العدد 426-427-428 -

السنة السادسة والثلاثون، رجب-شعبان-رمضان 1443هـ ، الموافق شباط-آذار-نيسان 2022م

مآزق استراتيجية تؤدي إلى تراخي قبضة أمريكا عن بلاد المسلمين… فهل تؤدي إلى انهيار حضارتها وقيام حضارة الإسلام، بإقامة دولة الخلافة؟

                                                                عصام الشيخ غانم

هذا المقال يناقش ثلاثة مآزق استراتيجية تعاني منها أمريكا اليوم، وكلها على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بقيام الخلافة الإسلامية:

     المأزق الأول فشل الحرب الأمريكية على الإسلام، وعدم قدرة أمريكا على إتمام هذه المهمة الدولية.

     والمأزق الثاني انشغال أمريكا بالمنافسة الجدية مع الصين لاحتواء صعودها.

     والمأزق الثالث الانقسام الداخلي الكبير الذي تعاني منه أمريكا. والنتيجة الحتمية لهذه المآزق هي ارتخاء قبضة أمريكا عن البلاد الإسلامية، وبروز التمرد الاستراتيجي الذي يشكل ظرفًا مساعدًا وقويًا لإقامة الخلافة الإسلامية الحقيقية التي يعمل لها حزب التحرير في بلد، ثم الانطلاق منه لتوحيد سائر البلاد الإسلامية في دولةٍ واحدة

مقدمة

يرصد المفكرون والسياسيون في الغرب حالة من «عتبة الغليان الثاني» يمكن أن تجتاح المنطقة الإسلامية بعد «الغليان الأول» المتمثِّل فيما أطلق عليه «الربيع العربي»، ومن ذلك ما نقلته الجزيرة نت 24/12/2021م عن الكاتب البريطاني الشهير ديفيد هيرست قوله: «إن الموجة الأولى من احتجاجات الربيع العربي التي اندلعت عام 2011م مرت، لكن جمرَها ما زال متَّقدًا ويحترق في الشوارع وفي قلوب وذكريات الملايين» وذلك في معرض قراءته للكيفيات التي أُفشل فيها هذا الربيع، وأنه لم يحرز أي نتائج لصالح الشعوب التي دفعتها القوى الغربية خاصة أمريكا إلى أتون الحرب الأهلية وتدمير البلاد تارةً، وتارةً أخرى إلى محاولة ترسيخ أنظمة سياسية هي أكثر سوءًا من سابقاتها قبل «الربيع العربي» كما في مصر.

وعندما انسحبت أمريكا نهاية آب 2021م من أفغانستان وانهار الجيش الأفغاني وتبخَّر، فإن كبار الساسة في أمريكا والغرب قد أخذتهم الرجفة ليس فقط من الأوضاع الأفغانية، بل من احتمال أن تنهار أدوات الغرب من رؤساء وأحزاب وقوى في البلاد الإسلامية بشكل مفاجئ وشامل كما حصل في أفغانستان. ويقف الغرب اليوم أمام هذه المخاطر الجسيمة على مستقبله والمتمثِّلة في حالة الانفلات في المنطقة الإسلامية، وهو أي الغرب وللمرة الأولى يظهر اليوم لا حول له ولا قوة، ولا يجد طريقًا لوقف ذلك، بل صار يتصرف بعصبية تساعد على تقريب الانهيار الشامل.

 

المأزق الاستراتيجي الأول: فشل الحرب الأمريكية على الإرهاب

يمكن القول بأن أمريكا في حربها على الإسلام تحت ذرائع الإرهاب قد فشلت فشلًا تامًا، وقد تمثَّل هذا الفشل بانكشاف حقيقة ضعفها ومحدودية قدراتها، وأنها تكيل بمكيالين، وأن ما تعلنه من دعم حقوق الإنسان ما هو إلا أداة لتحقيق أهدافها فيما هي لا تقيم وزنًا لحقوق الإنسان، وكان هذا ظاهرًا في آلاف المدنيين الذين قتلتهم الغارات الأمريكية المختلفة في العراق وأفغانستان واليمن وسوريا. فمن ناحية عسكرية تحدى المقاتلون المسلمون الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان وأجبروه على التراجع، وانكشفت بذلك حدود القوة العسكرية الأمريكية، وأظهرت أمريكا ضعفًا كبيرًا في القتال البري واعتمدت بشكل أساسي على القصف الجوي عن بعد لتجنب كشف جبن جنودها وتجنب الخسائر البشرية في صفوف جيشها.

وإذا كان من معايير لقياس الفشل العسكري الأمريكي فليس أصدق من الساحة العراقية التي ظلت الصواريخ البدائية تلاحق بقايا قواعدها العسكرية والسفارة الأمريكية والمنطقة الخضراء في بغداد حتى هذه الأيام بعد أن سحبت أمريكا جل جيوشها من العراق. وفي أفغانستان فقد فشل الجيش الأمريكي ومعه باقي جيوش حلف الأطلسي في هزيمة 50 ألف مقاتل لحركة طالبان طوال عشرين عامًا، وهذان المعياران كافيان لبيان محدودية القوة العسكرية الأمريكية وقلة فاعليتها أمام قتال المسلمين، وهذه حقيقة لها ما بعدها بإذن الله.

وأما الفشل السياسي فقد فشلت أمريكا فشلًا ذريعًا في كل من العراق وأفغانستان، وهما البلدان اللذان حظيا بتدخل أمريكي كبير وإنفاق هائل من الخزينة الأمريكية، فكل ثقل أمريكا العسكري والسياسي والنفوذ الإقليمي لم يمكِّنا النظام العراقي ولا النظام الأفغاني من الاستقرار، وها هو العراق ساحة حرب وعدم استقرار، وها هو النظام العميل في أفغانستان قد تبخَّر في ساعات وصار نسيًا منسيَّا، وهذا فشل شديد وخسارة للجهود والأموال التي أنفقت وانتقدها الرئيس السابق ترامب كثيرًا، والفشل في البلدان الأخرى ليس أقل من مثيله في العراق وأفغانستان.

ويرصد الكاتب البريطاني الشهير ديفيد هيرست هذه الأخطاء الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة الإسلامية فيقول: «لم يعد ذلك فقط مسـؤولية تناط بها – إدارة بايدن – بل وواجب يقع على عاتقها بعد كل الدمار الذي سبَّبته الصراعات التي أمر بإشعالها أو ساندها رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبون، من أفغانستان إلى العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا. وأي خطأ استراتيجي أمريكي ترتكبه الولايات المتحدة سيكون خطأها الأخير، بل وخطأ أوروبا الغربية الأخير أيضًا». (عربي21، 28/12/2021).

وأما أيديولوجيًّا، وهو الأهم، فإن أمريكا قد أعلنت الحرب على الإسلام تحت ذريعة الإرهاب للقضاء على الفكرة الإسلامية في الحكم والوحدة، ولكن أمريكا تفاجأت وتتفاجأ كل يوم بأن المسلمين متمسكون بدينهم، ومتمسكون بالحكم بالإسلام، ولم تثنِهم الحرب الأمريكية عن التطلع للخلافة الإسلامية. ومن أكثر ما يغيظ أمريكا والغرب أن البلاد الإسلامية ليس فيها اليوم إلا مشروع أيديولوجي واحد هو الحكم بالإسلام وإقامة الخلافة من جديد، وقد ظهر هذا التوجه بشكل مرعب لأمريكا في الثورة السورية، بل إن تبرير الرئيس الأمريكي بايدن لانسحاب قواته من أفغانستان 2021م كان لأنها كانت سنة 2001م حاضنة للقاعدة، وأما اليوم فإن خطر الخلافة قد تشعَّب وتوزَّع في بلدان إسلامية كثيرة في آسيا وأفريقيا (موقع وزارة الخارجية الأمريكية، 16/8/2021م).

وأما الانهيار الفكري للرأسمالية في بلدانها؛ فها هي فرنسا التي تدَّعي الحريات لا تتَّسع الحرية فيها للفتيات المحجَّبات، وها هي أوروبا تضيق بمآذن المساجد ولا تطيق رؤيتها، وتطلق دعوات الاندماج المجنونة للمسلمين في أوروبا، ومما زاد من الانهيار الفكري للرأسمالية كيفية معالجة أمريكا وأوروبا لأزمة كورونا وما نتج عنها من كبح شديد للحريات تحت ذريعة الوباء، وفرض اللقاح لصالح شركات الدواء، فشاهد المسلمون وكذلك الغربيون بأن أسس الفكر الرأسمالي للحريات تتهاوى، وأن الدولة في الغرب تتحوَّل إلى دولة شمولية بشكل سريع.

وأما في البلاد الإسلامية فإن الأنظمة التابعة للغرب قد فقدت أي مبرر لوجودها، فثورات «الربيع العربي» وانتفاضاته لاحقت وتلاحق هذه الأنظمة، ولا تجد هذه الأنظمة لها محبًّا إلا لدى أمريكا والدول الأوروبية، فأمريكا تناصر نظام السيسي الذي زاد نسبة الفقر في مصر من 21% إلى 30% خلال سبع سنوات من حكمه، وكان الرئيس الأمريكي السابق ترامب يعلن إعجابه بالسيسي بشكل يقرفه الشعب المصري، وتجنِّد أمريكا أتباعها اليوم لإعادة تطبيع العلاقات مع نظام بشار المجرم وكأن شيئًا لم يحدث في سوريا خلال السنوات الماضية، والبلدان الجديدة التي قامت بالتطبيع العلني مع كيان يهود تحت ضغط إدارة ترامب السابقة تخاصم شعوبها وتستفزُّ مشاعرهم لقاء تطبيع تلك العلاقات مع يهود، بمعنى أن السياسات الأمريكية مع عملائها قد عملت على تعريتهم بالكامل أمام الشعوب، فشحَّ من يدافع عنهم، اللهم إلا منتفع مباشر.

وبالمجمل، فإن أي نوع من الحكمة قد غاب عن السياسات الأمريكية في المنطقة الإسلامية، وسادت العصبية الأمريكية وروح الانتقام من الشعوب الإسلامية مباشرةً كما في الأعمال العسكرية الأمريكية الهمجية أو عبر الحكام، فالرئيس ترامب كان يريد أصوات اليهود الأمريكيين في الانتخابات الرئاسية؛ لذلك دفع الحكام العرب للتطبيع مع كيان يهود، ولم يفكِّر للحظة عن أثر ذلك على الشعوب التي عاظمت من عدائها لأمريكا والحكام معًا، وأمريكا لم تجد بديلًا عن بشار في سوريا فتريد تثبيته والتطبيع معه، ولا تفكر للحظة في أثر ذلك على الشعب السوري المكلوم، وهي تكره الإسلام فتدفع بعميلها ابن سعود لإقامة حفلات الرقص والغناء على عتبة المدينة المنورة في الحجاز دون أن تقيم هي وعميلها أي اعتبار للشعب الذي يغلي، كل ذلك في محاولة بائسة لفصل أهل الجزيرة عن الإسلام، وتطلب من الحكام عمومًا تبني اتفاقية سيداو والزيادة في محاربة الإسلام في أدق أحكامه الاجتماعية وأكثرها حساسية للناس دون أن ترى أثر ذلك على الشعوب التي تقف عند درجة الغليان.

ولأنها تتصرف بغرور العظمة، أي العنجهية، فإن أمريكا لا ترى إلا ما تحب أن تراه، ولو كانت تريد أن ترى الحقيقة لرأتها في سرعة سيطرة حركة طالبان على أفغانستان وفشل الجهد السياسي والمالي الذي بذلته أمريكا في أفغانستان عبر عقدين كاملين وتبخُّر عملائها من الساحة الأفغانية.

وبكل هذا يتضح بأن أمريكا لم تقدم للمسلمين أي مشروع ديمقراطي كما كانت تدَّعي عند احتلالها للعراق بجعله نموذجًا للديمقراطية، وهذا فشل سياسي كبير، ولم تتمكن من السيطرة العسكرية وبقي المقاتلون يكيلون لها الضربات في كل البلاد التي تدخلت فيها عسكريًا حتى أُجبرت على الانسحاب الكامل أو الجزئي، وهذا فشل عسكري كبير. وبعد جرائمها ضد المسلمين، وليس غوانتنامو إلا واحدةً من جرائم كثيرة وكبيرة، فإن أحدًا لم يعد يصدق بأن أمريكا تدعم حقوق الإنسان، بل إن جرائم الشرطة الأمريكية ضد الأمريكيين السود كما في مسألة قتل جورج فلويد قد أفرغت أمريكا من أي نظرةٍ إنسانية؛ وبذلك فشلت أداتها المعلنة «حقوق الإنسان» و»حقوق النساء» فشلًا ذريعًا. وبدعمها للأنظمة المجرمة في بلدان المسلمين وطلبها زيادة الإجرام انتقامًا من الشعوب الإسلامية، فقد عاظمت من عداء هذه الشعوب لها وللأنظمة الحاكمة. وبسبب مشاكل الرأسمالية التي لا تنتهي مثل: الأزمات المالية، ومنع الجاليات الإسلامية من الحرية، وتدخُّل الدولة في أسواق المال تمامًا مثل الأنظمة الشمولية… فإن الرأسمالية قد ظهر فشلها بشكل كبير، ناهيك عن أن يكون هناك أي مشروع أيديولوجي تحمله الأنظمة العميلة في البلدان الإسلامية، والتي لا تحمل إلا العصا ضد الشعوب لإخضاعها لأمريكا ونفوذها ومنعها من العودة إلى الإسلام وبناء دولة الإسلام.

هذا ما حصدته أمريكا من تدخُّلها في البلاد الإسلامية تحت ذريعة الإرهاب منذ سنة 2001م إلى يومنا هذا، والنتيجة منعطف خطير غير قابل للعودة إلى الوراء، وشعوب تنتظر ساعة الصفر للانقضاض على عملاء أمريكا والغرب، بل وطرد أمريكا شر طِردة من المنطقة الإسلامية، ولعل أحداث كازاخستان مطلع 2022م التي كان يتمجَّد حكامها بالاستقرار التاريخي مؤشر على درجة الغليان في شعوب الأمة الإسلامية ضد حكامها. وأمام تعاظم الدعوات لبناء دولة الإسلام في المنطقة الإسلامية فإن أمريكا أخذت تغادر المنطقة الإسلامية دون إتمام مهمتها، وذلك بسبب انشغالها بالصين.

 

المأزق الاستراتيجي الثاني: انشغال أمريكا بالمنافسة الجدية مع الصين لمنع صعودها

وجدت أمريكا إبان إدارة أوباما السابقة نفسها في حمأة انشغالها التام بالحرب على الإرهاب، والتي استمرَّت لعقد من الزمن، وجدت أنها أمام مأزق استراتيجي خطير، وهو تقدُّم الصين في المنافسة الجدية لها، فأخذت توجِّه بوصلتها لاحتواء صعود الصين، ومن ذلك نقلها لثلثي جيوشها البحرية لمحيط الصين، وبناؤها تحالفات جديدة ضد الصين مع الدول المحيطة بها أو ذات العلاقة، وآخر تلك التحالفات الأمريكية كان «أوكوس» في أيلول 2021م مع بريطانيا وأستراليا، ويتضمن بناء غواصات نووية لأستراليا، وقبله التحالف الأمريكي الرباعي «كواد» مع اليابان والهند وأستراليا خلال 2017م، وخلال كل ذلك فرضُ إدارة ترامب الرسوم الجمركية بما عرف بـ«الحرب التجارية» بين أمريكا والصين، وتضييق الإدارة الأمريكية الخناق على كبريات الشركات الصينية مثل شركة هواوي المبتكرة لمعدات متقدمة في اتصالات الجيل الخامس، وجهود أمريكا لمنع الدول الأوروبية من التعاون مع الصين بخصوص قطاع الاتصالات.

وبالمجمل فإن أمريكا إبان إدارة أوباما الأولى قد انكشفت لها خطورة صعود الصين وضرورة المسارعة في وقف صعودها واحتواء مخاطره على الهيمنة الدولية لأمريكا، وكانت أمريكا غارقةً في حربها على الإسلام. وقد قيل إبان إدارة أوباما الثانية بأن الرئيس الأمريكي أوباما ووزير دفاعه كارتر يركِّزون جُلَّ جهودهم على المسرح الصيني فيما يتركون لوزير الخارجية كيري التركيز على المنطقة الإسلامية؛ لكن إدارة ترامب اللاحقة لإدارة أوباما كانت تركز بجميع أركانها تقريبًا على الصين، وكذلك تفعل إدارة بايدن الحالية.

وبالتدقيق نجد أن جهود أمريكا والموارد السياسية والمالية وكذلك العسكرية التي تخصِّصها أمريكا للمنطقة الإسلامية قد أخذت تتناقص، وبتناقصها يتناقص بالتأكيد تأثير أمريكا في المنطقة، فسحبت أمريكا جُلَّ قواتها من العراق إبان إدارة أوباما لتضعها في مواجهة الصين؛ لكن الساحة العراقية أخذت تتقلب بما لا يرضي أمريكا، ثم اندلعت انتفاضات «الربيع العربي» فكان ذلك أسوأ ما تريده أمريكا التي تحلم باستقرار نفوذها في المنطقة الإسلامية من أجل الانتقال الآمن لمحيط الصين، وكانت ثورة الشام بحق من أشد المآزق التي واجهت نفوذ أمريكا في المنطقة؛ إذ إن ثورة الشام قد رفعت شعار الخلافة الإسلامية، وأخذت تهدِّد بتغيير وجه المنطقة بكاملها، وفشلت كافة الجهود الأمريكية المباشرة وعبر إيران وروسيا في السنوات الأولى للثورة، وإن نجحت لاحقًا وبحذر عن طريق احتواء الفصائل المسلحة بواسطة تركيا والسعودية.

لقد أصبحت أمريكا تتصرف بعصبية في المنطقة الإسلامية، وتجبر عملاءها على إظهار السياسات التي تريدها دون أن تكون المنطقة ناضجة لذلك، بل ومعاكسة تمامًا لتوجهات الشعوب التي كسرت حاجز الخوف من الحكام، بمعنى أن الحكمة قد غابت عن السياسات الأمريكية في المنطقة. ففي الوقت الذي يظهر فيه كيان يهود بأبشع صوره في اقتحام المسجد الأقصى وتحدِّي مشاعر المسلمين ويقصف قطاع غزة بلا هوادة، فقد طلبت أمريكا من حكام المغرب والسودان والإمارات والبحرين التطبيع مع كيان يهود بما يزيد من استفزاز الشعوب المستفَزَّة أصلًا، ودفعت برجلها في تركيا أردوغان للتنسيق مع روسيا وإيران والضغط على الفصائل السورية المسلحة ودخول سوريا لمنع إسقاط النظام السوري، وهذا ما كان حتى اللحظة، الأمر الذي جعل شعبية أردوغان في الحضيض بسبب انكشاف دوره. وفي مصر دفعت أمريكا بنظام السيسي لمزيد من استفزاز الشعب المصري عبر محاكمات جائرة للرئيس السابق محمد مرسي وعبر هدم المنازل في سيناء، بل والمساجد في مصر بحجة عدم الترخيص، وإغراق الأنفاق إلى غزة وحصارها حصارًا شديدًا حتى قال الأكاديمي اليهودي إيدي كوهين عبر قناة تلفزيونية مصرية: «إن السيسي أكثر صهيونية مني» (شبكة رصد الإخبارية، 16/9/2018م)، وكذلك فعلت في دفع حاكم السعودية لإظهار انفصال السعوديين عن الإسلام بشكلٍ مخزٍ ومستفزٍ لمشاعر المسلمين.

وهذا يعني أن أمريكا في ظلِّ تقلُّص مواردها للمنطقة الإسلامية وإصرار إدارة ترامب السابقة على سحب بقية القوات الأمريكية من العراق وسوريا وأفغانستان؛ لأجل التركيز على الصين ومحيطها، فإنها كانت تدفع برجالها وعملائها في حكومات البلدان الإسلامية لخدمتها بشكل علني ومكشوف بما يشكل خطرًا شديدًا على هذه الحكومات وعلى نفوذ أمريكا في المنطقة. وهذا كله يعني أن أمريكا، وأمام تعاظم المخاطر على هيمنتها الدولية خاصة من الصين، صارت تتصرف بعصبية ودون حكمة ودون إدراك المخاطر التي تتشكَّل بتسارعٍ كبير، والذي ظهر واحد من آثاره في أفغانستان في آب 2021م عندما تبخَّر الجيش الأفغاني وتبخرت الحكومة العميلة وسيطرت حركة طالبان بسهولة تامة على كامل أفغانستان.

المأزق الاستراتيجي الثالث: الانقسام الداخلي الكبير الذي تعاني منه أمريكا ويهدد بحرب أهلية سنة 2024م

كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية نهاية 2020م حدثًا صاخبًا كشف عن انقسام عميق ودائم في الساحة السياسية الأمريكية، وظهرت الولايات الأمريكية على شكل ولايات للجمهوريين أكبرها تكساس وأخرى للديمقراطيين وأكبرها كاليفورنيا، وظهرت الجماعات المنادية بتفوق العرق الأبيض بشكل منظَّم، وقامت باقتحام الكونغرس معقل الديمقراطية الأمريكية لمنعه من المصادقة على نجاح بايدن في الانتخابات، وظهرت المليشيات المسلحة، وظهر تيار مناصر للرئيس المنهزم ترامب وأطلق عليه تيار «الترامبية»، وانقسمت كبرى الشركات الأمريكية، فشركات التكنولوجيا تناصر الرئيس بايدن وتدعمه بمليارات الدولارت، فيما تناصر شركات النفط والطاقة والصناعة الرئيس السابق ترامب وتدعمه بمليارات الدولارات، وأعلن الرئيس الفائز بايدن بأنه سيوقع اتفاقية المناخ الدولية المناهضة لمصالح شركات النفط والطاقة والتصنيع في أمريكا بعد أن كان الرئيس السابق ترامب قد انسحب منها لصالح تلك الشركات، ومع انتشار فيروس كورونا أضاف الأمريكيون لحوزتهم ستين مليون قطعة سلاح تضاف إلى أربعين مليون قطعة كانوا يتسلحون بها سابقًا، ما يجعل من أمريكا برميل بارود في حال اندلاع أعمال العنف.

وبعد واقعة اقتحام الكونغرس أخذت إدارة بايدن على محمل الجد ما صار يعرف بـ«الارهاب الداخلي» في أمريكا، أي استخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية، خاصة وأن الرئيس السابق ترامب قد اتهم بالتحريض على ذلك.

واليوم يحذِّر المفكرون والسياسيون من أحداث عنف صاخبة ستصاحب الانتخابات الرئاسية القادمة سنة 2024م. فالرئيس الديمقراطي الحالي بايدن وشركات التكنولوجيا التي تقف خلفه لا يريدون إخلاء الساحة للجمهوريين، ولا الرئيس السابق ترامب والشركات الكبرى الداعمة له يريدون إبقاء الديمقراطيين في السلطة. وإذا كان عقلاء أمريكا يأملون بأن الجمهوريين سيختارون مرشحًا أكثر عقلانية من ترامب للانتخابات القادمة، فإن كل المؤشرات في أمريكا تشير إلى أن ترامب يخوض ومنذ اليوم معركته الانتخابية القادمة، ويعتبرها معركة مصير، وأن له من الشعبية الكبيرة لدى اليمين الأمريكي، وأن تياره «الترامبية» قد ازداد تنظيمًا في أمريكا بما يجعل من ترامب كمرشح الخيار شبه الوحيد للحزب الجمهوري، بل إن هذا التيار قد ازداد تسليحًا، والأخطر أن عقلاء أمريكا يحذِّرون من أن الجيش الأمريكي منقسم بشدة بما يهدد بأسوأ الاحتمالات سنة 2024م. ففي مقال في صحيفة واشنطن بوست، ونقلت مقتطفات منه إندبندنت عربية في 1/1/2022م عن ثلاثة جنرالات أمريكيين سابقين حذَّروا من (وجود اختراقات في صفوف الجيش الأمريكي، اختراقات أيديولوجية، تميل إلى جهة أنصار اليمين المتطرف وليس المتشدد فحسب… كانت تحذيرات عالية المستوى تصدر عن ثلاث رتب عسكرية عالية، بشأن احتمالات حدوث تمرد بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة في 2024م… في المقال يعرب الجنرال السابق بول إيتن، والجنرال السابق أنطونيو تاغويا، والجنرال السابق ستيفن إندرسون، عن مخاوفهم من تداعيات الانتخابات الرئاسية لعام 2024م واحتمال حدوث فوضى مميتة داخل الجيش الأمريكي، الأمر الذي من شأنه أن يضع جميع الأمريكيين في خطر شديد).

ومما يجدر ذكره أن إدارة بايدن التي تثقلها الأعباء الخارجية والداخلية لا تملك وقتًا كافيًا لعلاج هذه الأزمة الكبرى، خاصة وأن أنصار الرئيس السابق ترامب يستعدُّون ويتسلَّحون ويزدادون تنظيمًا، فصارت هذه الأزمة ومنذ حين مأزقًا استراتيجيًا كبيرًا أمام إدارة بايدن يقضُّ مضجعها.

وفي خطاب له بمناسبة الذكرى الأولى لاقتحام الكونغرس 6/1/2022م، أظهر الرئيس الأمريكي بايدن حنقًا شديدًا على الرئيس السابق ترامب وأتباعه، وكشف عن غيظ كبير، فهاجمه في بث مباشر نقلته قنوات عالمية مباشرةً واتهمه بالكذب مرات ومرات، وأغاظه بأنه ليس مجرد الرئيس السابق بل والرئيس المهزوم، فكان ذلك مناسبةً لإظهار شدة الانقسام والاستقطاب في أمريكا وأن الأزمة لم تنتهِ، بل وتجعل لها مناسبة للنيل من الخصوم.

هذه الأزمة الكبرى، والمأزق الخطير الذي تعاني منه أمريكا اليوم، والخوف من حرب أهلية قد تندلع سنة 2024م مع الانتخابات الأمريكية؛ لأنَّ أيًّا من المرشحين على الأرجح لن يسلِّم بهزيمته، وهذا الخوف من تفكك الدولة هو خوفٌ حقيقيٌّ في ظلِّ تنافرٍ كبير للمصالح، واختلاف التطلعات بين الديمقراطيين والجمهوريين، وتباعد المصالح بين الشركات الكبرى الداعمة لكل منهما، والدرجة العالية من العداء. واليمين واليمين المتطرف وتيار «الترامبية» وما يشبه سيطرة ترامب على الحزب الجمهوري والشعبية الكبيرة التي يتمتع بها ترامب في أوساط اليمين الأمريكي، والتسلُّح والزيادة فيه والانقسامات الخطيرة التي تطال ضباط الجيش الأمريكي، وانقسام الولايات بشكل واضح إلى ولايات جمهورية وأخرى ديمقراطية بحسب قوة الشركات الكبرى العاملة في تلك الولايات، وفي ظل تأثير الشركات الكبرى على الحكم بحيث تجعله خادمًا لها، نعم في ظلِّ كل ذلك فإن إدارة بايدن التي تعيش ذلك الكابوس الداخلي لا تملك الوقت والجهد الكافي لإتقان سياساتها في المنطقة الإسلامية؛ لذلك ترى أصواتًا في أمريكا تحذِّر من إهمال الإدارة الأمريكية للحل السياسي في سوريا مدةً طويلةً، وترى كذلك بأن موجة التطبيع للأنظمة العربية التي قادها الرئيس السابق ترامب لم يكملها الرئيس الحالي بايدن؛ لأن أهداف الأول كانت انتخابية، بل إن إدارة بايدن أبدت بعض التراجع عن سياسة ترامب وأعلنت بأنها ستعيد قنصليتها للقدس الشرقية، الأمر الذي رفضه يهود بما يزيد من تعقيد سياسة أمريكا للمنطقة، بمعنى أن السياسيين في واشنطن قد صارت لتحركاتهم في المنطقة الإسلامية دوافع أخرى بحكم الانقسام الداخلي والصراع الشديد على الحكم في أمريكا، وهذه الدوافع الجديدة تضعف أمريكا.

وإذا كانت أمريكا منشغلة بشكل كبير عن إتقان سياسات تحافظ على نفوذها في المنطقة الإسلامية، وتطلب لأجل ذلك من عملائها القيام بما يلزم، فإن الفشل هو المشاهد لعموم المشهد السياسي في المنطقة الإسلامية، فقد أبدى هؤلاء الحكام عداءً للإسلام لم يكن مكشوفًا بهذا العمق من قبل، وهذا يؤدي إلى إضعاف تأييد هؤلاء الحكام حتى من أنصارهم، فظهر علماء السعودية بشكل مخزٍ وحرجٍ في الدفاع عن مشاريع الترفيه لابن سعود، وظهر الحرج الكبير على أتباع السيسي مع حصاره لغزة وغمره لأنفاقها بالمياه، ومع محاكمته لرئيس سابق منتخب، وصارت أمريكا نفسها تواجه العقبات بشكل مباشر، وظهر الأمر في مفاوضات البرنامج النووي الإيراني في جنيف كرد فعل إيراني متصلِّب على اغتيال إدارة ترامب لقاسم سليماني قائد فيلق القدس، وهكذا أصبحت السياسة الأمريكية تسير بصعوبة وحرج ودون غطاءٍ ودعم وتناسقٍ في المنطقة الإسلامية.

النتيجة: ارتخاء فعلي لقبضة أمريكا على المنطقة

ومع كل تلك المآزق الاستراتيجية لأمريكا، فإن ارتخاءً صار يلاحظ على قبضة أمريكا على المنطقة واهتزازًا لنفوذها. فأمريكا غير قادرة على مساعدة أتباعها ورجالها، الأمر الذي ظهر على الليرة التركية التي رفعت عنها التسهيلات المالية الأمريكية بسبب ضعف أمريكا الاقتصادي وبعض سياسات ترامب، ما أوصل شعبية أردوغان إلى الحضيض، وكذلك شعبية حكام مصر والسعودية وباكستان وغيرهم، وقد حصلت بعض الأحداث ذات المدلول الكبير والتي لا يجوز على الإطلاق أن يُمــَــرَّ عليها مرور الكرام، ومن هذه الأحداث ما يلي:

 قام اليهود  بتهديد    المسجد الأقصى والتخطيط لاقتسامه، ونشبت على أثر ذلك حرب غزة الأخيرة 2021م، فكانت المشاهد السياسية مريعة للنفوذ الأمريكي وبشكل خطير، انتفاضة تجتاح المناطق العربية داخل الخط الأخضر، وسلطة رام الله على عتبة الانهيار أو كما سمَّاها نائب وزير الخارجية الأمريكي «غابة جافة تنتظر من يشعل بها النار» (خبر برس، 16/6/2021م)، ومتظاهرون غاضبون من لبنان والأردن يقتحمون الحدود، والمخفيُّ أعظم من بوادر تفجُّر الجيوش العربية المحيطة، وبالأخص باكستان في وجه الحكام ووجه كيان يهود.

أراد نظام بشار أن يفرض الأمر الواقع ويعيد بعض مناطق درعا تحت جناحه ليتفاجأ بنار شديدة تحت رماد الثورة السورية في حوران كادت أن تحيي الثورة من جديد لولا أن روسيا هبَّت لعقد مصالحات جديدة في درعا.

وأخيرًا وليس آخرًا، انهيار النظام العميل في أفغانستان بشكل شامل وكامل، وتبخُّر الجيش الأفغاني وعدم مقاومته لتقدم حركة طالبان التي سيطرت في أسابيع قليلة على كامل أفغانستان.

هذه الأحداث من العيار الثقيل تشير إلى أن قبضة أمريكا على المنطقة قد تراخت فعلًا وبشكل حاسم، وبغضِّ النظر عن مظاهر القوة الزائفة التي تُبديها أجهزة الأمن التابعة للحكومات العميلة في المنطقة الإسلامية فإن تلك الأحداث كنموذج أثبتت أن تلك الأجهزة، وفي كافة البلدان، ضعيفة للغاية، وأنها يمكن أن تسقط في أي لحظة سقوطًا مدويًّا شاملًا وكاملًا.

وحالة التفلت هذه من نفوذ أمريكا ومن سيطرة أتباعها تشكل ظرفًا فريدًا من نوعه يسهّل استجابة أهل القوة والمنعة لدعوات حزب التحرير لإقامة الخلافة الإسلامية الحقيقية وتوحيد الأمة الإسلامية في دولة واحدة. والظاهر أن المآزق الاستراتيجية لأمريكا في تزايد من حيث العمق، بل ومن حيث الكم، فاقتصاد أمريكا لا يمكِّنها من مساعدة عملائها، فقد أصرَّت إدارة ترامب سنة 2020م على تحصيل أتاوات من عملائها في السودان الفقير تحت ذرائع العمليات في كينيا سنة 1998م، أي أنها تطلب خدمات كبيرة وكثيرة حتى من أضعف عملائها بما لا يطاق. هذا وباقي المؤشرات الأخرى تدل على تعمق أزمات أمريكا الدولية وأزماتها المحلية، وكل ذلك يؤدي إلى إضعاف عملائها بحيث يقلَّ أتباعهم يومًا بعد يوم، وأتباع اليوم الذين يقفون مع الحكام خلف الزناد ينقسمون إلى باحث عن ملجأ كما حدث لعملاء أمريكا في مطار كابل، وإلى متمردٍ في الغد القريب أو صامتٍ لا يملك من الإرادة ما يحمله على مقاومة المدِّ الإسلاميِّ العظيم.

وعندما يحصل الانفلات في بلد إسلامي واحد فإن انهيار الحكم فيه سيكون قطعًا كما انهارت حكومة أشرف غاني العميلة في أفغانستان، أي انهيارًا سريعًا وشاملًا وكاملًا. وإذا كان السياسيون المخلصون من دعاة الإسلام ودعاة الخلافة يرَون الصعوبات التي وضعتها أمريكا كعقبات أمام توحيد البلاد الإسلامية، فإن الظرف الحالي قد يجعل من توحيد جلَّ البلاد الإسلامية مسألة مئة يوم فقط بعد أن ينهار أي حاكم على أثر استجابة ضباط جيشه لدعوات إقامة حكم الله في الأرض وإعلاء دينه التي يقوم بها حزب التحرير، ويسهر عليها في طول البلاد الإسلامية وعرضها، (وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤
بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *