العدد 421 -

السنة السادسة والثلاثون، صفر 1443هـ ، أيلول 2021م

العمل الوحيد الذي يخرج المسلمين من حياة الضنك إلى حياة العز

الأستاذ محمد الحمداني

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ٢٤) (الأنفال). فما هي هذه الدعوة التي تحيا بها الأمة وتعيد لها مجدها وعزها من جديد كما كانت وكما أرادها الله سبحانه وتعالى ورسوله  أن تكون خير أمة أخرجت للناس.

 وهذه الخيرية تتأتَّى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وذلك بقيام الإسلام كله كمنهج حياة، كما بيَّنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم متلمِّسًا خطواته من توجيه رب العالمين واتِّباع ما يؤمر به وتنفيذه على الكيفية التي أُنزل فيها القرآن الكريم بمنهجيته الدعوية والتي بدأت بدعوةٍ للفكر والتكتل عليه، ثم إعلانِها وطلبٍ للنصرة لتشكيل دولة وقيام أمة، ثم حملٍ لهذه الدعوة للبشرية جميعًا عن طريق الدعوة والجهاد لاعتناق هذه العقيدة وتنفيذها لما فيها من رحمة من رب العالمين، قال تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ) (الأنبياء)، على أن لا يكره أحد على اعتناق عقيدة الإسلام، قال تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦) (البقرة)، فخرج العرب ومن أسلم من الأمم الأخرى من ظلمات الجاهلية وضيق الدنيا إلى نور الإسلام وإنسانيته وسعة الدنيا والآخرة، وأصبح الإنسان عزيزًا في ظل حكم الإسلام، آمنًا في مجتمعه، حائزًا قوت يومه، متعاونًا مع مجتمعه على البِّر والخير، حاكمًا يحكم بشرع الله يعدل بين الرعيَّة ويحكم بالسويَّة، ويسير المسلم في بلاد المسلمين من أدناها إلى أقصاها لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ».

واستمرت الأمة تعيش في ظل حكم الإسلام وعقيدته بسلطانها وخليفتها الحارس للدين نيابة عنها، ينفذ الإسلام ويحمله ويحاسب الكفار وأعوانهم من المنافقين قرابة الثلاثة عشر قرنًا، حتى أُسقطت على يد المجرم مصطفى كمال عام 1924م؛ وبذلك ابتدأت عُرى الإسلام تنتقض عروة عروة مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الْإسلام عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ» رواه أحمد، وإن هذا الهدم ما كان ليكون لولا أن سبقته عوامل داخلية وخارجية. فالخارجية هي تكالب الأعداء الكفار عليها مجتمعين بقيادة رأس الكفر بريطانيا وإثارة القوميات والنعرات وقيام أحزاب على هذا الأساس بواسطة عملاء من بني جلدتنا. أما الداخلية فهي الضعف الفكري والفقهي الذي انتاب الدولة العثمانية في أواخر عهدها والجمود وعدم القدرة على إيجاد حلول لما يستجدُّ من المشاكل، وطريقة معالجة شؤون الزراعة والصناعة والاستثمار وتوفير الخدمات لإشباع جوعات الإنسان ومتطلباته مقابل ما بات يعيشه الغرب في تلك الآونة من تطوُّر في هذه الخدمات، فينعكس هذا كله على فكر الأمة وسلوكها.

ومنذ إسقاط دولة الخلافة والأمة تعيش حالة من التناقض بين المشاعر والأحاسيس فيما تعتقده وبين ما يطبَّق عليها من أفكار ونظم، وما فرض عليها من حدود وتمزُّق فيفصلها عن بعضها، ودعوات ونعرات وطنية وقومية أنستها حياتها الإسلامية عن طريق حكام نصبهم الكافر المستعمر عليها لا يرَون إلا مصلحة أسيادهم الكفار. ولما كان لا حياة للمسلمين إلا بالإسلام، انتقلت حياة المسلمين إلى الضنك وعادت إلى أيام الجاهلية بعد أن عاشوا عزَّ الإسلام، وبهذا الوضع الجديد زاد ضياع فهم الإسلام وأفكاره مع تخبط الفتاوى والطروحات المداهنة والمهزومة والمنبطحة مما زاد الطين بلة، فازدادت الأمة ذِلَّة وأخذت تستغيث وتتألم مما تعانيه، وتبحث عن طريق الخلاص والنجاة مما هي فيه، وقد عجزت جميع دعوات النهضة من قومية، ووطنية، واشتراكية، ودينية مجتزأة وغير شاملة ومفصَّلة إلى أن هيَّأ الله سبحانه وتعالى لها من جديد من يدعو إلى تجديد أمر دينها مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»، فمع بداية الخمسينات أعلن الشيخ العلامة تقي الدين النبهاني رحمه الله عن ولادة حزب سياسي مبدؤه الإسلام، هو حزب التحرير؛ ليعيد للأمة فهم دينها بالكيفية التي بيَّنها رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، من خلال دراسة الإسلام وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم دراسة فكرية تشريعية وليس دراسة تاريخية كما كانت عند الكثير من الدعاة والعاملين على نهضة الأمة، وتمثَّلت هذه الدراسة بمتابعة أعمال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منذ بداية حياته واعتزاله عن الناس في غار حراء متأمِّلًا ومفكِّرًا في هذا الوجود، وما عليه الناس من عادات وتقاليد وعبادة للأصنام حتى اصطفاه رسولًا وأرسل إليه وحيه مجيبًا عن كل تساؤلاته وما يدور في خاطره، فلقد كانت رعاية الله سبحانه وتعالى له قبل البعثة وتهيئته لحمل الأمانة حتى كان شامة في قومه في الخلق الكريم والتعالي عن سفاسف الأمور، كيف لا وقد لقَّبوه بالصادق الأمين.

وبعد نزول الوحي خرج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للناس يبلغهم أنه رسول الله ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى وترك ما يعبدون من دون الله، فآمن معه جماعة وصدَّقوه، فتشكلت كتلة الإيمان، ومن هنا بدأت مراحل عمل هذه الكتلة في التغيير وهي:

المرحلة الأولى: مرحلة التثقيف وترسيخ مفاهيم الإسلام عند حامل الدعوة، وقد كانت سرية في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ودامت ثلاث سنوات، انصقل فيها الصحابة، وتشكلت الشخصية الإسلامية فيهم بشقيها العقلي والنفسي، والدليل على ذلك ما لاقوه من إيذاء وتعذيب على يد كفار قريش ولم يثنِهم كل هذا عن إيمانهم، وهذه المرحلة مهمة جدًا في مجال الدعوة؛ لأن المرحلة الثانية تعتمد عليها وأي خلل فيها يُعيق الانتقال إلى المرحلة الأخرى.

المرحلة الثانية: مرحلة التفاعل، وهي مرحلة الصدع بالدعوة من الجماعة وإعلان الجماعة كقوة فكرية تعمل لتغيير الواقع بعد نزول قوله تعالى: (فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ٩٤) )الحجر: 94( والتي بها تحولَّت الجماعة إلى القيام بأعمال جديدة إضافة إلى أعمالها السابقة، فدخلت المجتمع متفاعلة مع الأمة بالصراع الفكري بضرب أفكار الجاهلية من عبادة الأصنام ووأد البنات وغيرها، والكفاح السياسي بالتعرض لأئمة الكفر وتسفيه أحلامهم كابي جهل وأبي لهب والوليد بن المغيرة وغيرهم، وكان من أعمال هذه المرحلة في السنوات الثلاث الأخيرة منها أعمال طلب النصرة من أصحاب القوَّة والمنعة المتمثِّلة بالعشائر وزعمائها لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم وتمكينه من الحكم برسالة ربه حتى تكلَّلت بنصرة الأوس والخزرج من أهل المدينة.

وهنا بدأت المرحلة الثالثة: وهي مرحلة استلام الحكم وتطبيق شرع الله وتنفيذ أحكامه، وهكذا أصبح المسلمون قوة متمثِّلة بكيان سياسي قادت المسلمين ليدخلوا في صراع مادي مع كيان قريش بالأعمال العسكرية والجهاد في سبيل الله ونزول آيات القتال التي تأمر بذلك، خلافًا للمراحل التي سبقت قيام الدولة والتي كانت مقتصرة على الصراع الفكري والكفاح السياسي، حتى حسم الصراع لصالح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته بعد صلح الحديبية والتي كان فتح مكة من نتائجها، وانتقل عليه الصلاة والسلام بحمل الإسلام إلى خارج مكة، وفي الوقت نفسه كانت أحكام الإسلام تنزل مُنجَّمة على مدار عشر سنين فاكتملت شريعة الإسلام الشاملة لجميع نواحي الحياة بقوله تعالى:

(ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ) )المائدة: 3(. وبعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ظل الصحابة من بعده يحملون رسالة الإسلام، فسقطت فارس والروم وأصبحت الدولة الإسلامية الدولة الأولى بلا منازع.

هذا هو العمل الوحيد لنهضة المسلمين واستئناف الحياة الإسلامية والذي يجب أن نقوم به متأسين بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتعود لنا العزة في الدنيا ونوال رضوان الله في الآخرة ولا سبيل غيره. قال تعالى: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨) )يوسف: 108(.

اللهم إنا نسالك ِعزًّا في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *