العدد 420 -

السنة السادسة والثلاثون – محرم 1443هـ – آب 2021م

التَّخفيفُ على المسلمينَ فيما شُرِعَ لهم (2)

التَّخفيفُ على المسلمينَ فيما شُرِعَ لهم (2)

شرع الله الخالق المدبِّر، العليم الخبير، للإنسان ما يصلحه، وكان ما شرعه له رحمة منه  وفيه تخفيف له، قال تعالى: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ ) وهذا يعني مما يعنيه أن الشرع هو حصرًا من الله، وأن على المسلم ألا يشقَّ على نفسه فيما شرعه الله له، فيحملها فوق طاقتها، ما يؤدي به إلى هجرها بالكليَّة، وقد جاءت كثير من الأحاديث التي توجه المسلم بهذا الاتجاه حتى تكون عبادته عن رغبة وخشوع وخضوع فتزيده إيمانًا وتسليمًا.

عَنْ عَائشَةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دخَلَ عليها وعندَها امرأةٌ قال: «مَنْ هذه؟» قالت: هذه فُلانةٌ، تذْكرُ مِنْ صَلاتِها، قال: «مَهْ»، عليكم بِما تُطِيقونَ، فوَاللهِ لا يَمَلُّ اللهُ حتَّى َتملُّوا» وكانَ أحبُّ الدِّينِ إِليهِ ما دَاومَ صَاحبُه عليه. متفق عليه.

 يأتي هذا الحديث في باب الاقتصاد في الطاعة، فالقول: «تذْكرُ مِنْ صَلاتِها» يعني أنها تصلي كثيرًا بما يشقُّ عليها وتعجز عنه في المستقبل فلا تديمه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَهْ» كلمةُ نَهيٍ وزَجْرٍ، وهي اسم فعل بمعنَى «اكْفُفْ».  فطلب منا أن نأخذ من العمل بما نطيق، فقال: «عليكم بما تُطيقون» يعني لا تكلفوا أنفسكم وتجهدوها، فإن الإنسان إذا أجهد نفسه، وكلَّف نفسه، ملَّت وكلَّت، ثم انحسرت وانقطعت. ومعنَى «لا يَمَلُّ اللهُ حتَّى َتملُّوا» أي: لا يقْطعُ ثوابَه عنكم وجزاءَ أعمالِكم، ويُعاملُكم معاملةَ المالِّ حتَّى تَمَلُّوا فتتركوا، فينبغِي لكم أن تأخذوا ما تُطِيقون الدَّوامَ عليه ليدُومَ ثوابُه لكم وفضلُه عليكم. وفي فهمها للحديث، ذكرت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحبُّ الدِّينِ إليه أدومَه، أي: ما دام عليه صاحبه، يعني أن العمل وإن قلَّ إذا داومتَ عليه كان أحسنَ لك؛ لأنك تفعل العمل براحة، وتتركه وأنت ترغب فيه، لا تتركه وأنت تملُّ منه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم «فواللهِ لا يملُّ الله حتَّى تملُّوا»، يعني أن الله عز وجل يعطيكم من الثواب بقدر عملكم، مهما داومتم من العمل فإن الله تعالى يثيبكم عليه.

وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: لأصومنَّ النهار ولأقومنَّ الليل ما عشتُ، قال ذلك رغبة في الخير، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له: «أنت الذي قلتَ ذلك؟» قال: نعم يا رسول الله، قال: «إنَّك لا تُطيق ذلك» ثم أمره أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، فقال: إني أُطيقُ أكثر من ذلك، فأمره أن يصومَ يومًا ويُفطرَ يومين، فقال: أُطيق أكثر من ذلك، فقال: «صُمْ يومًا وأَفطرْ يومًا» قال: إني أُطيق أكثر من ذلك، قال: «لا أكثرَ من ذلك، هذا صيامُ داود». وبعد أن كبر عبدُ الله بن عمرو وصار يشقُّ عليه أن يصوم يومًا ويترك يومًا، قال: ليتني قبلتُ رخصةَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صار يصوم خمسة عشرًا يومًا سردًا، ويفطر خمسة عشر يومًا سردًا. ففي هذا دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يعمل العبادة على وجه مقتصد، لا غلوّ إفراطَ ولا تفريط، حتى يتمكن من الاستمرار عليها، وأحبُّ العمل إلى الله أدومُه وإن قلَّ.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحدُكم وهو يُصَلِّي، فَلْيَرْقُدْ حتَّى يَذْهَبَ عَنْه النَّومُ، فإِنَّ أحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وهو نَاعِسٌ لا يَدْرِي لعلَّه يَذْهبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَه» مُتَّفقٌ عليه.

يذكر الحديث عن فترةٍ في الحواس يكون نتيجة غلبةِ النوم، فلا يستطيع الإنسانُ معه أن يتحكَّم في حواسه؛ ولذلك أرشد النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم مَنْ غلب عليه النعاسُ وهو يصلي أن ينصرفَ من صلاتِه، ولا يصلي وهو ناعسٌ، ثم علَّل ذلك بقولِ: «فإنَّ أحدَهم إذا صَلَّى وهو ناعِسٌ لا يدري لعلَّه يذهبُ يستغفرُ فيسبَّ نفسَه بدل أن يقول: اللهم اغفر لي ذنبي أو ما أذنبت، يذهبُ يسبَّ نفسَه بهذا الذنب الذي أراد أن يستغفرَ الله منه، وكذلك ربما أراد أن يسأل الله الجنة فيسأله النار، وربما أراد أن يسأل الهداية فيسأل ربَّه الضلالةَ وهكذا، لهذا أمره النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يرقدَ. ومِنْ حِكَمِ ذلك أن الإنسانَ لنفسِه عليه حق، فإذا أجبر نفسه على فعل العبادة مع المشقة، فإنه يكون قد ظلم نفسه… والله أعلم.

– روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنِّي لأقومُ إلى الصَّلاةِ وأنا أريدُ أن أطوِّلَ فيها، فأسمعُ بُكاءَ الصَّبيِّ فأتجوَّزُ كراهيةَ أن أشقَّ على أمِّهِ». رواه أبو داود.

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ يُحِبُّ أن يُطيلَ في صَلاتِه، ولكنَّه في الوقتِ ذاتِه كان يُراعي حاجاتِ النَّاسِ؛ فربُما خفَّفَ في الصَّلاةِ لأجْلِ بعض الناس، فقوله صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّمَ: «إنِّي لَأقومُ إلى الصَّلاةِ وأنا أُريدُ أن أُطوِّلَ فيها»، أي: يُريدُ إتمامَها وإكمالَها على الوجهِ المعتادِ، وليس المرادُ الإطالةَ الَّتي نهَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الأئمَّةَ عنها «فأسمَعُ بُكاءَ الصَّبيِّ؛ فأتَجوَّزُ»، أي: فأسمَعُ بكاءَ صَبيٍّ مِن الصِّبيانِ معَ أمِّه الَّتي تُصلِّي في الجَماعةِ؛ فأُخفِّفُ الصَّلاةَ ولا أُطيلُ فيها بالقراءةِ وغيرِها؛ “كراهيةَ أن أشُقَّ على أمِّه»، أي: إشفاقًا به وبأمِّه؛ بسبب بكاءِ طفلِها؛ فتَنْشَغِلُ عن الصَّلاةِ. وفي الحديثِ: الحثُّ على مُراعاةِ أحوالِ المأمومين في الصَّلاةِ، وعدمِ المشقَّةِ عليهم بالتَّطْويلِ. ويؤكِّد ذلك الحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، فتجوَّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذًا فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّا قومٌّ نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا (النواضح: جمع ناضح وهو البعير الذي يستعمل في سقي الزروع)، وإن معاذًا صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوَّزت فزعم أني منافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معاذ، أفتّان أنت؟» – قالها ثلاثًا – «اقرأ: (والشمس وضحاها) و(سبّح اسم ربك الأعلى). ونحوها» متفق عليه واللفظ للبخاري. وإنه لواضح كيف أنه في هذا الحديث النبوي الشريف إرشاد بمراعاة أحوال المأمومين خلفه؛ لأنهم ليسوا على شاكلة واحدة، ويجدر الذكر هنا أن المجتمعات تختلف، والظروف تتباين، فقد يقع المسجد في وسط السوق أو قرب المصانع أو بجانب المزارع والحقول فيفضَّل حينها قصر الصلاة وعدم تطويلها، وقد يكون في موطن يغلب فيه طلّاب العلم وأصحاب العبادة فيمكن حينها للإمام أن يزيد من مقدار صلاته. وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا معاذ، أفتّان أنت؟» نهيٌ عن كل ما يُنفّرُ عن الدين ويصدُّ عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة، سواءأكان بالقول أم بالفعل، وعلى الدعاة أن يتنبّهوا لهذه اللفتة النبويّة خصوصًا عند التعامل مع المهتدين الجدد.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ما خُيِّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ، فإذا كانَ الإثْمُ كانَ أبْعَدَهُما منه، واللَّهِ ما انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ في شيءٍ يُؤْتَى إلَيْهِ قَطُّ حتَّى تُنْتَهَكَ حُرُماتُ اللَّهِ؛ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ» متفق عليه.

كانَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم رَؤوفًا رحيمًا، وكان يحبُّ التيسيرَ على المسلِمين في كلِّ الأمورِ الـمُـحتَملةِ لذلك، ومع ذلكَ فإنَّه كانَ وقَّافًا عندَ حُدودِ اللهِ ومحارمِه ويغضبُ لله أشدَّ الغَضبِ حتى يُزالَ الحرامُ، وفي هذا الحَديث تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: «ما خُيِّرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بينَ أَمريْنِ إلا اختارَ أَيْسرَهما ما لم يأثمْ، فإذا كانَ الإثمُ كانَ أَبعدَهُما منه”، أي: إِنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان دائمًا ما يميلُ عندَ الاختِيارِ إلى السَّهلِ اليَسيرِ، إلَّا أنْ يكونَ في ذلكَ وقوعٌ في الحُرماتِ أو المعْصيةِ، فإذا رأى أنَّ في التيسيرِ دُخولًا في الإثم فإنَّه يأخذُ بالعزائمِ والشِّدَّةِ… وكانَ من حُسن خُلُقِه أنه يُسامِحُ في حَقِّ نفسِهِ، تقولُ عائشةُ رضي الله عنها: «واللهِ ما انتقَمَ لنفسِهِ في شيءٍ يُؤتى إليه قطُّ، حتى تُنتَهكَ حرماتُ اللهِ، فينتقمُ للهِ» أي: إِنَّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لم يكنْ ينتقِمُ ويَبطِشُ بأحدٍ إلا إِذا انتُهِكتْ حُرماتُ الله بالتَّعدِّي عليها وارْتكابِ المعاصي، فَحينئِذٍ يكونُ أشدَّ الناسِ انتقامًا للأخذِ بحقِّ اللهِ. وفي الحديثِ: إرشادٌ للمسلمينَ إلى أَنْ يكونَ سبيلُ حَياتِهم على التيسيرِ والمـسامحةِ والبعدِ عن التشدُّدِ المبالَغِ فيه، مع الوقوفِ عندَ حُرماتِ اللهِ وحُدودِه؛ فلا تُرتكَبُ المعاصي والذُّنوبُ، ولا يُنتَهكُ حقُّ اللهِ في المجتمعِ المسلمِ، فإذا حدَثَ ذلكَ وجَبَ على المسلمِ الغضَبُ للهِ مُقتدِيًا بالنبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، مع مُراعاةِ وَضعِ الأُمورِ في نِصابِها، وأن يكونَ الغضبُ في مَحلِّهِ ولا يَتجاوَزَه إلى أَكثرَ منه حتَّى لا يُفسِدَ من حيثُ أرادَ الإصلاحَ. 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *