العدد 412 -

السنة الخامسة والثلاثون – جمادى الأولى 1441هـ – كانون الأول 2020م

غربة الإسلام وتجديده وحزب التحرير (1)

حامد عبد العزيز

قال رسول الله ﷺ: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء» [خرجه مسلم، وانفرد به عن البخاري، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن]. قال السندي في حاشية ابن ماجة: «غَرِيبًا» أَيْ لِقِلَّةِ أَهْله، وَأَصْل الْغَرِيب الْبَعِيد مِنْ الْوَطَن «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا» بِقِلَّةِ مَنْ يَقُوم بِهِ وَيُعِين عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَهْله كَثِيرًا، «فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» الْقَائِمِينَ بِأَمْرِهِ. وطُوبَى تُفَسَّر بِالْجَنَّةِ وَبِشَجَرَةٍ عَظِيمَة فِيهَا، وَفِيهِ تَنْبِيه عَلَى أَنَّ نُصْرَة الإِسْلام وَالْقِيَام بِأَمْرِهِ يَصِير مُحْتَاجًا إِلَى التَّغَرُّب عَنْ الأَوْطَان وَالصَّبْر عَلَى مَشَاقّ الْغُرْبَة كَمَا كَانَ فِي أَوَّل الأَمْر.

   ونقل النووي في شرح صحيح مسلم عن القاضي عياض، أنه قال في معنى الحديث: «أَنَّ الإِسْلام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْص وَالإِخْلال، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَاد وَقِلَّة أَيْضًا كَمَا بَدَأَ».وليست هذه العودة فجائية؛ بمعنى أن يكون الإسلام ظاهرًا منتشرًا له الكلمة العليا في الأرض، ثم يصير فجأة غريبًا بدون مقدمات تصل به إلى حالة الغربة، عبر مراحل زمنية متتالية قد تطول أو تقصر حسب همة المدافعين عنه العاملين على نصرته. 

والغربة تعني اندراس معالم الدين، وغياب التشريعات عن تنظيم واقع الأمة، وانتشار الجهل بأحكام الدين، وتطاول المنافقين وأصحاب البدع على ثوابت الأمة وتاريخها وعلمائها الربانيين. ووظيفة التجديد أن تقاوم ذلك كله، وتعيد للدين بهاءه ونقاءه وصفاءه، وتعيد للأمة ثقتها بقوة عقيدتها وسلامة تشريعاتها. فإذا فسد الناس لم يكتفِ الغرباء بصلاح أنفسهم وحسب، بل كانوا صالحين في أنفسهم مصلحين لغيرهم. وذلك أمر لا ينقطع ما دامت الحياة الدنيا.

وتجديد الدين لا يعني أبدًا تغييره أو تبديله كما يريد المبطلون الذين يرفعون لواء التجديد في هذا العصر، وإنما يعني المحافظة عليه ليكون غضًا طريًا كما أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله ﷺ، والشيء إذا مرت عليه أحوال حتى صار قديمًا فإنما يأتيه التغير والاختلاف عما كان عليه أول أمره من أحد ثلاثة أوجه:

1- إما أن تطمس بعض معالمه، حتى لا تتضح لمن ينظر فيها. 2- وإما أن يقتطع منه شيء، فتنقص به مكوناته. 3- وإما أن يزاد فيه ويضاف إليه ما ليس منه، حتى تختلف صورته.

والتجديد في هذه الحالة يقتضي نفض الغبار عما طمس، وإعادة ما نزع ونقص، وإزالة ما أضيف ولحق به وهو ليس منه، ولا يكون أبدًا بصناعة دين جديد، كما يخطط دعاة التجديد اليوم. فالتجديد على ذلك عودة لمنابع الدين الأصلية عودة كاملة صافية نقية، وترك التقليد الفاسد القائم على (هذا ما وجدنا عليه أباءنا)، ودعوة للثبات على الحق وعدم قبول الدنية في ديننا. أي أن التجديد بمعناه الصحيح وكما يجب أن يكون هو عملية إصلاحية محافظة، وليس عملية تخريبية ملفقة ومتفلتة من أي قيد.

وكما أن عملية التجديد في الأمة مستمرة ولا تتوقف على رأس المائة، فإن حالة الغربة المذكورة في الحديث الذي مر معنا لن تمر على الأمة أيضًا لمرة واحدة، فللأمة على مدار تاريخها الطويل جهود عظيمة في مقاومة الغربة التي كانت توجد بين الفينة والأخرى، والتي كانت تشتد في أماكن دون أماكن، فحيث وجد علماء ربانيون كان تأثير الغربة ضعيفًا؛ لأن وظيفتهم هي القيام على أمر التجديد وتبيان الحق والوقوف في وجه الباطل. وقد قيَّد الله لهذه الأمة على مدار تاريخها الطويل من يقوم بتلك الوظيفة على أكمل وجه. وإنه وإن مرت بالأمة فترات ضعفَ فيها العلماء وقلَّ فيها العلم وزادت فيها حالة غربة الإسلام، إلا أن الأمة كانت ما تلبث أن تعود كما بدأت، فيخرج منها من يجدد لها أمر دينها فيعيده غضًا طريًا كما بدأ.

   فعندما قال رسول الله ﷺ، «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» [رواه أبو داود وصححه السخاوي]، لا يلزم من الحديث أن يكون المجدِّد فردًا، كما أن جلال المهمة وعِظمها تحتاج إلى وجود عدد يقومون بهذه المهمة. وقد فسَّر أهل العلم هذا الحديث التفسير الصحيح، فقالوا: إن كلمة «مَن» ههنا اسم موصول تفيد الإطلاق، فيحتمل أن يكون المجدد فردًا، ويحتمل أن يكون طائفة من الناس، وبناء عليه فلا يلزم تتبع أسماء أفراد من العلماء في كل قرن والمفاضلة بينهم لتمييز المجدِّد فيهم، فقد يكون كلهم ساهم في تجديد هذا الدين وبعثه في الأمة. يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: «الذي أعتقده من الحديث أن لفظ «مَن يُجَدِّدُ» للجمع لا للمفرد». ويقول ابن كثير رحمه الله: «قال طائفة من العلماء: الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف، كما جاء في الحديث من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة «يحمل هذا العلم من كل خلف عُدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين». وهذا لا يعني أن يظل غريبًا مجهولًا أو متروكًا العمل به طوال القرن حتى إذا كان آخر القرن ظهر المجدد، فليس في الحديث ما يدل عليه.

ولو استعرضنا تاريخ الأمة لتبين لنا كيف مرت الأمة بحالات كثيرة من الغربة، وكيف قيَّد الله للأمة علماء ربَّانيين وحركات مخلصة وحكامًا مخلصين وقادة عظامًا، جددوا للأمة أمر دينها وعادوا بالإسلام لنقائه وصفائه الأول، ولو عددنا تلك المراحل لما وسعنا المقال، ولكن يكفي أن نذكِّر بعلمائنا العظام الذين تولَّوا أمر حفظ السُّنة وتبيان صحيحها من ضعيفها، وما ثبت منها وما وضع فيها وليس منها، وبالفِرق الضالَّة المبتدِعة التي ظهرت في الأمة التي أرادت أن تحرف دين رب العالمين، فتصدَّى لهم كمٌّ هائلٌ من العلماء فندَّدوا بأقوالهم وبيَّنوا زيف أفكارهم وجعلوها أثرًا بعد عين، كما نذكِّر بغربة الأمة عندما تحول الحكم فيها إلى حكم عضوض، إلا أن الأمر لم يمرَّ مرور الكرام، وظهر في الأمة حكامٌ عِظام حاولوا أن يعيدوا الحكم إلى جادة الصواب كعمر بن العزيز وهارون الرشيد وغيرهم. ولن نسترسل هنا في ذكر ما مرَّ بالأمة من حالات الغربة ولا حالات التجديد التي قام بها علماء الأمة على مدار أربعة عشر قرنًا، ولكنَّنا سنركِّز في تلك العجالة على ما تعيشه الأمة اليوم من غربة صعبة هي من أشد ما مرَّ على الأمة طوال تاريخها الطويل. ففي هذا القرن الأخير عاشت الأمة غربة على أكثر من صعيد:

على صعيد الحكم:

قبل ما يقرب من قرن من الزمان وتحديدًا في الثالث من مارس/آذار 1924م، تم هدم الخلافة الإسلامية، ولأول مرة أصبحت الأمة بلا خلافة وبلا راعٍ يقاتل من ورائه ويتَّقى به، فما أصعب حالة الغربة تلك التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأمة، فلا دولة للمسلمين ولا راعيَ لهم، ولا دولة واحدة لهم، بل ما يقارب من 60 دولة. والأنكى من ذلك لا توجد دولة واحدة من هذه الدول تمثل المسلمين أو تدافع عنهم وعن قضاياهم، بل هي كلها دون استثناء دول وظيفية تؤدي مهمة أسندت لها من قبل أعداء الأمة، وعلى رأس كل دولة منها حاكم عميل يكيد للأمة ولدينها صباح مساء. ولقد زادت حالة الغربة أكثر بعد أن استطاع أعداء الأمة أن يشوهوا فكرة الخلافة في أذهان الأمة ردحًا من الزمن، وبعد أن استطاعوا أن يُفقدوا الأمة ثقتها بالإسلام وقدرته على قيادة الأمة للنهوض بها.

ولكن الله قيد للأمة حزبًا مخلصًا واعيًا هو حزب التحرير أعاد لفكرة الخلافة رونقها من جديد، وأزال عنها طعن الطاعنين، وجعل منها مطلبًا عند كثير من أبناء الأمة، فكان هو وبحقٍّ من المجدِّدين الذين قيَّدهم الله لتجديد الدين في أمر الحكم الذي أصابته غربة كبيرة حتى صار في وقت من الأوقات تصورٌ لدى الكثيرين من أبناء الأمة أن لا نظام حكم في الإسلام، ولا نقول أبدًا أنه خلال هذا القرن لم يوجد في الأمة من يقوم بتجديد أمر دينها في موضوع الحكم، فقد تصدَّى العديد من علماء الأمة لمثل هذا التجديف كالشيخ مطيع البخيتي والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ سعيد بيران وغيرهم الكثير.

ما يتعلق بما طُمس من أمر الحكم في عصر الغربة الحالي:

1-كون الخلافة هي حصرًا نظام الحكم في الإسلام:

بعد هدم الخلافة مباشرة ظهر كتاب الشيخ على عبدالرازق (الإسلام وأصول الحكم) الذي أراد الكاتب من خلاله نفي أن يكون للإسلام نظامًا محددًا للحكم، والذي قرر فيه بكل صلفٍ واستكبار أن «الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيؤوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. وأن الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية. كلا، ولا القضاء ولا وظائف الحكم ومراكز الدولة، إنما تلك خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع منها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة».

وظل هذا الكتاب أيقونة العلمانيين الذين حاربوا فكرة الخلافة لعقود طويلة وقاموا بتشويهها في محاولة لصرف الأمة عنها، وعندما تأسس حزب التحرير سنة 1953م، على يد العالم الجليل تقي الدين النبهاني رحمه الله، وحدد قضية المسلمين المصيرية بأنها هي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية، كان الحزب لدى الكثير من المراقبين حينها كأنه ينفخ في رماد، أو أنه يحلم في زمن ليس زمنًا للمعجزات، فعن أي خلافة يتحدث الحزب وقد تم تشويهها في أذهان الأمة، ولأي وحدة يسعى حزب التحرير إليها وقد مزَّق مِبضع (سايكس – بيكو) الأمة إلى مزقٍ تسمى دولًا وإمارات ومشيخات ترسَّخت حدودها في عقول وقلوب الأمة بعد أن ترسَّخت على الأرض وأصبحت واقعًا لا يمكن تجاهله.

ولكن الحزب ظلَّ مثابرًا يصل ليله بنهاره، يعمل بين الأمة ومعها، يخوض صراعًا فكريًا وكفاحًا سياسيًا وكأنه ينحت في الصخر، وبرغم وعورة الطريق وصعوبته، إلا أن الحزب بتوفيق الله وعونه شقَّ طريقه ونجح نجاحًا منقطع النظير ليعيد للخلافة رونقها، ويجعل منها مطلبًا تسعى له الأمة، وتتمنى اليوم الذي تصحو فيه على البيان الأول الذي يتلوه خليفة المسلمين، لينهي عقودًا من الفرقة والتشرذم، ويُهيل التراب على فترات الضعف والتخلُّف، ويقطع دابر الكافر المستعمر من بلاد المسلمين.

2-كون الخلافة فرض:

لعقود طويلة ظلَّ أعداء الأمة وأذنابهم من المشايخ والمتفيقهين يردِّدون على مسامع الأمة جمل مكررة مملولة من مثل، (الخلافة ليست نهجًا إسلاميًا) وأن (الخلافة ليست فكرة إسلامية) وأنها (ليس منصوصًا عليها في الشريعة الإسلامية في الأساس)، وأنها (ليست فرضًا إسلاميًا)، وأنها (ليست نصًا إسلاميًا)، وأنها (ليست أصلًا في حد ذاته نظامًا يوحد الشعوب الإسلامية)، وأنها (لم تكن النظام الوحيد في الدولة الإسلامية)، وظلوا سادرين في غيِّهم لا يردعهم شيئًا، ظنًّا منهم أنهم قادرون بمثل هذا الكلام الفارغ على صرف الأمة نحو توجُّهها نحو استعادة الخلافة مرة ثانية، ولقد تصدَّى الحزب وبقوة لهؤلاء، ولقد طوى الحزب فصولًا عدة في مشروع الخلافة المرتقبة، منذ تأسيسه وحتى الآن، فحسم مسألة فرضيتها بأن استخرج للأمة تلك الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع الصحابة، وبيَّن للأمة طريقة إقامتها بعد أن درس سيرة المصطفى ﷺ فحدد مراحل إقامتها، فأدركت الأمة ذلك واقتنعت به، وبدأت تتوق ليوم عزتها بإقامة فرض ربها، وها هو الحزب اليوم بصدد افتتاح الفصل الأخير في مشروع الخلافة العظيم.

3-كون الإسلام نظامًا كاملًا شاملًا، وأنه دين منه الدولة:

لقد ابتلي المسلمون في هذا العصر بقوم باعوا عقولهم للغرب ورضوا بأن يكونوا أدوات ومعاول هدم في يده، يضربون بها دين الله الذي جعله الله خاتمة الرسالات بما يمتلكه من قدرة عجيبة على معالجة كل المشكلات التي تواجه الناس في معاشهم وكل ما قد يستجد من مشكلات تحتاج إلى حلول صحيحة تجعل من حياة الإنسان حياة مطمئنة وسعيدة. ولقد تطوَّع هؤلاء لإثارة الشبهات حول الإسلام، وإظهاره وكأنه دين كهنوتي يهتم فقط بعلاقة الإنسان بربه وبعض الأخلاق والمطعومات والملبوسات، وساوَوا بينه وبين النصرانية المحرَّفة، وبدأت تظهر دعوات فصل الدين عن الحياة والدولة. ولقد استطاع الحزب ومعه ثلة من العلماء الواعين المخلصين على تقديم الإسلام بحلَّته الصحيحة باعتباره دينًا شاملًا كاملًا يعالج كل مشاكل الحياة، وأنه دين ومنه الدولة، وأي تجديد أعظم من إعادة الإسلام باعتباره مبدأ أي عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام.

ما يتعلق بما زيد فيه وليس منه:

1-كون التغلب بالقوة طريقة معتبرة في الوصول للحكم:

من أخطر الأفكار التي أدخلت في الإسلام وليست منه، كون التغلب بالقوة طريقة معتبرة في الوصول للحكم، ولقد بحثها بعض العلماء باعتبارها واقعًا جديدًا يحتاج إلى حكم، ولقد كان رأي كبار الصحابة هو أن السلطان المتغلب لا يصحُّ السكوتُ عليه، ولا بد من منازعته في تغلبه، وعدم إقراره على ذلك، أي أن أخذ السلطة بالقوة اغتصابًا يجب أن يقاوم، وأن يظل الإصرار على مقاومته، ولا يحل السكوتُ عليه، مهما اصطنع من شدة وغلظة، ومهما حصل من قوة وبطش. إلا أن من جاء بعدهم من الفقهاء ضرب عرض الحائط بقول وفعل كبار الصحابة، وحاول أن يجعلوا من اغتصاب السلطة والتغلب عليها بالقوة طريقة من طرق الوصول إلى الحكم، إلا أن الحزب وبشكل لا لبس فيه بيَّن أن هناك طريقة واحدة لا غير للوصول إلى السلطة، وهي البيعة الشرعية عن رضا واختيار، وبيَّن أن اغتصاب السلطة جريمة ما بعدها جريمة، بل كانت أفظع جريمة حلَّت بالإسلام، ونُكب بها المسلمون، وهزّت الإسلام هزة بالغة العنف، ودمّرت نظام الحكم في الإسلام تدميرًا كاد لا يُبقي له المِسحة الإسلامية، وحوّلته إلى ما يشبه النظام الملكي، القائم على الوراثة، فتحولت به الخلافة حقًا إلى ملك عضوض. فقد جعل الشرع الحكم أي السلطان للأمة، وجعل لها وحدها حق نصب الحاكم، والدليل على ذلك أن الشرع جعل نصب الخليفة، إنما يكون بالبيعة من قبل الأمة، وحصره في ذلك حصرًا، وجعل الخليفة إنما يأخذ السلطان بهذه البيعة.

ومن هذا الباب أعلن الحزب موقفه من الخلافة التي أعلنها (تنظيم الدولة)، وهو موقف شرعي يستند إلى دليل شرعي؛ إذ هناك شروط يجب أن تتوفر في الخلافة حتى تصحَّ، ولو كانت توفرت تلك الشروط في تلك الخلافة التي أعلنها (تنظيم الدولة) لكان حزب التحرير أول من بايع. إلا أن هذا الإعلان جعل الحزب ينتقل مع الأمة للفصل الأخير نحو مشروع الخلافة العظيم، فقد أصبح الحديث اليوم عن تفاصيل التفاصيل، عن الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يقيم الخلافة وأن يتم الأمر عن رضى واختيار من قبل أهل الحل والعقد بشكل خاص والأمة بمجموعها بشكل عام، ومن كون أمان المكان الذي أقيمت فيه الخلافة بأمان المسلمين، وأن يكون للتنظيم الذي يقيم الخلافة سلطان ظاهر في هذا المكان يحفظ فيه أمنه في الداخل والخارج، وأن يكون هذا المكان فيه مقومات الدولة في المنطقة التي تعلن فيها الخلافة… فهذا ما كان من رسول الله ﷺ عند إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، فقد كان السلطان فيها للرسول ﷺ والأمان الداخلي والخارجي بأمان سلطان الإسلام، وكان لها مقومات الدولة في المنطقة المحيطة. وقد بايعت الأمة رسول الله J في المدينة باعتباره حاكمًا عن رضًى واختيار.

وبهذا استطاع الحزب أن يزيل ما علق بالإسلام ونظام الحكم فيه وهو ليس منه، وفنَّد كل الأقوال التي حاولت أن تبرر لصق فكرة التغلب بالقوة بالإسلام.

2-فكرة طاعة الحكام وعدم الخروج على من أظهر الكفر البواح:

جاء في تفسير القرطبي أن ابن خويز منداد قال: «وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان للـه فيه طاعة، ولا تجب فيما كان للـه فيه معصيـة، ولذلـك قلنا إن ولاة زمـاننا لا تجـوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا»، فالقضية المركزية التي يتجاهلها من يحوِّلون «طاعة ولي الأمر» إلى عقيدة دينية، هي أن الخروج على الإمام الجائر كان مذهبًا لعدد من الصحابة ومَن بعدهم من الفقهاء في القرون الثلاثة الهجرية الأولى؛ ولذلك جاء ابن حجر العسقلاني فقال: «وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على تَرْك ذلك؛ لما رأَوه قد أفضى إلى أشدّ منه. ففي وَقعة الحَرَّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظَة لمن تَدَبر»، أي أن مسألة الخروج – ويعنُون به هنا حصرًا الخروج المسلح لإزالة الحاكم الجائر – مسألة معقولة المعنى وتحتمل النقاش والتأويلات. وقد اتفق الفقهاء على تحريم القتال مع أئمة الجور ضد مَن خرج عليهم من أهل الحق، ومِن القتال معهم إعانتهم بكل صغيرة وكبيرة، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ ﴾.

لقد انكشف «غلاة الطاعة» بشتى مسمياتهم (الجامية أو المداخلة) لأنهم يوظفون النصوص الشرعية الداعية إلى طاعة حكام المسلمين الذين يحكمون بالإسلام توظيفًا براغماتيًا لا يتفق مع أحكام الشريعة، وبناء عليه ففعلهم مخالف للإسلام عبر التاريخ، ويظهر عَوار مذهبهم اهتمامهم بإشاعة نصوص الطاعة وإهمال نصوص الجهر بالحق والنهي عن الظلم أو تأويلها بتعسف، وتعطيلهم لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتناقضهم في المواقف بسبب القراءة المغرضة للنصوص والتفسير النفعي لها، فلازم مذهبهم أن يؤيدوا الحاكم بعد تسلمه زمام السلطة حتى ولو حكم بغير الإسلام.

ولقد استطاع الحزب وغيره من العلماء الربَّانيِّين كشف القناع الذي تغطَّى خلفه علماء ولاة الأمر، وقاموا بالتأصيل الشرعي لمفهوم الطاعة وكيف يكون، ومن هو ولي الأمر الشرعي الذي تجب طاعته، ولقد انفضت الأمة من حول هؤلاء الحكام النواطير ومن حول علماء السلاطين أيضًا، الذين فقدوا مصداقيتهم بعد أن برروا للحكام الظلمة كل ظلمهم وفسقهم وكفرهم، فكان هذا إيذانًا بالتفاف الأمة حول حملة الدعوة الحقيقيين الذين وهبوا أنفسهم للدعوة إلى الله والعمل على تجديد دين رب العالمين وتخليصه من الأفكار المغلوطة التي علقت به.

3-كون الديمقراطية من الإسلام:

لم تحظَ فكرة كفرية بالاهتمام والترويج والتلميع كما حظيت فكرة الديمقراطية، حتى قيل إنها بضاعتنا رُدَّت إلينا، وإن الديمقراطية هي الشورى، بل لقد حملها ونافح عنها وروَّج لها من أبناء الأمة أفراد وحركات محسوبة على التيار الإسلامي، فكانت من الأفكار الخبيثة التي تسلَّلت إلى عقول وقلوب الكثير من أبناء الأمة. وظل الحال على هذا لفترات طويلة حتى شن الحزب عليها حربًا فكرية ضروسًا بيَّنت فسادها وتهافتها ومناقضتها للإسلام. ولقد حقَّق الحزب في هذا الجانب نجاحات منقطعة النظير؛ ما أدَّى إلى وضعها ووضع أصحابها والمروجين لها في الزاوية، ولم تستطع الصمود طويلًا أمام الضربات التي وجَّهها الحزب لها، حتى سقطت من عقول وقلوب المسلمين، بل وحتى في ديارها في بلاد الغرب الكافر التي بان عوار وفساد ما تحمله من مبدأ.

ولقد أظهر الحزب ذلك من خلال إصداراته، وكان من أبرزها كتيب (الديمقراطية نظام كفر، يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها) وقد ورد في مقدمة هذا الكتاب: «الديمقراطية التي سوَّقها الغرب الكافر إلى بلاد المسلمين هي نظام كفر، لا علاقة لها بالإسلام، لا من قريب، ولا من بعيد، وهي تتناقض مع أحكام الإسلام تناقضًا كليًا في الكليات وفي الجزئيات، وفي المصدر الذي جاءت منه، والعقيدة التي انبثقت عنها، والأساس الذي قامت عليه، وفي الأفكار والأنظمة التي أتت بها». وبفضل الله تراجع الكثير ممن كان يروِّج للديمقراطية عن تمسُّكه بها، خاصة بعد أن داس أصحابها عليها بالأقدام ودعموا انقلابًا دمويًا عليها قام به السيسي في مصر، كما ودعموا ديكتاتورًا حكم شعبه بالحديد والنار كبشار الأسد.

4-تحريم الحزبية والعمل الحزبي من أجل التغيير:

أدرك الغرب من الوهلة الأولى أن المسلمين لن يتوقفوا أبدًا حتى يُعيدوا الإسلام إلى الحكم مرة ثانية، ولأنه يعلم أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بعمل فردي يقوم به فلان وفلان، وأنه بحاجة لعمل حزبي منظَّم يقوم به حزب سياسي يقوم على أساس مبدأ الإسلام، فقد هاجم فكرة الحزبية واستعمل لهذا الهجوم نفر من المسلمين ممن باعوا أنفسهم للشيطان. وبرغم أن الغرب اهتمَّ بالعمل الحزبي وبالأحزاب وفتح أمامها المجال واسعًا للعمل السياسي، ونظَّم الحياة السياسية في دوله على أساس التعددية السياسية؛ إلا أنه منع ذلك على المسلمين في بلادهم. ولقد رأينا كيف أن الأنظمة السياسية التي نشأت على أعين الغرب في بلادنا بعد هدم الخلافة، سمحت لكل من هبَّ ودبَّ بالعمل السياسي الحزبي القائم على أفكار الكفر كالاشتراكية والوطنية والقومية والعلمانية؛ ولكنها منعت العمل السياسي على أساس الإسلام وجرَّمته، إدراكًا منها لخطورة هذا العمل على تلك الكيانات المصطنعة العميلة التي أقامها الغرب في بلادنا لمنع وصول الإسلام إلى الحكم.

فكان حزب التحرير هو أول حزب سياسي مبدؤه الإسلام يقوم في الأمة ويعمل فيها ومعها لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الإسلامية، وإنه وإن كان قد وجدت جماعة الإخوان المسلمين قبل الحزب إلا أنها كانت مجرد جماعة دعوية وليست حزبًا سياسيًا منضبطًا، وعندما أرادت أن تقيم حزبًا سياسيًا بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير أقامت حزبًا سياسيًا على أساس وطني علماني على رأسه رجل نصراني، للدخول في اللعبة السياسية على الأساس الديمقراطي.

لقد أصَّل الحزب لفكرة العمل الحزبي، وبيَّن للأمة وجوب العمل الحزبي من أجل إقامة الدولة الإسلامية، ولم يلبث إلا قليلًا لينتظم الملايين من أبناء الأمة في أعمال حزبية تهدف إلى إعادة الأمة لسابق عهدها خير أمة أخرجت للناس، سواء في حزب التحرير أم في غيره من الأحزاب والحركات الإسلامية، ليسقط في أيدي من أضاعوا جهودهم وأقلامهم سدى في محاولة صرف الأمة عن العمل الحزبي على أساس الإسلام، ولتتبيَّن الأمة أن الحزبية الحقة هي الحزبية القائمة على أساس الإسلام، وأنها هي الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله إعادة الحكم بالإسلام.                         [يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *