العدد 425 -

السنة السادسة والثلاثون، جمادى الثاني 1443هـ الموافق كانون الثاني 2022م

من الذي أورى نار المعادلات والقوانين الفيزيائية وبثها في الكون الحقيقي؟

ثائر أحمد سلامة – كندا

يعيش الإنسان في هذه الدنيا متعلمًا، مستخدمًا حواسه لنقل صورة العالم الخارجي وما فيه من مجاهيل تحتاج لسبر أغوارٍ إلى دماغه، عبر وسائل الإحساس من سمع وبصر وغيرها ليتفكر ويتفاعل؛ وذلك أن الإنسان، أي إنسان، ترد عليه أسئلة خطيرة مهمة تلح عليه بالبحث عن أجوبة عليها، وتشكل لديه عقدةً لِطَبيعةِ أغوارِها العميقةِ، ومن أكبر هذه العقد، تساؤلات الإنسان الكلية عن الوجود، أي عن الكون والإنسان والحياة، مصدرها ومصيرها، وصلتها بما قبلها وما بعدها، وما الغاية من وجودها، والوظيفة التي وجدت من أجلها،

هل وجد الكون ليكون مضيافًا للحياة؟ وما هي وظيفة الإنسان في هذا الكون؟ وما الغاية من خلقه وإيجاده؟ وما هي صلته بالوجود وما هي صلة الوجود به؟

لماذا يتعين أن يكون هناك شيء ما، بدلًا من العدم أو اللاشيء؟ كيف ترجَّحت كفة الوجود على كفة العدم؟ خصوصًا في ظل برهنة العقل والعلم تمامًا على أن الكون، مادةً وطاقةً وزمانًا ومكانًا قد بدأ قبل بضعة مليارات من السنين لم يكن قبلها شيئًا مذكورًا! (حوالى 13.82 ألف مليون سنة).

كيف ظهر الكون (الذي نعني به كل الموجودات الفيزيائية) لحيِّز الوجود؟

هل يسير الكون العظيم وفق مخطط كوني، أم سيرًا عشوائيًا؟

من الذي أورى نار المعادلات والقوانين الفيزيائية وبثها في الكون الحقيقي؟ وهذا السؤال من أخطر الأسئلة وأهمها، إذ ينشأ عنه سؤال: لماذا يتبع الكون هذه القوانين ويجري بناء عليها، منذ اللحظة الأولى التي نشأ الكون فيها؟ أي أنه محكوم بها وكأنها مخطط مسبق متسق للأشياء[1]!

ضرورة كونية لسير العمليات الكيميائية والفيزيائية

إذ بفضلها فإن الكيمياء المعقدة في الكون تستطيع أن تعمل، وتستطيع الهياكل الفيزيائية الفلكية (astrophysical structures) التي يتشكل منها الكون، من نجوم ومجرات، وعناقيد، وعناقيد فائقة، أن تتشكل وتستقر، وبفضل أنها منضبطة بدقة تامة كانت عمليات تخليق العناصر التي تتم في أعماق النجوم عبر الاندماج النووي ممكنة.

لماذا هذه القوانين تحديدًا وليس غيرها؟ ولماذا ضبطت بهذه المقادير لا بغيرها؟

وتوقفت العمليات التي أفضت إلى كون صديق للحياة، يدعم نشوءها واستمرارها واستقرارها، على نظام معقد من التعيير المنضبط الدقيق المحكم لمقادير القوى والمجالات والطاقات، وللمعايير (المحددات، المعالم، المتغيرات الوسيطة) الكونية cosmological parameters، والثوابت الكونية الأساسية fundamental constants، التي تصف القوانين الفيزيائية والتي تحدد خصائص كوننا ضمن نطاقٍ من القيم الدقيقة المعينة، وفي إطار ضيق من التباين المسموح به في قيم وعلاقات القوى والحقول والثوابت والخصائص والعمليات الفيزيائية للمادة والطاقة؛ بحيث يكون الخروج عن إطار ذلك الضبط والتعيير المنضبط الدقيق المحكم، أو الخروج من نطاق ذلك التباين المسموح به مؤذنًا باستحالة نشوء واستمرار الكون، أو استحالة نشوء واستمرار الحياة. وتوقفت تلك العمليات والتفاعلات السببية بين القوى وبين المادة والطاقة أيضًا على اختيار خصائص معينة محددة في الجسيمات أمدتها بهوية معجزة، من كتل وشحنات وعزم مغزلي، معيرة بدقة بالغة، وجعلتها تخضع لها، وتسير وفقًا لها، وتتميز بها!

وهذه القوانين تتسم بأنها تنظم سير تلك العمليات الفيزيائية والكيميائية في الكون -من الذرة إلى المجرة- سيرًا منظمًا بدقة حسابية رياضية متناهية، وبصورة شاملة مترابطة تربطه بعضه ببعض، بل وبضرورة فيزيائية لا تملك الخروج عنها ولا تعديلها، الأمر الذي وصفه آينشتاين بـ«الفكر الـمُجَسّم»، وتسيره بصورة متناظرة، بل في الواقع، هذه القوانين «تصف الكون» على حد تعبير ستيفن هاوكنج! أو هي الضمانة لسير الكون سيرًا منتظمًا،[2]

تنوع هائل لحالات معقدة تنضبط بنفس القوانين من الذرة إلى المجرة!

يقول البروفيسور باول ديفيز: «البحث العلمي هو رحلة في المجهول، وكل تقدمٍ يجلب معه اكتشافات جديدة غير متوقعة، كما أنه يتحدى عقولنا بمفاهيم غير عادية، وصعبة أحيانًا، ومن خلال هذا كله يستمر المسار المألوف للعقلانية والنظام، فهذا النظام الكوني –  كما سنرى – محكوم بقوانين رياضية محددة تتداخل مع بعضها لتشكل وحدة منسجمة بارعة، فالقوانين محكومة ببساطة أنيقة، وغالبًا ما تزكي نفسها إلى العلماء على خلفيات الجمال، مع ذلك، تسمح هذه القوانين البسيطة للمادة والطاقة أن تنظم نفسها في تنوع هائل لحالات معقدة، من بينها حالات نوعية للوعي، وتستطيع – بدورها أن تنعكس على النظام الكوني ذاته الذي أنتجها.»[3]

قال باول ديفيز: «إن الشيء المدهش بالنسبة لعلم الفيزياء هو المدى الذي يمكن فيه استقراء بعض نظرياته، فعلى سبيل المثال تقدم نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية وصفًا رائعًا حول الخصائص الكهرومغناطيسية ضمن الذرات، ولكنها تنطبق أيضًا على الحقول المغناطيسية بين المجرات التي يكون نصف قطرها أكبر بـ 10 ^32 مرة، إنها تصف تأثيرات الحقول المغناطيسية الضئيلة على الأشعة الكونية في الفضاء بين المجرات وتصرف النجوم المنهارة التي تدعى بالنجوم المغناطيسية Magnetars أيضًا لأنها تدعم حقولًا مغناطيسية أقوى بـ 10 ^ 20 مرة».[4]

وفوق هذا، يقول باول ديفيز: «إن علامة القوة في القانون أنه يذهب إلى ما وراء البعد الإيماني في وصف أي ظاهرة أو طريقة شرحها، ويقوم بربطها مع غيرها من الظواهر، وعلى سبيل المثال، فإن قانون نيوتن عن الجاذبية يمدنا بحساب دقيق لحركة الكواكب، كما يشرح لنا ظاهرة المد في المحيط، وشكل الأرض، والحركة التي يجب أن تسير عليها السفن الفضائية، وكثير غيرها، ونظرية الكهرومغناطيسية لماكسويل ذهبت بدورها بعيدًا عن مجرد وصف الظاهرة الكهربية أو الظاهرة المغناطيسية؛ حيث شرحت لنا أمواج الضوء، وتنبأت بوجود أمواج الراديو، وهكذا تقوم القوانين الأساسية والحقيقية ببناء روابط عميقة بين العمليات الفيزيائية المختلفة، وتاريخ العلم يكشف لنا أنه بمجرد قبول قانون جديد يبدأ البحث عما يترتب على هذا القانون، ويخضع القانون نفسه للاختبار من خلال مشاهدات، وإنه من المعتاد أن يؤدي ذلك إلى اكتشاف الجديد وغير المتوقع والظواهر الهامة، وكل ذلك يقودني إلى الاعتقاد بأننا نكتشف من خلال العلم المُرَشَّد جيدًا الاضطرارات الحقيقية والروابط الفعلية، وأننا نقرأ الاضطرارات الحقيقية والروابط هذه في الطبيعة ولا نضعها أو نكتبها فيها»

قوانين فيزيائية واحدة تضمن أن يكون هناك كون بدلًا من أن تكون هناك فوضى وعشوائية!

إن هذه القوانين – على حد تعبير باول ديفيز «هي أشياء حقيقية، ليست بالطبع أجسامًا مادية؛ ولكن علاقات مجردة بين مكوِّنات فيزيائية؛ لكن المهم أنها توجد علاقات حقيقة «هناك» في العالم، وليست في عقولنا فقط»![5] كذلك – والتعبير لديفيز أيضًا: «فالنجوم والمجرات التي تقع بلايين السنين الضوئية بعيدًا عنا تشبه كثيرًا تلك الموجودة بالقرب منا، وتتوزع بالطريقة نفسها في كل مكان، كما أن تركيبها وحركتها متشابهة، وتبدو قوانين الفيزياء واحدة إلى أبعد مكان في الفضاء يمكن أن تخترقه أجهزتنا، وباختصار: فهناك كون بدلًا من فوضى[6]

ماذا لو أخمدت إحدى القوى الأساسية في الكون أو تغير أحد الثوابت الكونية؟

بل إن هايزنبرج، وهو أحد أهم أساطين فيزياء الكم، يقول: «لو تم إخماد القوة المغناطيسية التي لطالما كان يهتدى على أثرها بهذه البوصلة إلى الأبد – وأيا كان مصدرها، سواء هذا النظام المركزي أو لا – فإنه سيحدث للبشرية بأكملها أشياء أكثر مأساوية وفظاعة من معسكرات الاعتقال النازية أو القنابل الذرية»[7]

قوانين كونية، مطلقة، شاملة، لا استثناءات فيها!

ثم يضع ديفيز سمات للقوانين منها:

أولًا: القوانين تعتبر عالمية منذ البداية وحتى النهاية، فالقانون الذي يعمل فقط في مكان دون الآخر ليس قانونًا جيدًا، القوانين الكاملة هي التي لا تفشل في أي مكان من الكون وفي أي عصر من التاريخ الكوني، أي التي لا يسمح فيها بأية استثناءات.

ثانيًا: القوانين مطلقة، بمعنى أنها لا تعتمد على أي شيء آخر، وبصفة خاصة، فهي لا تعتمد على من يلاحظ الطبيعة، أو على الحالة الحالية للعالم، فالحالات الفيزيقية هي التي تتأثر بالقوانين وليس العكس….الخ»[8]

إذن: من الذي أورى نار المعادلات والقوانين الفيزيائية وبثها في الكون؟

والعجيب بعد هذا الإيمان الصارم بوجود النظام الدقيق في الكون أن تجد عزو ذلك إلى العشوائية والمصادفة، أو أن يكون من غير فاعل قدر كل ذلك الانتظام، وأن يتم التساؤل بعده عن دليل على وجود: «التصميم الذكي الحكيم الغائي»!

ثالثًا: إن وجود أي خطأ في الاستدلال والتوصيف إنما يعزى إلى بشرية العلم، ولا يعزى إلى القوانين الكونية نفسها، فهي فوق أي احتمال لوجود أي خطأ أو تناقض أو عدم انتظام، وهو ما يدفعنا لوضع القاعدة التالية بكل ثقة: إن القوانين الكونية هي إلهية المنشأ، فهي خالية من الخطأ أو التناقض، وإن الأخطاء العلمية هي بشرية المنشأ، فلا تغير الأخطاء العلمية من طبيعة عصمة ودقة القوانين والأنظمة الكونية، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وإن النظريات العلمية قاصرة عن الوصول لجوهر الحقائق الكونية بدقة لبشرية منشئها!

حتى إن ستيفن هاوكينج، أنهى كتابه الأكثر مبيعًا: (تاريخ موجز للزمن) بهذه الفقرة: «إن اكتشفنا نظرية كل شيء، ففي هذا الوقت سيتعين على الجميع فهمها، ليس فقط مجموعة محدودة من العلماء. وعليه سنتمكن جميعًا، كفلاسفة وعلماء وعامة من المشاركة في مناقشة مسألة: لمَ وجدنا نحن والكون؟ إذا وجدنا الإجابة عن هذا السؤال، سنكون حينها قد حققنا أقصى انتصار للفكر الإنساني؛ ومن ثم سنعرف عقل الإله».

في الصفحة السابقة يتساءل: «حتى لو أن هناك نظرية متكاملة واحدة فقط ممكنة، فستكون فقط مجموعة من القوانين والمعادلات. ما الذي نفخ النار في المعادلات ليُصنع منها كونٌ تصفه؟»

كان لدى هاوكينج الكثير لقوله في مقابلات لاحقة: «للترتيب المتناسق للكون تأثير ساحق. فكلما استكشفنا أكثر عن الكون، وجدنا أنه محكوم بقوانين عقلانية». و»يظل لديك التساؤل: لم كلف الكون نفسه مشقة الوجود؟ وإذا رغبت، تستطيع أن تجعل من وجود الإله الإجابة لهذا السؤال.»[9]

[1]  يقول ألبرت آينشتاين: « «لست ملحدًا، ولا أعتقد أنه يمكن أن اعتبر نفسي من أتباع وحدة الوجود؛ مثَلُنَا كَمَثَلِ طفلٍ صغيرٍ يدخل مكتبةً ضخمةً مليئةً بالكتب المكتوبة بالعديد من اللغات، يعرف الطفل أن ثمة شخصًا قد كتب كل تلك الكتب، لكنه لا يعلم الكيفية ولا يفهم حتى اللغات المكتوبة، يشك الطفل في وجود منظومة غامضة المعالم من خلال الترتيب متناهي التناسق لتلك الكتب، لكنه لا يعرف ماهيتها؛ ذلك، يبدو لي، مَسْلَك أكثر إنسان ذكاءً في تفكيره تجاه الإله! نحن نرى الكون مرتبًا بشكل مدهش ويُسَيَّر وفق قوانين معينة، لكن، وعلى نحو غامض، القليل منا يفهم تلك القوانين، تلتقف عقولنا المحدودة القوة الغامضة التي تحرك البروج” المرجع: “ هناك إله، كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره، أنتوني فلوـ، ترجمة جنات خالد مركز براهين ص 104-105

Jammer, Einstein and Religion, 45–46.

[2]   في رده على نقد ريتشارد دوكينز لاحتجاجه بالتصميم، أفرد سوينبرن نقطة ذات صلة فقال: «ما هو قانون الطبيعة؟ (تلك قضية لم يتطرق إليها أي ممن انتقدني) والقول إن قانون الطبيعة أن تسلك كل الأجسام اتجاهًا بعينه (مثلا: تتجاذب فيما بينها وفق صيغة معادلة معينة) هو في وجهة نظري كالقول بأن كل جسم يسلك ذلك الاتجاه بعينه كضرورة فيزيائية (مثلًا: تتجاذب كل الأجسام بتلك الطريقة ذاتها). وأبسط لنا أن نفترض أن هذا الاتساق ينشأ من جوهر واحد، وهو السبب في أن كل الأجسام تسلك نفس الطريقة، على أن نفترض أن سلوك كل الأجسام لنفس الطريقة المُوحدة مجرد حقيقة عمياء”أنظر: هناك إله، كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره، أنتوني فلوـ، ترجمة جنات خالد مركز براهين ص 113

[3]  التدبير الإلهي، الأساس العلمي لعالم منطقي، باول ديفيز، ترجمة محمد الجورا. مراجعة علمية: د. جهاد ملحم. ص 14

[4]  الجائزة الكونية الكبرى، لماذا الكون مناسب للحياة، Why our universe is just right for life، باول ديفيز ترجمة د. سعد الدين خرفان، ص 105

[5]   الجائزة الكونية الكبرى، لماذا الكون مناسب للحياة، Why our universe is just right for life، باول ديفيز ترجمة د. سعد الدين خرفان، ص 26

[6]           الجائزة الكونية الكبرى، لماذا الكون مناسب للحياة، Why our universe is just right for life، باول ديفيز ترجمة د. سعد الدين خرفان، ص 34

[7]   المرجع: “ هناك إله، كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره، أنتوني فلوـ، ترجمة جنات خالد مركز براهين ص 107

[8]   باول ديفيز، الاقتراب من الله بحث في أصل الكون وكيف بدأ، The Mind of God ترجمة منير شريف ص 101-103

[9]    المرجع: “ هناك إله، كيف غير أشرس ملاحدة العالم أفكاره، أنتوني فلوـ، ترجمة جنات خالد مركز براهين ص 103

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *