العدد 425 -

السنة السادسة والثلاثون، جمادى الثاني 1443هـ الموافق كانون الثاني 2022م

قراءة جيوستراتيجية في بذور وجذور تغلغل النفوذ البريطاني في بلاد المغرب من أدناه إلى أقصاه (2)

مناجي محمد

الصراع البريطاني الأمريكي على بلاد المغرب:

بعد الحرب العالمية الثانية والآثار الكارثية لأربع سنوات من الاحتلال الألماني على السياسة الاستعمارية الفرنسية، مع التحكم السياسي البريطاني في قرار قوات المقاومة الفرنسية، كانت الحصيلة ضربًا للنفوذ الفرنسي في كل من الجزائر وتونس والمغرب، وانتهت الحرب العالمية الثانية وقد أحكمت بريطانيا قبضتها ونفوذها على هذه البلاد، ساعدها على ذلك ضعف وهوان فرنسا السياسي، وحيرة وارتباك وإخفاق السياسة الأمريكية بعد خروجها من عزلتها لجديد الساحة الدولية عليها، واستمر الوضع حتى منتصف القرن العشرين؛ ولكن بعد سنة 1950م، اختلف الوضع وتغير بشكل جذري وبرز الصراع الاستعماري الأمريكي البريطاني بشكل جليٍّ، ترجمته الحروب المحلية والانقلابات والمؤامرات والمناورات، وظل الصراع يشتد فترة ويخف أخرى حتى استطاعت أمريكا أخذ زمام المبادرة فانكفأت بريطانيا جرَّاء ضعفها على مواجهة أمريكا علنًا، وحرصت على الحفاظ على مستعمراتها بالاشتراك معها في مشاريعها ومزاحمتها في السياسة الدولية متى استطاعت. ولم يكن غرب البلاد الإسلامية في منأى عن هذا التنافس والصراع الأمريكي البريطاني.

أما بالنسبة إلى المغرب، فقد كان مؤتمر (آنفا) بالمغرب عام 1943م نافذة أمريكا على غرب البلاد الإسلامية حيث كان لرئيسها روزفلت دور بارز فيه؛ إذ دعا لتنفيذ بنود ميثاق الأطلسي الذي وقَّعه الحلفاء في 18 كانون الثاني/يناير 1941م والقاضي بالدفاع عن حق الشعوب في استقلالها وتقرير مصيرها، ثم أصبحت فيما بعد فكرة الاستقلال أسلوبًا سياسيًّا أمريكيًّا للنفاذ إلى مستعمرات أوروبا. اهتمت أمريكا بالمغرب لموقعه الجغرافي الاستراتيجي، فكان لقاء الرئيس الأمريكي روزفلت بالملك محمد الخامس خلال مؤتمر (آنفا) ثم اللقاء الثنائي على مأدبة العشاء التي كانت لقاء ثنائيًا بين الرجلين في 22 كانون الثاني/يناير 1943م بداية لاختراق أسوار القصر ونسج خيوط العلاقة الخاصة بساكنه، ثم بعدها ركَّزت أمريكا وجودها العسكري ببلاد المغرب عام 1950م عبر قواعدها العسكرية البحرية والجوية (القاعدة الجوية بالقنيطرة وقاعدة بوقنادل قرب سلا وقاعدة بنجرير…)، ثم اخترقت جيوب الثوار ضد فرنسا عن طريق المساعدات العسكرية ومدهم بالسلاح عبر قواعدها حقيقة أكدها ثوار مدينة الدار البيضاء، ثم توطَّدت العلاقة بين عبد الناصر عميل أمريكا والملك محمد الخامس؛ حيث سُجل تنسيق تام من خلال إنشاء مركز خاص بجيش التحرير المغربي ونظيره الجزائري بمدينة الناظور شمال المغرب، ثم إنزال السلاح المصري من السفينة «دينا» بميناء الناظور عام 1955م، وبعدها وطَّدت العلاقة بالقصر، ثم كانت زيارة الملك محمد الخامس للولايات المتحدة الأمريكية في 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1957م، والتي تم فيها ربط المغرب بالنفوذ الأمريكي، وتم الاتفاق على إثرها مع ملك المغرب محمد الخامس على تسليم طائرات مقاتلة أمريكية للمغرب، وأن يتم إرسال أفواج من الطيارين المغاربة لإجراء التدريب عليها بالولايات المتحدة الأمريكية، وما يرافق هذه المساعدات العسكرية من قروض لشراء الأسلحة وما يستتبعها من شروط سياسية والتزامات تجاه أمريكا. ثم بعد الزيارة أوفدت أمريكا سفيرها المخضرم شارلز يوست، وكان من أبرز موظفي الخارجية الأمريكية ومؤسس السفارة الأمريكية ومصالحها وموظفيها في كل من سوريا ومصر، واعتبر كخبير في القضايا العربية، وكان اختياره وانتقاله للمغرب مؤشرًا على النفوذ الأمريكي الذي استجدَّ في بلاد المغرب، وكان إرسال سفير من هذا العيار هو تركيزًا للنفوذ، فقد كان قدومه إلى المغرب سنة 1958م كما كتبت جمعية موظفي الخارجية الأمريكية توصيفًا للسفير شارلز يوست أنه كان جزءًا من الحل، والحل هنا هو السيطرة على البوابة الغربية للبحر الأبيض المتوسط. فسرعان ما أصبح الرجل صديقًا للقصر طوال مدة سفارته (1958-1961)م؛ حتى نقل عن قدماء موظفي السلك الدبلوماسي الأمريكي نقلًا عنه «أن الملك محمد الخامس كان يجالسه بعيدًا عن الرسميات ويدعوه لشرب الشاي ويتناول معه قضايا وسياسات البلد». وتنفيذًا للاستراتيجية الأمريكية في جعل المغرب نقطة ارتكاز للنفوذ الأمريكي في غرب المتوسط عبر الاتفاقيات العسكرية وسياسة المساعدات، وهكذا تم ربط سلاح الجو المغربي عام 1960م بأمريكا حيث كان مجهزًا بالكامل بأسطول من المقاتلات الحربية الأمريكية، فضلًا عن القواعد العسكرية البحرية والجوية الأمريكية بالمغرب، ثم كانت سياسة المساعدات التي اعتمدتها أمريكا كأسلوب استعماري وأدارها السفير الأمريكي بالمغرب ابتداء من 1959م، كالمساعدات الغذائية لمواجهة الجفاف الذي ضرب المغرب، ثم المساعدات التي أشرف على توزيعها الجنود الأمريكيون بقاعدة القنيطرة على المدارس والقرى المجاورة للقاعدة في الستينات. ثم كان ذلك التنسيق التام بين عبد الناصر والملك محمد الخامس في اجتماع 1960م بالبيضاء للشروع في إنشاء منظمة الوحدة الأفريقية واستقبل عبد الناصر استقبال الأبطال، واستمر النفوذ الأمريكي مستحكمًا حتى موت الملك محمد الخامس عام 1961م، بعدها انتزعت بريطانيا المغرب من أمريكا وأعادته إلى دائرة نفوذها بعد تولي الحسن الثاني حكم البلد، ومن دلائل هذا التحول إيفاد الملك الحسن الثاني أخته الأميرة عائشة إلى بريطانيا لعقد اتفاقية جوية مع لندن في 22 تشرين الأول/أكتوبر 1965م، ثم تولت منصب السفير لدى بريطانيا لحساسية العلاقة، ثم شرعت بريطانيا في تصفية النفوذ الأمريكي بالمغرب باقتلاع وجوده العسكري من البلاد، فكانت سياسة الملك الحسن الثاني خلال الستينات إجلاء القواعد الأمريكية عن المغرب، وكان الإجلاء هو موضوع لقاء الملك الحسن الثاني بالرئيس الأمريكي كينيدي عند زيارته لأمريكا في آذار/مارس 1963م، وكشفت المحادثات عن طبيعة العلاقة المتوترة عبَّر عنها تصريح الملك الحسن الثاني «… تمنى أن تجمع البلدين علاقة تعاون حقيقية غير أنانية»، ثم كانت حرب الرمال بين الجزائر والمغرب عام 1963م، ومساندة عبد الناصر لبن بيلا؛ حيث تم اعتقال ضباط مصريين بعد تعطل مروحيتهم ونزولهم الاضطراري قرب مدينة فكيك شرق المغرب، وكانت حرب الرمال لعام 1963م صراعًا أمريكيًّا بريطانيًّا بأدوات عسكرية محلية. ثم كانت زيارة وزير الخارجية المغربي أحمد الطيب بنهيمة لأمريكا عام 1965م والتقى وزير الخارجية الأمريكي، وكان الموضوع الأساس للزيارة واللقاء هو جلاء القواعد الأمريكية عن المغرب. وفي نهاية الستينات دخلت العلاقات المغربية الأمريكية نفقًا ضيِّقًا وتزايدت المطالبات بفرض قيود جديدة على القواعد الأمريكية سعيًا لإجلائها طوال سنة 1970م؛ غير أن الأمريكان كان لهم رأي آخر، ففي 10 تموز/يوليو 1971م، كان للقصر موعد مع أكبر حدث في تاريخه، المحاولة الانقلابية الأولى، ثم بعد فشلها كانت المحاولة الانقلابية الثانية في 16 آب/أغسطس 1972م والتي نفذها الجنرال أوفقير عن طريق سلاح الجو انطلاقًا من القاعدة الأمريكية بالقنيطرة وفشلت هي الأخرى، وكانت أمريكا ضالعة في المحاولتين وذلك الذي أكدته مراسلات السفير الأمريكي بالرباط روكويل ستيوارت إلى وزير خارجية بلاده ووزير الدفاع، والتي تم الكشف عنها بعد أن رفع عنها طابع السرية في 6 أيلول/سبتمبر 2007م، جاء فيها عن اتصال الجنرال أوفقير بالأمريكان وترحيبه بالوجود العسكري الأمريكي في المغرب، ونقل عنه في محادثة مع مسؤول في الجيش الأمريكي قوله بشأن القاعدة الأمريكية بالقنيطرة «طالما أنا هنا فلن تكون لديكم مخاوف بشأن القواعد الأمريكية الموجودة على التراب المغربي» في خلاف وتصادم تام مع سياسة القصر في التخلص من القواعد الأمريكية.

هكذا وبعد فشل المحاولتين الانقلابيتين أصبح الطريق إلى المغرب مغلقًا أمام أمريكا، إلى أن وجدت الفرصة في قضية الصحراء المغربية وحركة البوليساريو لمحاولة اختراق الجدار المغربي من جديد، وكانت الأمم المتحدة وبتأثير من أمريكا قد شكلت بعثة تقصي الحقائق وأرسلتها إلى الصحراء المغربية، ورفعت هذه البعثة تقريرها إلى الجمعية العامة في 9 تموز/يوليو 1975م توصي باستقلال الصحراء عن إسبانيا، وتضيف أن منظمة البوليساريو هي الحركة المسيطرة في الإقليم ولها تأثير معتبر فيه. وهكذا أبرزت أمريكا البوليساريو ودعمتها كممثل للشعب الصحراوي، وكان الغرض من ذلك إيجاد بؤرة توتر تستغلها أمريكا لمصالحها في الشمال الأفريقي وفي البوابة الغربية للمتوسط، ثم بعدها بدأت أمريكا بالتدخل الفعلي عن طريق تأثيرها في إصدار قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالصحراء، وما زالت ذيول تداعياتها مستمرة حتى اليوم وإن لم تحدث تحوُّلًا وتغُّيرًا في النفوذ.

ثم كان موت الملك الحسن الثاني في 23 تموز/يوليو 1999م وتولي محمد السادس حكم البلاد، واستمر معه النفوذ البريطاني مهيمنًا، وكان لتعيينه عند توليه سفيرة من عائلة الملك ابنة عمته جمانة العلوي لدى بريطانيا، والتي لم تعرف بأي نشاط دبلوماسي أو سياسي أو إداري من قبل، كان لهذا التعيين دلالة على استمرارية الارتباط الخاص والنفوذ البريطاني بالمغرب.

ثم كان الربيع العربي وثوراته وتداعياته على النفوذ البريطاني في ليبيا بعد أن قطعت أمريكا يد وذراع بريطانيا معمر القذافي في طرابلس الغرب وأفريقيا، فقد كان القذافي من قبل يقوم بتنفيذ السياسة البريطانية وبعض من الأوروبية مع مهاجمة السياسة الأمريكية في أفريقيا. وبعد قتله، خلفه الملك محمد السادس فكلف بالمهمة الأفريقية من بريطانيا وبتأييد من فرنسا لمجابهة الخطر الأمريكي الذي يتهدد مصالح البلدين، فكان لقاء الملك محمد السادس وعمدة الحي المالي بلندن اللورد فيونا وولف بقصر تطوان في حزيران/يونيو 2014م لوضع التفصيلات العملية للسياسة المالية الأفريقية عبر خلق التناسق بين المؤسسات المالية المختلفة والحي المالي بلندن، وحسب بلاغ للديوان الملكي «تشكل الزيارة مناسبة لتطوير التعامل وخلق تناسق بين المؤسسات المالية للبلدين بهدف تنمية أنشطتها الاقتصادية، وبما يعود بالفائدة على القارة الأفريقية»، وتم التوقيع على ثلاث اتفاقيات بين سوق لندن للأوراق المالية وبورصة الدار البيضاء، وكانت زيارات الملك محمد السادس للدول الأفريقية وتوجيه بوصلة السياسة الخارجية نحو أفريقيا هو جزء من الاستراتيجية البريطانية، وكان الهدف من التوجه الأفريقي قطع يد أمريكا عن الصحراء وحشد إجماع أفريقي حول مبادرة الحكم الذاتي كحل نهائي دون تقرير المصير أو الانفصال عن المغرب، والأمر الثاني توقيع مشاريع اقتصادية لربط أفريقيا بالنفوذ البريطاني وبعض منه الأوروبي لقطع الطريق أمام أمريكا التي اعتادت الولوج منه إلى النفوذ في أفريقيا.

ثم كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست» وتداعياته على سياستها، فكانت زيارة كاتب الدولة البريطاني المكلف بالتنمية الدولية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أندرو موريسون للمغرب في أيلول/سبتمبر 2019م على رأس وفد مهم في إطار الدورة الثانية للحوار الاستراتيجي البريطاني المغربي الذي انعقد بالعاصمة الرباط لتأطير العلاقات لما بعد مرحلة البريكست، أكد وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة حينها أن «العلاقات المغربية البريطانية تتجه نحو إرساء شراكة استراتيجية حقيقية». فجراء البريكست والصراع البريطاني الأمريكي المحموم على ليبيا، تسارعت خلال أواخر العقد الثاني من هذا القرن وتيرة الاتفاقيات والعقود والاكتشافات والتنقيب والاستخراج والتسويق للشركات البريطانية بالمغرب، سواء في قطاع الطاقة (النفط والغاز والزيت الصخري) أو المعادن النفيسة (الذهب والفضة والأحجار النفيسة) أو المعادن النادرة المستعملة في التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي أو المناجم… في صراع بريطانيا مع الزمن لربط المغرب بسلاسل من فولاذ بالاستعمار البريطاني ونفوذه تحسبًا للهجمة الأمريكية الاستعمارية الشرسة على المنطقة وخطرها على نفوذها.

وهكذا فالنفوذ البريطاني في بلاد المغرب حتى يومنا هذا متجذر ومتغلغل.

 أما الجزائر، وبعد أخذ أمريكا لزمام المبادرة بعد عام 1950م وانكفاء بريطانيا جراء ضعفها، فقد اخترقت أمريكا الجزائر بعد أن جند عميلها عبد الناصر بمصر أحمد بن بيلا بعد لقاء القاهرة في آب/أغسطس 1953م، وتم الاتفاق على إطلاق شرارة الثورة الجزائرية من مصر، وتعهد عبد الناصر بوضع إمكانات مصر خلفها، وأنشئ مكتب جيش التحرير بالقاهرة تحت إشراف المخابرات المصرية، وكان يشرف على التكوين السياسي والفكري للشباب الآتي من الجزائر ثم بعدها التدريب على السلاح في المعسكرات المصرية، وفي شباط/فبراير 1954م بدأ تهريب السلاح من مصر إلى الجزائر عبر صحراء ليبيا، وفتحت معسكرات لتدريب الثوار الجزائريين على السلاح في غزة، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1954م بدأ العمل المسلح ضد الفرنسيين، ثم شارك بن بيلا في تأسيس جبهة التحرير الوطني عام 1954م واندلاع ثورة التحرير، وتم دعمه وتلميعه حتى أضحى رمزًا وقائدًا لثورة فاتح تشرين الثاني/نوفمبر، ثم تولَّى رئاسة أول حكومة بعد خروج العساكر الفرنسيين من الجزائر في 29 أيلول/سبتمبر 1962م، وبعدها كانت زيارة أحمد بن بيلا لأمريكا في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1962م ولقاؤه بالرئيس الأمريكي جون كيندي، وكانت الزيارة بمثابة إعلان لبداية النفوذ الأمريكي على الجزائر، ثم بعدها صار رئيسًا للجزائر في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1963م.

إلا أن بريطانيا اخترقت دائرة الحكم بالجزائر، وجندت عن طريق الحسن الثاني رجالات من مجموعة وجدة (وهي مجموعة من الضباط والسياسيين من الجزائر تشكَّلت حول العقيد هواري بومدين الذي فرَّ من التجنيد في الجيش الفرنسي، واتخذت من مدينة وجدة في الشرق مقرًّا لها فترة (1954-1962)م وكان منهم قائد الجيش ووزير الدفاع هواري بومدين، وقائد الأركان وقائد المنطقة العسكرية الأولى طاهر الزبيري، فانفجر بعدها الخلاف بين بومدين وبن بيلا بعد انعقاد مؤتمر جبهة التحرير في 14 نيسان/أبريل 1964م حول حكم الجزائر، أهو للجيش أم للحزب؟. وفي مساء 18 حزيران/يونيو 1965م أطيح ببن بيلا عبر انقلاب مطبوخ من بريطانيا، وهكذا اقتلعت بريطانيا النفوذ الأمريكي بالجزائر واستبدلت به نفوذها. فمع انقلاب بومدين استحكم النفوذ البريطاني في الجزائر، ثم ظهرت بعض النتوءات الفرنسية في زمن ضعف الرئاسة حين تولى الرئيس الشاذلي بن جديد حكم الجزائر، وطفح أثرها على السطح فكان انقلاب 1992م الذي دبرته فرنسا للحيلولة دون وصول جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم، ثم تلتها العشرية السوداء حيث ولغ عملاء فرنسا في دماء أهل الجزائر بتوجيه من الاستخبارات الفرنسية، واستمرت الأوضاع في التدهور ولم يستقرَّ لفرنسا قرار ولا نفوذ في الجزائر. وفي سنة 1999م، سلم عملاء فرنسا الحكم لبوتفليقة رفيق درب هواري بومدين ووزير خارجيته والمعروف بولائه لبريطانيا مقابل الحصانة من المساءلة عن جرائمهم، وهو العارف جيدًا بدواليب النظام الجزائري فهو أحد صانعيه عام 1962م، وهكذا تمكَّن من تفكيك النظام وإعادة هيكلته خدمة للنفوذ البريطاني، ووظف الدين لاكتساب القاعدة الإسلامية لصالح النظام، وعين عبد العزيز بلخادم القريب من الإسلاميين رئيسًا للحكومة لاستمالة واكتساب القاعدة الانتخابية للجبهة الإسلامية للإنقاذ، واهتمَّ بالأشكال والمظاهر الدينية كالأذان في الإذاعة وبناء المسجد الأعظم بالعاصمة الجزائر، وفتح قناة للقرآن الكريم، وبث صلاة التراويح، واهتمَّ بالزوايا وأغدق عليها الأموال مقابل ضمان صوتها ودعم أتباعها، ثم توظيف مشايخ السلطة لتوظيف الدين في التنفيس لمواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية الحادَّة التي يعاني منها المجتمع بالجزائر، واشترى الذمم وأفرغ الساحة السياسية حتى أضحت له السيطرة التامة على الحكم. كما شرع في علاج النتوءات الفرنسية بالتدريج ودون إثارة ضجة؛ فأبعد النفوذ الفرنسي عن أجهزة الدولة، وأعاد تركيز النفوذ البريطاني، وقام بتتويج ذلك بزيارة لبريطانيا عام 2006م لتكون أول زيارة لرئيس جزائري إلى بريطانيا، ثم وقف ضد السياسة الفرنسية في المنطقة فرفض مشروع الاتحاد المتوسطي الذي جاءت به فرنسا على عهد رئيسها ساركوزي.

ثم كان الحراك الشعبي بالجزائر واحتجاجات 22 شباط/فبراير 2019م، فرأت فرنسا وخاصة بعد التوتر الذي شاب العلاقات البريطانية الفرنسية بعد البريكست فرصة لاختراق الحراك لتوجيهه لصالح نفوذها؛ لكن النظام بالجزائر استبقها باعتقال رجالاتها، وحوكموا محاكمة عسكرية تحت ذريعة الفساد وتقويض النظام، فضجَّت حينها فرنسا ضد القيادة العسكرية في الجزائر بسبب الاعتقالات، فحين اعتقلت لويزة حنون زعيمة حزب العمال بالجزائر وقعت ألف شخصية فرنسية من بينها رئيس الوزراء السابق جان مارك إيرولت عريضة لإطلاق سراحها.

وهكذا فبريطانيا والمنظومة العسكرية التابعة لها بالجزائر جادة في قصقصة ما تبقى من الأجنحة الفرنسية. واستمرارًا في تلك القصقصة ومعالجة لتلك النتوءات الفرنسية، فبعد الأجنحة العسكرية والأمنية أتى الدور على الأجنحة السياسية، فقد تم توظيف حرائق الجزائر الكبيرة التي اجتاحت شمال الجزائر منتصف آب/أغسطس 2021م لضرب حركة «ماك» المرتبطة بفرنسا قلبًا وقالبًا والتي وظفتها فرنسا في الحراك الشعبي، وهي حركة أُسِّست سنة 2001م وتتخذ من باريس مقرَّا لها وتدعو لحكم ذاتي في منطقة القبائل، وقد أعلنت سنة 2010م عن إنشاء حكومة مؤقتة لمنطقة القبائل، وهي أول خطوة جريئة لتمزيق الجزائر. وفي عام 2013م، طالب مؤسسها فرحات مهنا فرنسا بالتدخل لحل الأزمة التي حصلت في مدينة غرداية بالجزائر؛ وعليه فقد اتهمتها السلطات الجزائرية بإشعال حرائق الجزائر لقطع يد فرنسا عن الحراك الشعبي.

وكذلك استغلت المنظومة العسكرية بالجزائر الحرائق الكبيرة لقطع اليد الأمريكية عن الحراك الشعبي، والذي تبين أنها حركة «رشاد» ذات المسحة الإسلامية والتي تحدثت صحف محلية تركية عن مذكرة فرنسية سرية تفيد بأن المخابرات التركية استقبلت كوادر حركة رشاد في كل من مدينتي أنطاليا وإسطنبول ووعدتهم بدعم لوجيستي وتقديم مساعدات مالية لنشاطهم الدعائي لاستقطاب الشارع الجزائري في حراكه الشعبي، في محاولة من أمريكا عبر نظام أردوغان الوظيفي استقطاب حركة رشاد لتوظيفها خدمة للنفوذ الأمريكي بالجزائر. فكان اتهامها وإدانتها بحرائق الجزائر قطعًا للطريق على أمريكا.

وهكذا فالنفوذ البريطاني مستحكم في الجزائر مع بعض النتوءات الفرنسية التي تطفو على السطح في زمن ضعف الرئاسة.

أما بالنسبة إلى تونس، فقد أمسكت بريطانيا بزمام الأمور بشكل تام منذ البداية، وكانت تدير البلاد من وراء ستار عن طريق عميلها بورقيبة ومن بعد بن علي بشكل كامل، ولم يكن لها منافس دولي بالمعنى الحقيقي على الساحة التونسية، بل في خبثها ومكرها كانت ترعى أحزابًا معارضة للنظام علنًا مثل استضافتها لراشد الغنوشي زعيم النهضة بهدف احتوائها واستخدامها وتوظيفها عند الحاجة خدمة لنفوذها.

وكان لعميلها بورقيبة الدور الفعَّال في تغلغل وتجذر النفوذ البريطاني في تونس، فقد تشرَّب الخبث والمكر الإنجليزي زمن إقامته في القاهرة بمصر (1945-1949)م، وكانت القاهرة التي عرفها بورقيبة زمن الملك فاروق تحت سيطرة الإنجليز، وخلال تلك الأربع سنوات تردَّد على أوساط القوميين والمثقَّفين المرتبطين سياسيًّا ببريطانيا، فأضحى بعدها صناعة بريطانية خالصة فتحدَّدت بوصلة عمالته ورسم له خطه السياسي.

بعد عودته إلى تونس بدأ بورقيبة بحملة مكثفة للتهيئة للعمل المسلح ضد فرنسا، ثم أعلن في 2 كانون الثاني/يناير 1952م عدم ثقة التونسيين بفرنسا، وبعدها اندلعت الأعمال المسلحة في 18 كانون الثاني/يناير 1952م. كما أنه جاب قبلها تونس طولًا وعرضًا لاستعادة السيطرة على جهاز الحزب الحر الدستوري الجديد الذي قاده في غيابه عضده ومنافسه المؤثر صلاح بن يوسف سعيًا منه لصناعة سند شعبي له. ثم وقع بورقيبة مع فرنسا في 3 تموز/يوليو 1954م معاهدة ما سمي بالاستقلال الداخلي وإعلان الدولة التونسية (مع الإبقاء على عساكر فرنسا)، وكانت غايته من التوقيع وقبول هكذا معاهدة السعي لاستلام حكم تونس وقطع الطريق على منافسيه؛ الأمر الذي عارضه منافسه المؤثر صلاح بن يوسف (الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد)؛ ما تسبب في انشقاق الحزب إلى فريقين ودخولهما في صراع شرس (لاختلاف خط العمالة السياسية للرجلين). ثم في حزيران/يونيو 1955م، وبعد مناورات ودسائس أصبح بورقيبة سيد الحزب الدستوري بلا منازع، وأقصى منافسه المؤثر صلاح بن يوسف عن الحزب والحياة السياسية داخل تونس حتى تم اغتياله في ألمانيا عام 1961م.

ثم بعد إعلان الاستقلال في 20 آذار/مارس 1956م، أحكم بورقيبة سيطرته على السلطة وانتخب رئيسًا للجمهورية في 25 تموز/يوليو 1957م، ثم بدأ بورقيبة في تنفيذ السياسة الموكولة له من الإنجليز داخل تونس باجتثاث الجذور الإسلامية لآخر ولايات الخلافة العثمانية ببلاد المغرب الإسلامي وطمس الإشعاع الفكري لمنارتها الزيتونة، فكان بورقيبة في عمالته مِعول هدم تمسك بها اليد الإنجليزية الكافرة، فأصدر في آب/أغسطس 1956م مجلة الأحوال الشخصية التي منعت تعدد الزوجات، وأوكلت للمحاكم النظر في طلبات الطلاق، وحُلَّت الأوقاف ونُحِّيَ القضاء الشرعي وأصبح القضاء واحدًا ووضعيًّا، وألغي نظام التعليم الذي كان قائمًا في الزيتونة، وصار تغريب المجتمع سياسة بورقيبة المعتمدة لإدارة الدولة والمجتمع، وكانت هياكل الدولة وأجهزتها مصمَّمة لخدمة سياسة التغريب. وفي غرة حزيران/يونيو 1959م تم إصدار أول دستور للجمهورية، ثم تولَّى بورقيبة الرئاسة لولاية من 5 سنوات، وحصل حزبه الحر الدستوري الجديد على كل مقاعد مجلس الأمة الذي تم استحداثه.

ثم بعدما أحكم بورقيبة سيطرته على السلطة وتحكم في كل مفاصل الحياة السياسية بتونس، شرع في تصفية الوجود العسكري الفرنسي خدمةً وتركيزًا للنفوذ البريطاني في تونس، فسعى عام 1961م إلى إجبار فرنسا على إجلاء ما تبقَّى من قواتها العسكرية في تونس والمتمركزة قرب بنزرت شمال تونس عبر استراتيجية الضغط المباشر بمحاصرة القوات الفرنسية، فكانت المواجهة العسكرية التي دارت في تموز/يوليو 1961م بين العساكر الفرنسية والجيش التونسي يسانده أعداد من المتطوعين من أبناء تونس انتهت بجلاء العساكر الفرنسية عن تونس في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1963م.

وبعد فراغه من تصفية الوجود العسكري الفرنسي، أوكلت له مهمة مجابهة السياسة الأمريكية في المنطقة، الشيء الذي ترجمه الخلاف بل الصراع الحاد بين بورقيبة عميل بريطانيا وعبد الناصر عميل أمريكا حول القضايا الجوهرية في المنطقة كقضية فلسطين، وكان خطاب بورقيبة في أريحا في 3 آذار/مارس 1965م حول قرار التقسيم لفلسطين تعبيرًا عن طبيعة الصراع.

ثم تعاقبت السنون وتعاقبت معها الأزمات داخل تونس جراء السياسات الاقتصادية الكارثية وانخراط نظام بورقيبة في منظومة اقتصاد السوق الرأسمالية وما يصاحبها من سياسة الديون وبرامج جدولة وهيكلة الديون وشروط المؤسسات المالية الرأسمالية، فدخلت البلاد نفقًا مظلمًا وتفاقمت أزمة الديون واستفحل الفقر وعطالة الشباب واستشرى الفساد وعمَّ وطمَّ، وصارت البلاد تعيش شللًا وإفلاسًا اقتصاديًّا وماليًّا ترتب عليه خضوع تونس سنة 1986م لبرامج الجدولة والهيكلة والقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الرأسمالية. ثم كان تدهور صحة بورقيبة فخشيت بريطانيا انهيار النظام فرتبت في تشرين الثاني/نوفمبر 1987م تسليم السلطة لزين العابدين بن علي عبر انقلاب أبيض، بعدما تم إبرازه وتلميعه سابقًا بتوليته وزارة الداخلية في نيسان/أبريل 1986م، وكان انقلابها الأبيض بمثابة صمام أمان للحفاظ على النظام العميل في تونس وحفظًا لنفوذها فيه، ثم أوكلت المهمة لعميل آخر واستمر بن علي في أدائها على أكمل وجه.

واستمر الوضع على حاله حتى اندلعت شرارة المظاهرات الشعبية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010م، وتوسعت وازدادت شدتها وانتشرت حتى وصلت إلى المباني الحكومية ما أجبر بن علي على الهروب من البلاد خلسة في 14 كانون الثاني/يناير 2011م، وتوجه إلى فرنسا التي رفضت استقباله فلجأ إلى السعودية التي استضافته وأقام بجدة.

ثم كانت العشرية العجفاء التي تلت هروب بن علي والكارثة التامة التي صنعتها كل الأطراف السياسية التي شاركت في الحكم والحكومات واكتوى بنارها أهل تونس، وفي كل هذا كانت بريطانيا هي الممسك بخيوط اللعبة، فهي المتحكمة بالطبقة السياسية التي صنعها لها بورقيبة وورثها بن علي، وهي هي بعد سقوطه، وكانت بريطانيا تصول وتجول في تونس حتى إن السفارة البريطانية في تونس في عام 2015م دعت شركة «آدم سميث» الدولية الاستشارية لتقديم الاستشارات للحكومة في تونس وتدريب كبار الضباط وصياغة السياسات وإدخال قوانين جديدة؛ لكن بفقدها عميلها وعصاها الغليظة بن علي ضعف موقفها ولم يرفع من هذا الضعف رجوع الغنوشي من بريطانيا مواليًا لها، ولا تشكيلها لتحالف بين «نداء تونس» و»نهضة» الغنوشي لتشكيل جبهة برلمانية واسعة لدعم عجوزها الطاعن في العمالة لها الباجي السبسي سعيًا لتقوية موقفها، بل جرت الأمور عكس مبتغاها فحزب «نداء تونس» دبَّ فيه الخلاف فتصدَّع وتشقق وأضحى التحالف دون جدوى، بل استمر الوضع السياسي في التدهور وقبضة النفوذ البريطاني في التراخي، حتى كان انتخاب قيس سعيد أستاذ القانون الدستوري النكرة سياسيًّا رئيسًا للجمهورية، وأصبح الرجل متصدرًا للمشهد السياسي. وبفقده للسند السياسي وهو المتشبِّع بالمنظومة التشريعية الغربية، فما كانت لازمة الاستعانة بالأجنبي وحتمية السند الخارجي لتفارق الرجل، فارتمى في أحضان فرنسا صاحبة قانونه الدستوري والتي ما رأى في احتلالها لتونس وقتلها وتشريدها ونهبها إلا حماية، فأسندته ثم قامرت به وغامرت بعد أن فتح لها بابًا لولوج نفوذها إلى تونس، ودبَّرت له انقلابًا في محاولتها انتزاع تونس من بريطانيا في صراعهما الذي احتدَّ واشتدَّ بعد ذلك الصدع الكبير في العلاقة بينهما والذي أحدثه «بريكسيت» بريطانيا.

هذا هو الوضع في تونس حاليًا، ففرنسا تنازع بريطانيا حكم تونس والسلطة فيها، ولم يكتب لها بعد استقرار السلطة في يدها فضلًا أن يصبح لها نفوذ متحكِّم. وعليه فالنفوذ البريطاني لم يغادر تونس بل في خبثها ومكرها المعهود وظفت بريطانيا انقلاب فرنسا وسخرته لحشد الطبقة السياسية المتشرذمة لتطالب بعودة العمل بالدستور وإعادة تفعيل عمل المؤسسات وتحويل الأمر إلى مطلب شعبي، سعيًا من بريطانيا لترميم النظام المتهالك وإعادة تدويره، ثم تكون مغامرة فرنسا فاصلة في سطرها هي.

هذا عن بذور وجذور تلك النبتة الخبيثة نبتة العمالة والخيانة، والتي ما كانت لتزرع وتغرس في أرض الإسلام لولا فقد درعها وحاميها وجنتها ووقائها، خليفة المسلمين الذاب عن حياضهم والحامي لبيضتهم والقاهر لعدوهم. فكما كان زرع وغرس بذور وجذور تلك النبتة الخبيثة مرتبطًا بالدولة الفاعلة المؤثرة في الموقف الدولي شرًّا، فيجب أن يكون من بديهيات الفقه السياسي الاستراتيجي أن اقتلاع واستئصال تلك الجذور والبذور الخبيثة لا يكون إلا بدولة فاعلة ومؤثرة في الموقف الدولي خيرًا، وكفى بخلافة الإسلام العظيم فعلًا وخيرًا. وكفى بحديث المصطفى الهادي صلى الله عليه وسلم قولًا فصلًا، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *