العدد السابع -

السنة الأولى – ربيع الآخر 1408هـ – الموافق كانون الأول 1987م

مواقف تاريخية: سيَاسَة تدعو للإسْلام

بقلم: هيثم بكر

يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكون الدولة الإسلامية مؤثِّرة في الواقع الدولي والرأي العالم، حتى تنتشر دعوة الإسلام وتسود كلمة الله. وتأثير الدولة الإسلامية يكون بأمرين: تثبيت هيبتها في النفوس، وتأكيد صدقها ووفائها. فإذا ما توفر هذان الأمران، فإن دعوة الإسلام تصبح أكثر قوة وتأثيراً.

تحدثنا في العدد السابق كيف علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتواطؤ أهل مكة مع يهود خيبر على مهاجمة المدينة للقضاء على الإسلام. وبيّنا كيف خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد العمرة، حتى توصّل إلى مهادنة قريش. وكان في خروجه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين معتمراً، واستنفاره العرب من حوله، وإحرامه بالمدينة ومفاوضته قريشاً كان في ذلك كله دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما خرج من البداية قاصداً الهدنة مع قريش، حتى يخلّى بينه وبين خيبر. وقد جاء في العدد السابق أن ذلك كان (سياسة تدعو للإسلام)، وفي هذا المقال، سنبّين إن شاء الله كيف يجب أن تكون هذه السياسة، مستشهدين بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

دجل وخداع!

ولعل البعض يعترض على تسميتها بـ (السياسة)، لأن السياسة كما نعهدها وكما نراها عند ساسة الغرب من جهة وعملائهم وتلامذتهم في الشرق من جهة أخرى، دجل وكذب وخداع للناس، وتغليب للمصالح الشخصية على المصالح العامة. ونجد السياسة كذلك متحلِّلة من كل قيم وعهود، لا تقيم للكلمة أو للعهد وزناً، بحيث يعدّ الحاكم نفسه بارعاً إذا خدع شعبه وأعطاهم من العهود والمواثيق ما لا يلتزم. وقد أصبحت السياسة في أيامنا رديفاً للدجل والخداع والمواربة والكذب، مما دفع بعضهم إلى الإفتاء بأن السياسة حرام، أو أن الحديث فيها ينقض الوضوء، وهم إنما يعنون بها سياسة الغرب وكذبهم.

ولن نناقش الآن مثل هذه الفتاوى، غير أننا نريد أن نوضح أن السياسة مطلقاً هي رعاية شؤون الناس. يقال في اللغة (ساس) و(يسوس) بمعنى قام بأمر الناس.

السياسة الحقّة

والإسلام جاء شاملاً لكل نواحي الحياة واشتمل على كل ما يتعلق برعاية شؤون الناس. لذلك فالإسلام يعلّمنا كيف تكون رعاية الشؤون، وقضاء المصالح، وتحقيق الأهداف والغايات وتنظيم الأمور، أو بتعبير آخر، يعلّمنا الإسلام كيف تكون السياسة الحقة.

فالرسول صلى الله عليه وسلم منذ دعا الناس إلى الإسلام في مكة، كان يهاجم علاقات الناس ونُظُمهم. وقد نزل الكثير من الآيات المكية تذم هذه العلاقات. وإذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء قريش وقبائل العرب إلى أن يسلموا، ثم يمنعوه وينصروه حتى يبلغ عن ربّه، وأن يقيموا دولة الإسلام حتى يحكم بينهم بما أنزل الله، إنما كان يقوم بعمل سياسي وهو: الدعوة إلى تغيير النظام القائم، ووضع نظام يقوم على شرع الله.

وعندما استلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم في المدينة، فقضى ونظّم ووقّع العهود والمواثيق، وجيّش الجيوش وغزا البلاد وافتتحها، إنما كان يقوم بالأعمال السياسية. وعندما خرج من المدينة يريد إعطاء الصورة المشرقة عن الإسلام ودعوته حتى يهادن قريشاً ويأمن جانبها، إنما كان يقوم بعمل سياسي.

لذلك، فإننا نتعلّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسة، ورعاية شؤون الناس، وتحقيق أهدافهم.

قوة وسمو

والدولة الإسلامية إنما هدفها تطبيق شرع الله، وإعلاء كلمته. وبذلك، تكون سياستها الخارجية واضحة ومحددة: الدعوة إلى الإسلام. والدعوة إلى الإسلام نهايتها معروفة: ضم البلاد إلى جسم الدولة لتصبح جزءاً من ديار الإسلام، بأن يطبّق عليها شرع الله، وتسود فيها كلمتُه. والدولة تقوم بكل ما من شأنه أن يعطي صورة عن الإسلام ودعوته السامية. وإنها ليست دعوة استعمارية بل دعوة للخير ولإعلاء كلمة الله. كما تقوم بكل ما من شأنه أن يحافظ على هيبتها وقوتها، فلا يتجرّأ أحد عليها. فإذا تحقق هذان الشرطان: القوة والهيبة، والصورة السامية للإسلام وتعامله، فإن دعوة الإسلام تنطلق وتنتشر بين الأمم بإذن الله.

هيبة الدولة

وهذان العاملان: القوة والسمو تعلمناهما من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. فإنه كان في تعامله مع العرب يحرص على إبقاء هيبة الدولة في النفوس، لئلاّ يتجرأ عليها القاصي والداني. فمنذ العام الأول، والرسول صلى الله عليه وسلم يرسل السرايا إلى هنا وهنالك، ويخوض المعارك، ويقوم بالتأديبات الداخلية والخارجية ليثبِّت هيبة الدولة في النفوس. وعندما فقدت الدولة الإسلام هيبتها جزئياً بعد معركة أحد، حرص النبي صلى الله عليه وسلم على استعادة هذه الهيبة بسلسلة من التأديبات الداخلية والخارجية.

وحتى نلمس أهمية هذه النقطة، نلفت النظر إلى عمل النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد مهادنة قريش. فإنه لما أراد ذلك، لم يرسل إليها يطلب الصلح، ولم يقم بأي فعل من شأنه أن يضع الدولة الإسلامية في موقع الضعف، وإنما اتخذ خير وسيلة لتنفيذ مأربه مع حفظ هيبة الدولة: زيارة بيت الله الحرام. فبخروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة لزيارة البيت الحرام، دفع العرب إلى إجبار قريش على الصلح والمهادنة، وأظهر قريشاً أنها هي المعتدية والمتعنتة.

صدق ووفاء عهد

أما الرأي العام، فقد استغله النبي صلى الله عليه وسلم لإعطاء صورة عن دعوة الإسلام ودين الإسلام. فقد أظهر أنه لا يريد حرباً. وإنما يريد العمرة، وهيأ لذلك كل المظاهر: من خروجه معتمراً وإحرامه بالمدينة، فاستنفاره العرب للعمرة، إلى تجاوزه جيش المشركين بذي طوى وإطلاقه الأسرى… فكان لذلك كلِّه عميقُ الأثر في نفوس العرب عن دعوة الإسلام. وإزاء تعنّت قريش وإبائها إلا الحرب توسط العرب لدى قريش لحملها على الصلح. فلما رضخت، كان محصلة ذلك أمران رئيسيان:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم حقق ما كان يريده منذ البداية، وهو مهادنة قريش حتى يتفرغ ليهود خيبر. وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فعلاً إلى خيبر وافتتحها.

الثاني: أنه كسب الرأي العام في جزيرة العرب. فقد خرج من تلك الجولة والناس يؤيدونه، ويصدقونه، وينفضّون عن قريش لتعنتها وعدوانها. وكان لذلك أعمقُ الأثر عند الناس، خصوصاً أنه صلى الله عليه وسلم التزم المعاهدة، وأوفى بالعهد الذي أعطاه لقريش مع حاجته إلى الإخلال به. فقد ردّ من جاءه من مكة مؤمناً. ولم يقبل أن يخالف العهد بينه وبين قريش.

مثل هذا الصدق والوفاء بالعهود يعطي الصورة المشرقة عن الإسلام، ويجعل نفوس الناس أكثر تَقَبُلاً لدعوته، رغم ما يبدوا على ذلك من قيود. ورغم أن تعامل الدولة إنما هو مع الكفار الذين لا يحفظون عهداً، فإن الدولة لا يمكن أن تخلّ باتفاق أو تنقض عهداً في ذمّة المسلمين.

ولذلك، وبعد صلح الحُدَيبية، يذكر الرواة أنه ما حُدِّث بعد ذلك بالإسلام رجل إلا أسلم، وأن الناس أقبلوا على دعوة الإسلام وتقبلوها، حتى في داخل مكة.

فعالية في الواقع

مثل هذه السياسة لا تسمى دجلاً أو خداعاً أو مواربة، إنما تسمى فعالية في الواقع وتأثيراً فيه، لتغييره على النحو الذي نريد، والذي يساعد دعوة الإسلام ويؤدي إلى نشر رسالته. مثل هذا يسمى تأثيراً في الواقع، وهو مطلوب من المسلم ومن الدولة الإسلامية، وذلك في صدق كامل ووفاء بالعهد.

هذه بعض ملامح السياسة في الإسلام. وإنه، كما يلاحظ القارئ، لم نتوسع في بحث هذا الموضوع، لأن الباب هنا ليس لمثل هذه الأبحاث، وإنما هو باب يقصد منه إلقاء الأضواء على الحياة الإسلامية التي عاشتها الأمة على مدى التاريخ. ولعلنا في القريب العاجل، نقرأ على صفحات هذه المجلة الغرّاء كيف تكون السياسة الإسلامية، هذه السياسة السامية التي تدعو العالم إلى اتباع دين الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *