العدد السابع -

السنة الأولى – ربيع الآخر 1408هـ – الموافق كانون الأول 1987م

ردود ومناقشات: وَقْفَة مَع كَاتِب

بقلم: أمين الخليلي

وأخيراً، تم للأستاذ فهمي هويدي ما أراد، واستطاع صياغة علاقةٍ مع من يسميه بـ (الآخر)، “أكثر أمانة في التعبير عن نصوص الشريعة ومقصودها، وأكثر استجابة للغة (العصر) في الخطاب الإنساني والسياسي”، فيما يقول.

ويبدو أن الأستاذ هويدي قد أعجبته قضية (مقاصد الشريعة) فحملها على غير معناها. لذلك نجده في كثير من المناسبات يستنتج مقاصد الشريعة، وهي عبارة عن خطوط عريضة تعطيه حرية واسعة للمناورة – ثم يعتمد استنتاجاته أدلة على ما يريد قوله. وبذلك عَكَس الأستاذ هويدي عملية الاستدلال بالإسلام: فبدلاً من أن يستقرئ النصوص ليفهم الأحكام، إذا به يضع النتائج أولاً ثم ينحدر إلى النصوص ليبحث لها عن قرائن!

ونضع ههنا أمام القارئ الكريم هذا التعليق على كتابات الأستاذ فهمي هويدي، وقصدنا التنبيه إلى منزلقات كبيرة ومهمة وقع فيها، ونرجو من الله أن لا يوقع فيها أحداً غيره. فالأستاذ هويدي يتعامل في كتاباته مع الخطوط العريضة والأحكام العامة للإسلام، ويحاول أن يبني الاستراتيجيات والعلاقات والقواعد الشاملة، وفي مثل هذه الحال، يصبح أدنى خطأ في الاستدلال انحرافاً كبيراً.

تعليق مختصر!

تعرض الأستاذ فهمي هويدي في باب (للمناقشة) بمجلة (العربي) الكويتية لموضوع علاقة المسلمين مع غير المسلمين في ضوء أحكام الإسلام في سلسلة مقالات سماها (إشكالية الآخر في التفكير الإسلامي). وقد كان لهذه السلسلة حتى الآن ثلاث حلقات، وضعها في أعداد (سبتمبر) و(أكتوبر) و(نوفمبر) لسنة 1987. وقد ذكر أن هدفه هو وضع الخطوط العريضة لعلاقة المسلمين مع غيرهم.

ولسنا هنا في معرض الرد التفصيلي على جميع ما جاء في كتابات الأستاذ فهمي هويدي، لأن ذلك يحتاج إلى صفحات طِوال تستعرض ما استند إليه من أقوال في بحثه، وتفندّها واحداً واحداً، لكن هذه المجلة لا تحتمل مثل هذه المناقشات الطويلة. لذلك سنكتفي بتعليق مختصر على أبرز ما جاء في مقالات الأستاذ، لنبين حقيقة الأمر، والله من وراء القصد. ويستطيع القارئ الرجوع إلى كتابات الأستاذ فهمي هويدي، وحينذاك يحكم بنفسه عليها.

لأنه أرادنا مختلفين!

كان أبرزُ ما توصل إليه الأستاذ هويدي نقاط ثلاث:

الأولى: قوله إن الفقه الإسلامي كان في جميع مراحله “مرآة عاكسة لظروف الزمان”، بمعنى أن الفقهاء المسلمين على مر العصور إنما تأثّروا إلى حد كبير بانفعالاتهم تجاه ما حصل في عصرهم. لذلك يدعو إلى تجاوز اجتهادات المجتهدين المسلمين على مرّ العصور، وإلى ردّ البحث إلى الكتاب والسنة. وههنا يركّز الأستاذ هويدي على أن الواقع الدولي اليوم يختلف عنه في السابق، بمعنى أن الأحكام التي جاء بها الفقهاء لا تصلح لزماننا. وقد استخلص الأستاذ أن الأحكام التي استنبطها الفقهاء في التاريخ الإسلامي، وخصوصاً تلك التي تتعلق بمعاملة الذمّيين والحربيّين من غير المسلمين لا يمكن الأخذ بها، لأن الواقع الدولي قد تغير، ولأن هذه الأحكام إنما جاءت في مراحل تاريخية معينة كان فيها الفقهاء منفعلين من تصرفات الكفّار، مثل أفعال المغول والصليبيين ومن آزرهم من نصارى ويهود المشرق.

الثانية: قوله “إن الله تعالى أرادنا مختلفين (أي الناس) لحكمة قصدها العليم الخبير”، وكأن الله تعالى أراد البشر أن يكون منهم المؤمن ومنهم الكافر. وهذا الواقع، يضيف الأستاذ، “لا ينبغي أن يكون محل استغرابنا أو إنكارنا، بل علينا أن نقبل هذا الوضع ونتعامل معه على أنه حقيقة واقعة”. ويستطرد الكاتب إلى أن هذا الفهم يحتِّم علينا احترام رأي الآخرين (غير المسلمين)، لأن “نهج الإسلام واضح في خطاب الجميع، وهو يقوم في الأساس على أمرين: الاحترام والإقناع”. واستشهد الأستاذ بالآية الكريمة: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).

الثالثة: وهي الأهم والأخطر، قوله أن الإسلام دفاعي لا هجومي. فالأستاذ يفهم أن سبيل الدعوة إلى الإسلام هو الجدال الهادئ والإقناع، “والمسالمة والتعاون على البر وخطاب العقل والضمير، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، بنص القرآن الكريم، وحساب الجميع على الله سبحانه يوم يلقونه. أما القتال والسيف، فهو في منهج الرسالة سبيل إلى ردّ العدوان وصد الفتنة، وليس أسلوباً في التبليغ والدعوة”. وقد أورد الأستاذ آراء عديدة في هذا السياق، أهمها رأيان: الأول للشيخ محمد عبده في تفسير (المنار)، والثاني للشيخ محمد الغزالي في كتابه الذي صدر مؤخراً (جهاد الدعوة بين عجز الداخل وكيد الخارج).

قواعد خطرة!

وبذلك أصبح للإسلام عند الأستاذ فهمي هويدي منهج هادئ في الدعوة والتبليغ، بحيث يكون التعامل مع الكفار مبنياً على الإقناع الهادئ، والاحترام المتبادل. وقد لا يستغرب القارئ مثل هذه الأقوال، ولا يفطن إلى حقيقة الأمر فيها، والهدف المقصود من وراء الدعوة إليها، كما أنه قد لا يدرك للوهلة الأولى أبعادها ومراميها، وما يترتب عليها. وهي على الإجمال قواعد خطرة على الإسلام، وتفتري على الإسلام وأهله، وتتجاوز ألفاً ومايتي سنة من تاريخ الأمة الإسلامية مرّت على الدعوة إلى الإسلام.

إنها دعوة لتحديث الإسلام وتجديده، بحيث يوافق متطلبات العصر الجديد، ويُلائم الوضع الدولي القائم اليوم. ولعلّ الدعوة إلى ترك المبادأة بالقتال لدول الكفر أخطر هذه الدعوات، وأكثرها ملاءمة للواقع الدولي القائم اليوم. وقد ذكر الأستاذ هويدي أن أحكام الفقهاء المسلمين المتعلقة بالجهاد إنما أفرزتها تجربة تاريخية مضت ولم يعد لها وجود، “سواء عندما كانت الدولة الإسلامية هي صاحبة اليد العليا، أو عندما كانت العلاقات الدولية قائمة على أساس فكرة الغالب والمغلوب، أو المنتصر في الحرب أو المهزوم”.

المسلمون والواقع الدولي

لقد نسي هويدي أن المسلمين هم الذين يجب أن يفرضوا الواقع الدولي كما أمر به الله عز وجل، وأن الإسلام صالح لكل عصر ولكل زمان، فأمَّا الواقع الدولي القائم اليوم، والذي يتحدث عنه الأستاذ فالكل يعلم أنه صنيعة الدول الصليبية الكافرة، وضعته لتكرّس استعمارها لدول العالم. وقد كان الشرطُ الذي وضعته الدول الأوروبية النصرانية على دولة الخلافة العثمانية في القرن الماضي، عندما أرادت الدخول في المجموعة الدولية، هو عدم جعل الإسلام أساساً للعلاقات الخارجية، ليتمكنوا من جعل المبدأ الرأسمالي أساساً للعلاقات الدولية ويستبعدوا الإسلام من الساحة الدولية. أهكذا تريد تغيير الإسلام يا أستاذ، ليتماشى مع إرادة الدول النصرانية، بحجة ما تسميه الواقع الدولي؟

تجربة عائدة

وهل كون الدولة الإسلامية في ما مضى من التاريخ صاحبة اليد العليا في علاقات الدول، هل هذا تجربة تاريخية مضت ولم يعد لها وجود؟ كلا يا أستاذ، إنها تجربة امتلأت بها جوانب التاريخ في اثني عشر قرناً، وستعود إن شاء الله. ومثل ذلك الواقع الدولي يجب أن يعود اليوم، بحيث يكون الإسلام أساساً للعلاقات الدولية، بدلاً من منطق الاستعمار والاستغلال وشريعة الغاب، متستراً بحقوق الشعوب في تقرير المصير، وبحرّيات كاذبة واحترام متبادل مزعوم. قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، فالإسلام سيَغلِب إن شاء الله، وسيكون وحدَه أساس العلاقات الدولية، فضلاً عن أن يكون العالم كله دولة واحدة تحكم بشرع الله تعالى.

أنت لا تصدق ذلك يا أستاذ، والدليل انك تريد الركون لهذا الواقع الدولي الشاذّ، وتريد تبديل الإسلام وتغيير قواعده العامّة حتى يلائم هذا الواقع. أما نحن فموقنون تمام اليقين أن الإسلام، وبمنطق عصوره الأولى، سينتصر لا محالة كما وعدنا الله تعالى.

ولعل هذه السطور لا تكفي لتفنيد قول الأستاذ، لكننا كما ذكرنا لسنا في معرض استعراض ما استند إليه من أقوال لبعض المتأخرين من العلماء، وخصوصاً الشيخ محمد عبده والشيخ محمد الغزالي، كما لا يسعنا أن نستعرض الآيات التي قال إنها تؤيّد صحة دعواه، إنما سنترك ذلك للأعداد القادمة إن شاء الله. وإنما أحببنا هنا أن يكون لنا وقفة مع هذا الكاتب المعاصر نستوقفه قبل أن يتمادى في مثل هذه الأبحاث. ولم نشأ أن تمضي مثل هذه الأفكار دون أن نتصدّى لها، ودون أن يكون لنا معها محطّة، نثير فيها بعض التساؤلات.

مصدر جديد للشرع!

إن الحكم الشرعي يُستنبط من أدلته التفصيلية باجتهاد صحيح يبيّن وجه دلالة النص على الحكم المستنبط. وهذا ما سار عليه الفقهاء المسلمون في التاريخ الإسلامي. ولسنا هنا في معرض الدفاع عن أقوال بعض الفقهاء ومناقشة صحتها، إنما ما نريد قوله هو أن الحكم الشرعي سبيله واحد: وهو الدليل الشرعي. أما ما تفضلتم به يا حضرة الأستاذ من أن الحكم يفهم من منطق عصره، ولا يصح الأخذ به إذا كان لا يلائم العصر، فأمر يدعو للعجب. هل أصبح الواقع الدولي والعصر مصدراً من مصادر التشريع، أم تراك تريد ليّ عنق الإسلام ليوافق ما يتطلبه العصر وما يريده بعض (المفكرين) المعاصرين؟

إن ردّ الأحكام الشرعية أو الأخذ بها يكون بقوة الدليل، وليس بملاءمة الحكم للواقع أو عدم ملاءمته. والأصل هو التسليم لأوامر الله ونواهيه، وتطويع الواقع ليُلائم حكم الله، وليس العكس.

تجديد الإسلام

ولقد سمعنا كثيراً من هذه الدعوات، وكلها تصبّ في هدف واحد: الدعوة إلى تجديد الإسلام ليوافق متطلبات العصر الجديد، لأن الإسلام، كما يدعو البعض، كان في تاريخه دائماً مرآة للواقع، ولأن الفقهاء أعطوا أحكامهم بمنطق عصرهم. فلا يمكن الأخذ بالأحكام الشرعية التي استنبطها فقهاء المسلمين، بل لا بد من عملية تجديد شاملة تتناول الأصول قبل الفروع.

لقد أصبح الإسلام تَبَعاً للواقع الذي يصنعه الكفار وأعداء الإسلام، فأين هذا من التسليم والرضوخ لأوامر الله ونواهيه؟

وليس من قبيل المصادفة أنك في بحثك أيها الأستاذ، تستند إلى رأي الشيخ محمد عبده. والشيخ عبده كان أول الداعين إلى تجديد الإسلام وتحديثه ليلائم متطلبات العصر. وقد جاء على صفحات مجلة (الوعي) في الأعداد 4 و5 لشهري ذي الحجة ومحرّم الماضيين سردٌ وتقييم لسيرة الشيخ محمد عبده ودعواته (المجدّدة)، ولن أزيد عليها في هذا الجانب.

هذه نقطة من النقاط الرئيسية الثلاث، وسنستعرض في الأعداد القادمة إن شاء الله باقي ما جاء في أبحاث المفكّر الأستاذ فهمي هويدي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *