى اكتفاء المجتمع أو ازدهاره أو فقره لا يقيمون وزنًا في فلسفتهم وحساباتهم لفقر الأفراد في المجتمع، أو للطبقية المذهلة، أو لسوء توزيع الثروة! فعلى سبيل المثال بلد عدد سكانه مليون ومدخوله السنوي 5 مليارات دولار يُعد مجتمعًا غنيًا مزدهرًا إذ دخل الفرد السنوي فيه هو 5 آلاف دولار، يعلنون طريقة حسابهم هذه وتكرِّرها وسائل إعلامهم، وهم في الوقت نفسه يقولون إن هذا البلد يملك 1% من سكانه، هم أثرى أثريائه، 90% من مجموع الثروة. والحقيقة معروفةٌ أن أكثر من ربع سكان هذا البلد لا يزيد مدخول الفرد السنوي منهم عن مائتي دولار مثلًا، ونصفهم عن ثلاثمائة للفرد سنويًا، فهل هذه الحسبة يقبلها عقل؟ هل تعبر عن حقيقة؟ هل هي مقياس حقيقي في الدلالة على واقع المجتمع وأنه غني ومزدهر؟ سؤال برسم روَّاد الفكر الاقتصادي الغربي الرأسمالي ودعاته وببغاواته!

وهنا لا بد من القول إنه شتَّان وألف شتَّان بين نظام يرى الأشياء كما هي ويعالجها بحكمة، فيرى أن المشكلة الاقتصادية التي ينبغي النظرُ إليها وعلاجُها هي توزيع الثروة بحيث يتمكن كل فرد من إشباع ضروراته وحاجاته، وبين نظام يجعل المشكلة الاقتصادية هي زيادة الإنتاج فقط، وأن هذه الزيادة كفيلة بكفاية حاجات الناس حيث يأخذ كل فرد من هذا الإنتاج بحسب ما يدفع من ثمن! وماذا يفعل من لا يملك الثمن ولا يستطيع الحصول عليه؟ وكيف تكون زيادة الإنتاج علاجًا إذا كان مهما ازداد أو فاض يحصل عليه الأغنياء فقط فيزدادون ثراءً ويُحرم منه الفقراء ويزدادون فقرًا؟! إنه نظام حكمَ على العاجزين بالموت، بل لا حاجة لوجودهم أصلًا عند شذَّاذ هذا الفكر؛ إذ هم عبء على المجتمع ولا نفع منهم فلا حق لهم بالبقاء.

إن المشكلة الاقتصادية في الحقيقة هي توزيع الثروة على الأفراد، وهذا يحتاج لنظام علاقات يمكِّن كل فرد من الانطلاق لملكية الثروة ولتنمية ملكيته، ويجعل للعاجزين حقًّا واجبًا على جهة ما محدَّدة، كالأقارب أو المجتمع أو الدولة، لكفاية حاجاتهم والعيش الكريم. بينما النظام الرأسمالي جعل المشكلة الاقتصادية ندرة السلع والخدمات، وجعل العلاج بتوفيرها من خلال زيادة الإنتاج، واحتال على المشكلة نظريًا بقوله إنه بتوفر الحاجات أو معظمها في السوق يحصل عليها من شاء مقابل ما يدفعه من ثمن، وزيادة الإنتاج تتطلب حرية الملكية والإنتاج. فهل هناك أضلُّ أو أتفه من هكذا أفكار!

معالجة الخطأ والضلال بترقيعات أشد خطأً وضلالًا

أدى تطبيق هذه الأفكار إلى أن يمتلك الثروة قليل من الناس وأن تظهر الفروق بينهم في الغِنى، وأن ينتشر الفقر ويستفحل؛ فازداد تمركز الثروة في أيدي قلة من الأفراد والعائلات واتسعت دائرة الفقراء، واستفحل الأمر مع الثورة الصناعية ودخول الآلات، فازداد عدد العاطلين عن العمل وانتشرت البطالة وهبطت الأجور، ووجدت الأفكار الاشتراكية طريقها إلى هذه المجتمعات الرأسمالية، وكانت تتفلسف بثورة الفقراء والعمال أي الطبقة الكثيرة العدد القليلة المال على الطبقة المتنفذة قليلة العدد وكثيرة المال ومحتكرته، فلم يجد القائمون على هذا النظام وهم أرباب المال والسلطة والإعلام، لم يجدوا بدًّا من أن يقوموا بتنفيس عوامل الثورة عليهم وكوامنها، فقاموا بخدعتهم التي سموها آنذاك الاشتراكية الدولية، ووضعوا قوانين تقديم المساعدات للعمال والفقراء والعاطلين عن العمل ولتخفيف البطالة، فكان من ذلك على سبيل المثال تحديد ساعات العمل، ووضع حد أدنى للأجور، وإيجاد فرص عمل ووظائف، وتعويض نهاية الخدمة، وتقديم مساعدات للعاطلين عن العمل والعجزة، وتقديمات مختلفة في التعليم والطبابة. ويعلم هؤلاء كما يعلم الجميع أنه لا بد لاستمرارية استغلال الناس واستعبادهم من توفير حد أدنى لهم يستطيعون معه العيش، وامتلاك القدرة الجسدية والعلمية أو الفنية التي تمكِّنهم من الاستمرار بتقديم ثمرات جهودهم للمستغِلِّ أو المستعبِد، وكذلك لا بد من توفير حدٍّ أدنى لهم من الحقوق كي لا يثوروا ويقلبوا هذا النظام.

وهكذا ترقيعات وما يتبعها من ترقيعات وتعديلات متلاحقة تكرِّس حصار المجتمع وتأطير تفكير الناس وأفكارهم في قنوات مدروسة ومصمَّمة، وتصنع الرأي العام الذي يراد له أن يتحرك ضمن هامش وحدود لا يتعداها، وأن ينخدع الناس بذلك الهامش ويتوهَّموا أنهم يتمتَّعون بحرية الفكر والرأي والعمل. وبهكذا ترقيعات ونظريات ينبهر التافهون والببَّغاوات فيردِّدون خلف العملاء وأسيادهم أن الرأسمالية تجدِّد نفسها، وكأنها النظام النهائي للعالم بما تمتلكه من آلية معالجة ذاتها بذاتها، والحقيقة الجلية لكل ذي بصر هي غير ذلك، فما الحقيقة؟

الحقيقة هي أن هذا النظام فشل في تحقيق الكفاية للناس وضمان عيش كريم لهم، ولمسوا أنه نظام فاسدٌ وظالم ومستغِلٌّ ومستعبِدٌ وقاتل، فانكشف عواره وأنَّ منه الناسُ وعلا صراخهم، فكاد أن يسقط في بلاده، فما كان من أربابه إلا أن قدَّموا ما قدَّموه من ترقيعات ومخادعات وفتات لاستمرار سيطرتهم ومنافعهم؛ إلا أن هذه التقديمات لها تكاليفها المالية التي لا بد من توفيرها وإيجاد مصادر لها. ومثل هذا النظام العاجز أساسًا والعقيم لا يملك حلًا لهذه المشكلة فيه فكر وعمق، فلم يقعوا إلا على أسرع فكرة تتبادر إلى الذهن وهي الضرائب وزيادة الضرائب والتذاكي في مصادر جديدة لها. والضرائب لا يستطيع توفيرها الناسُ الذين يهدد فقرُهم وسوءُ عيشهم بتفجير المجتمع ونظامه. فلم يكن ثَمَّ علاج إلا أحد أمرين: إما أن يتنازل الأثرياء المنتفعون من هذا النظام عن ملكياتهم ووسائلها وطرقها للناس، وأن يوجد نظام مختلف ينسف فكرة حرية الملكية، وهذا يعني التخلي عن طريقة استمرار هذا النظام، أي زواله برمته، وإما أن يستحوذوا على ثروات وجهود شعوب أخرى بنفس وسائل القوة وأساليب الخداع والهيمنة وهذا هو الاستعمار؛ فلأجل توفير المال الضروري لتلك الترقيعات ينبغي رفع البطالة أو تخفيفها، كما ينبغي زيادة الوظائف ومن ثَمَّ الضرائب. ولأجل ذلك كله يجب تشغيل المصانع والعمال وابتكار فرص عمل وطرق لتحصيل المال أكثر بكثير مما يحتاجه مجتمعهم، وهذا من شأنه أن يكدِّس الإنتاج بلا طائل، فلا بدَّ إذًا من فتح أسواق خارجية له وإجبار شعوب أخرى على استهلاك إنتاجهم ودفع ثمنه، ولا بد من إيجاد مشاريع لهم خارج حدودهم ينتفعون منها، ولأجل ذلك يمكن تشغيل مصانع السلاح وإيجاد النزاعات والحروب بين الشعوب ليسوِّقوا منتجاتهم، وكذلك توسيع دائرة الخداع ونهب الأموال، وبتعبير آخر فإن بلدًا يقوم على هكذا نظام إذا كان عدد سكانه 300 مليون فعليه أن ينتج لشعوب عددها أضعاف هذا العدد، وأن يهيمن على بلادها ويتخذها مزرعةً له ويمنعها من الاستقلال عنه، ويمارس عليها كل ما يلزم لربطها به ويمنعها من التطلع للانعتاق منه؛ ولأجل ذلك يجب أن يستحوذوا على ثروات الشعوب الأخرى بابتكار طرق فيها الخداع وفرض التشريعات واستعمال القوة والبلطجة لاقتطاع ما يستطيعون من أموال الناس وثروات الشعوب، وهذا ما فعلوه وما زالوا يفعلونه ويُبدعون في إيجاد الأساليب تلو الأساليب لتسخير الشعوب وضخ أموالهم إلى جيوبهم وخزائنهم.

الرأسمالية لا تعيش إلا بالخداع والاستعمار

نعم، هكذا يعالج هذا النظام مشكلة الفقر والطبقية وسوء توزيع الثروة والخوف من الثورة الداخلية عليه وإسقاطه، يعالجها بتوسيع دائرة الفقر والاستغلال والقهر والإذلال والشقاء والعذاب لتحيط بشعوبٍ أخرى ولتحتوي العالم. إنه النظام الرأسمالي الذي لا يعيش إلا بالاستعمار، باستغلال الشعوب واستعبادها ومص دمائها والهيمنة على كل مفاصل الحياة والثروة والإنتاج والتفكير فيها، ومن ثَمَّ تدميرها. ولقد باتت طريقة هذا النظام في المحافظة على بقائه مكشوفة بيقين: الاستعمار وإلا فالسقوط والزوال.

لقد نتج عن هذا النظام الرأسمالي القائم على فكرة حرية الملكية وعلى رؤية أن المشكلة الاقتصادية هي الندرة النسبية للسلع والخدمات، وأن علاجها هو بزيادة الإنتاج للسلع وزيادة توفير الخدمات تحكُّمُ فئة الـ 1% المسيطرة على الثروة والسلطة والإعلام في المجتمع، وتحكمها بالدولة التي صارت عونًا لها للسيطرة على الثروات. يتحدث البروفيسور في علم الاقتصاد في جامعة نيويورك إدوارد وولف في كتابه «الثروات غير المتوازنة» عن أمريكا قائدة الرأسمالية فيقول: «لقد احتلت طبقة من العائلات قوامها 1% رأس هرم الثروات المالية حيث امتلكت ما نسبته 48% من إجمالي الثروات». ويقول الأستاذ عبد الحي يحيى زلوم في كتابه «إمبراطورية الشر» ص 224 إن ما تمتلكه طبقة الـ1% أكثر مما يمتلكه90% من الأمريكان بنسبة 240%، ويضيف: «فهذا يعني أن 400 أسرة في أمريكا تستطيع الحصول على قوةٍ أكبر، وأكبر بكثير من 90% من الأميركيين». ويقول في نفس الكتاب ص 214: «إن طبقة الـ 1% (OPC)  One percent classهي التي تتحكم بقوة المال وقوة الإعلام وقوة تسويق القادة السياسيين والمشرعين».

وإذا كانت أمريكا لا يمكنها أن تحافظ على نظامها وبقائها إلا بهذا الاستعمار والتدمير للشعوب، ومثل ذلك ينطبق على بريطانيا وفرنسا وأمثالهما، وكلهم يريد البقاء بالاستعمار ولا طريقة لهم سواه، فإنه حتمي في حمأة هذا السعار للهيمنة على الشعوب أن ينشأ الصراع بين هذه الدول وأمثالها، وأن يحتدم صراع الاستعمار لأجل البقاء الذي لا يتحقق لهم إلا بافتراس الشعوب؛ بتسخير جهودها ونهب ثرواتها ومصِّ دمائها ونهش لحومها. وهذا هو سبب شقاء الشعوب اليوم، وسبب اللهيب الذي يتلظَّى به العالم، وفي مقدمته العالم الإسلامي الذي صار بصحوته وتطلعه إلى تطبيق الإسلام يهدِّد وجود الرأسمالية برمتها وليس فقط نظامها الاقتصادي.

الرأسمالية تشجع الاقتصاد الطفيلي وتقلِّل الإنتاج:

وكذلك أدت هذه النظرة الرأسمالية إلى التملك بطرق ليس فيها أي إنتاج مفيد للمجتمع بل فيه الضرر، ونما الاقتصاد الطفيلي على حساب الاقتصاد الحقيقي النافع، وتفنَّن أرباب هذا النظام في ابتداع التشريعات والأساليب التي يقتطعون بها من أموال الناس كيفما تحركوا أو تحركت أموالهم، ومارسوا قوتهم وهيمنتهم على العالم ليعمموا أو يعولموا تشريعاتهم وقوانينهم التي يفرضونها على دساتير وسياسات سائر الدول، ليكون العالم مزرعةً لهم، فيستثمرون الجهود والثروات عبر معاملات مالية فقط أو خدمات مزعومة لا تساعد في إنتاج طعام أو لباس أو سكن، ولا تؤمِّن خائفًا أو تعلّم جاهلًا أو تسعف مريضًا، ولكنْ تنشر الفقر والرعب وتعطِّل الإنتاج المفيد، فيجبرون الدول على الاستقراض من بنوكهم ومؤسساتهم بالربا لتقع تحت العجز ويصبح تسخيرها وشعوبَها دائميًا، ويتفنَّنون في ابتكار أنواع الضرائب والرسوم على كل حركة للإنتاج أو الانتفاع، حتى صار الذين لا ينتجون للمجتمع إلا غلاء الأسعار وضَعف الإنتاج هم الأثرياء والأقوياء، وأما من ينتج زراعةً أو صناعةً أو يقدم خدماتٍ يحتاجها الناس فالقوانين تلزمه لكل حركة وفي أي مرحلة من مراحل الإنتاج برخصة وضريبة ورسمٍ وما شاكل ذلك، مما يزيد في تكاليف الإنتاج ويضعفه. وكان من نتائج هذا الاقتصاد الطفيلي أن أوجد ملايين الوظائف وجيوشًا من العاملين فيها لا ينتجون شيئًا مفيدًا بل يستهلكون الإنتاج ويحصلون على أموال الناس فيما لا فائدة منه ولا طائل تحته إلا الضرر المتفاقم، فماذا يفيد الإنسان أو المجتمع مئات الألوف من موظفي البنوك وأمثالهم من موظفي شركات التأمين وأضعافهم من الفنانين والفنانات وأمثالهم! بل هم يضرون، وتراهم أكثر الناس ثراءً وسلطةً. إن هذه الأمثله ومثلها كثير، كفيلةٌ بانحطاط المجتمع وسقوط الدولة؛ ولكنهم – كما أسلفنا – يؤخِّرون هذا التهاوي بمزيد من الهيمنة والنهب للشعوب التي ما زال في شرايينها دماء تُضخُّ لتشغيل ماكيناتهم. فأين هذا من النظام الإسلامي الذي يقضي على هذا الاقتصاد الطفيلي، ويجعل الناس مندفعين للإنتاج، ويجعل النظام نظام ملكية المال لكل فرد وليس إيجاده، ويجعل أحكامه ومعالجاته لتنمية الملكية للأفراد وليس مجرد تنمية الثروة أو المال؛ إذ الموضوع والمشكلة هي الإنسان وليس المال.

لقد حرَّم الإسلام الربا فحرَّم كل هذه البنوك وألغى كل هذه الوظائف التي يعدها الجاهلون من زيادة فرص العمل؛ إذ لو قعد هؤلاء في بيوتهم وأخذوا ما يكفيهم دون أي عمل لكان أفضل بكثير مما تجنيه هذه البنوك من أموال الناس بلا أي مقابل من إنتاج مفيد، وبما تجنيه عليهم من رفع أسعار وتعطيل إنتاج وإرهاق في العيش. وكذلك حرَّم الإسلام عقود التأمين ومنع كل شركاتها ومؤسساتها التي هي كالبنوك ضررًا. ولتذهب هذه الجيوش من الموظفين إلى أعمال تنتج للمجتمع والأمة ما يفيد ويزيد الإنتاج فيقوي المجتمع والدولة. وألزم الإسلام الناس بأن يزرعوا ما يملكونه من أرض زراعية، ومن عطل الأرض ثلاث سنوات أُخِذت منه وأعطيت لمن يزرعها، وحرص الإسلام على مساعدة أصحاب الأراضي لزراعتها بقروض وبإعانات مالية لا ترد وبخدمات مجانية، فكان بذلك نظامًا إنتاجيًا مثاليًا وكانت زيادة الثروة فيه تحصيل حاصل. وحرَّم كنز المال لغير حاجة وحرَّم الربا، فلم يبقَ للأثرياء إلا أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله وفي الخيرات، أو أن يعملوا بها لتنميتها في زراعةٍ أو صناعةٍ أو تجارة، فجعل المال في السوق للإنتاج وبين أيدي الناس. وأباح الشركة ومنها المضاربة وحث عليها، فأي بطالة سيبقى بعد ذلك، إذ كم من أصحاب الثروات الكبيرة لا حيلة لهم في تشغيل أموالهم، وكم في مقابلهم من أصحاب الأفكار والخبرات والقوة لا قدرة لديهم على تحويل طاقاتهم هذه إلى أعمال نافعة منتجة، فإذا مُنِع الكنز ومُنع الربا فستنشط الشركة، وبخاصة بين هذين الصنفين من الناس. فهل ثمة مبرر أو شبهة مبرر لقول العملاء والإمعات والببغاوت مستنكرين أو مستغربين: وما هو هذا النظام الاقتصادي الإسلامي؟!.

وبأي حجةٍ يقولون قولهم المنكر هذا، ولأجل أي شيء؟ لأجل نظامٍ يشجع العمل غير المنتج ويعرقل العمل المنتج ويراكم عليه التكاليف، ويشجع الاستثمار عبر ربا البنوك التي تقوم بدورها بإعادة إقراضه بربًا أكبر، فتزيد تكاليف الإنتاج وتصنع الغلاء، فوق أنه بإقراض المال للبنوك يتعطَّل الإنتاج في المجتمع ويختفي التنافس وترتفع الأسعار. بل إن البنوك تقوم بإقراض هذا المال في بنوك خارجية أكبر، تقوم بدورها بإقراضه للدولة التي خرج من بنوكها أصلًا فتقرضها إياه بربًا أكبر بكثير؛ ما يرتب على الدولة أعباء مالية ترجع على المودعين أنفسهم وعلى مجتمعهم بمزيد ضرائب وارتفاع أسعار وضعف إنتاج وزيادة بطالة؛ لتجد هذه الدولة نفسها عاجزةً لم يبقَ منها إلا اسمها، وثرواتها تبتلعها حيتان النظام الرأسمالي ووحوشه. فكم هو الفرق كبيرٌ بين نظامٍ نعمة ونظامٍ نقمة، ومن لي بهؤلاء الببغاوات؟!.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *