العدد 412 -

السنة الخامسة والثلاثون – جمادى الأولى 1441هـ – كانون الأول 2020م

بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أشدِّ حالِ بُعِثَ عليه نبيٌّ من الأنبياءِ

عن جبير بن نفير عن أبيه قالَ: جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه يومًا فمرَّ به رجل، فقالَ: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم واللهِ! لودِدنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت؛ فاستمعت – أي نفير – فجعلت أعجب! ما قالَ إلاّ خيرًا. ثمّ أقبل عليه المقدادُ فقالَ: ما يحمل أحدَكم على أن يتمنَّى مَحضَرًا غيَّبَه الله عزّ وجلّ عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه. والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ – كبَّهم الله عزّ وجل على مناخرهم في جهنم – لم يجيبوه ولم يصدِّقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم الله عزّ وجلّ لا تعرفون إلاّ ربكم مصدقين بما جاء به نبيُّكم صلى الله عليه وسلم وقد كُفيتم البلاءَ بغيركم؟ واللهِ! لقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حال بعث عليه نبي من الأنبياءِ في فترة وجاهلية ما يرون دينًا أفضل من عبادة الأوثان. فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافرًا وقد فتح الله تعالى قفل قلبه للإيمان، ليعلم أنه قد هلك من دخل النار فلا تقرّ عينه وهو يعلم أن حميمه في النار: وإنها للتي قالَ الله عزّ وجلّ: ( رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ ) (الفرقان: 74). (أخرجه أبو نعيم في الحلية، والطبراني بأسانيد في أحدها يحيى بن صالح وثقه الذهبي وبقية رجاله رجال الصحيح).

وعن أنس رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أُوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأُخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد، إلاَّ ما يواري إبْطَ بلال» (أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، والترمذي وقالَ: هذا حديث حسن صحيح) .

وعن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قالَ: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب! إن ابن أخيك يأتينا في أفنيتنا وفي نادينا فيُسمعُنا ما يؤذينا به، فإن رأيت أن تكفَّه عنا فافعل. فقالَ لي: يا عقيل! التمسْ لي ابن عمك، فأخرجته من كِبس (بيت صغير) من أكباس أبي طالب. فأقبل يمشي معي يطلب الفيء يمشي فيه فلا يقدر عليه حتى انتهى إلى أبي طالب. فقالَ له أبو طالب: يا ابن أخي: والله! ما علمت أن كنت لي لمطاعًا، وقد جاء قومك يزعمون أنك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم تُسمعهم ما يؤذيهم، فإن رأيت أن تكفَّ عنهم. فحلَّق صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماءِ فقالَ: «واللهِ، ما أنا بأقدر أن أدع ما بُعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه الشمس شعلة من نار». فقالَ أبو طالب: والله ما كذب ابنُ أخي قطُّ، ارجعوا راشدين. (الطبراني وأبو يعلى ورجال أبي يعلى رجال الصحيح)

وعند البيهقي أن أبا طالب قالَ له صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي! إن قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا، فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلْني من الأمر ما لا أُطيق أنا ولا أنت، فاكففْ عن قومك ما يكرهون من قولك. فظنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه، وأنه ضعف عن القيام معه. فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عم: لو وُضعتْ الشمس في يميني والقمرُ في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهِرَه الله أو أهلك في طلبه» ثمّ استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى. فلما ولَّى قالَ له، حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، فأقبلَ عليه صلى الله عليه وسلم، فقالَ: اِمضِ على أمرك وافعل ما أحببتَ، فواللهِ لا أسلِّمُك لشيء أبدًا.

– روى الحافظ أبو الفرج بن الجوزي بسنده، عن ثعلبة بن صعير وحكيم بن حزام، أنهما قالا: لما تُوفي أبو طالب وخديجة – وكان بينهما شهر وخمسة أيام – اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، فلزم بيته وأقلَّ الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب، فجاءه فقال: يا محمد، اِمضِ لما أردت، وما كنت صانعًا إذ كان أبو طالب حيًّا فاصنعه، لا واللات، لا يوصل إليك حتى أموت. وسبَّ ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولَّى يصيح: يا معشر قريش، صبأ أبو عتبة، فأقبلتْ قريش حتى وقفوا على أبي لهب، فقال: ما فارقتُ دين عبد المطلب؛ ولكني أمنعُ ابن أخي أن يُضامَ حتى يمضيَ لما يريد، فقالوا: قد أحسنت، وأجملت، ووصلت الرحم. فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أيامًا يأتي ويذهب، لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إلى أن جاء عقبة بن أبي مُعيط وأبو جهل إلى أبي لهب، فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد، أين مدخل عبد المطلب؟ قال: «مع قومه». فخرج إليهما، فقال: قد سألته، فقال: مع قومه. فقالا: يزعم أنه في النار. فقال: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار» فقال أبو لهب ،لعنه الله: واللهِ لا برحتُ لك إلا عدوا أبدًا، وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار. واشتدَّ عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه. 

وأما ما لقيه صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب، فقد روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قالَ: لما مات أبو طالب، عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابًا، فرجع إلى بيته، فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي فجعل يقول: «أي بنية! لا تبكي، فإن الله مانعٌ أباكِ». ويقول صلى الله عليه وسلم ما بين ذلك: «ما نالت قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب» (أخرجه البيهقي)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ لما مات أبو طالب تجهَّموا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالَ: «يا عم! ما أسرع ما وجدت فقدك» (أخرجه أبو نعيم في الحلية).  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *