العدد السابع -

السنة الأولى – ربيع الآخر 1408هـ – الموافق كانون الأول 1987م

كلمة الوعي: عَقيدَتُنَا عَقْلٌ وَنَقل أمَّا شَريعَتُنَا فنقلٌ فَقَط

 المحاكمة العقلية

ظهر في العصر الحديث منهج جديد عند علماء المسلمين في التعاطي مع أحكام الشرع الإسلامي. وربما لم يكن هذا المنهج مقصوداً لذاته – بل لا يُعقل أن يكون مقصوداً وإلا كان إساءة من علماء المسلمين، وإنما نقول إن منهجهم الذي سنأتي على ذكره، قد أدّى إلى إساءة فهمه من قبل الأمة الإسلامية لشدّة ضعف فهم الإسلام لديها.

انه منهج المحَاكَمَةِ العقلية لأحكام الشرع الإسلامي. ولعل علماء المسلمين، أو غالبيتهم، مدركون تماماً خطأ هذا النهج، لكن ظروفاً معينة أدّت إلى أن تصبح المحاكمة العقلية أمراً شائعاً عند المسلمين.

والذي نعنيه بالمحاكمة العقلية هو أن المسلمين اليوم – إلا من رحم ربي – يظنون أن بإمكانهم الحكم على الأحكام الشرعية، وعلى مدى صلاحها أو فسادها، وكأنَّ الصلاح والفساد يحدّده العقل البشري!

مطعن في الإسلام!

ظهر في الآونة الأخيرة مؤلفات كثيرة تحاول إظهار محاسن الإسلام من خلال إظهار صلاح الأحكام الشرعية فيه. ونعني بالآونة الأخيرة الفترة الممتدة من أواخر القرن الماضي وحتى هذا اليوم. ففي هذه الفترة، اشتد الغزو الفكري لبلاد المسلمين، وانبرى كثير من المستشرقين يطعنون في الإسلام وأحكامه الشرعية. وعمد هؤلاء تارةً إلى وصف أحكامه الشرعية بأنها لا توافق العصر، وطوراً بأنها تؤدّي إلى الفساد والمفسدة. وقد اشتُهر لدى هؤلاء أحكامٌ شرعية في الفقه الإسلامي كان سهلاً عليهم، بمفاهيمهم الغربية، أن يطعنوا في الإسلام من خلالها. ومن هذه الأحكام تعدد الزوجات، وإباحة الرقِّ، ولباس المرأة الشرعي، وغيرها كثير من الأحكام التي تتراوح ما بين النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في الإسلام.

مجموعة مثاليّات

وقد تصدى الغيّورون من المسلمين لهؤلاء الطاعنين، وحاولوا إظهار محاسن الإسلام، ودافعوا عن أحكامه الشرعية. ورغم أن هدف هؤلاء العلماء كان الدفاع عن الإسلام، إلا أن منهجهم قد أدى إلى إظهار الإسلام في موقف الضعف. ومنذ ذلك الحين، انتشرت المحاكمة العقلية لأحكام الشرع، وملاءمتها للواقع، وصلاحيتها للتطبيق. وانبرى من المسلمين فئات همّها البحث عن محاسن ما في الإسلام من أحكام. وبذلك عكَس هؤلاء تلقِّي الأحكام الشرعية: فصاروا يصوّرون الإسلام. بأنه مجموعة مثاليات، وأنّه نظام يشتمل على كل ما هو خير وصالح وحسن.

نعم، لقد سمح هؤلاء لأنفسهم أن يؤيّدوا الأحكام الشرعية بما رأَوْا فيها من صلاح وقيم وأخلاق. ولكن المسلمين لم يدركوا حدود هذا الأمر، فظنّوا أن ما لم يكن خيراً وصالحاً في نظرهم لا يُعْقلُ أن يكون من الإسلام. وأصبح لِتَلَقّي الأحكام الشرعية منهج خاص عند المسلمين: وهو محاكمة هذا الحكم الشرعي أولاً: فإذا لم يكن صالحاً وخيراً ومثالياً في نظرهم فان هذا الحكم يُردّ لأنه لا يعقل أن يكون من الإسلام، مهما كانت قوة دليله.

 (سبب) الحكم الشرعيّ

والواقع أن هذا أمر بديهي لا بد أن يحصل. فالمسلون يقرأون مع كل حكم شرعي يتعلمونه (سبباً) لذلك الحكم. وغدا لكل حكم شرعي أنزله الله (سبب) أنزله الله تعالى من أجله، (وحكمة) يدأب المفكرون على البحث عنها. وصار السؤال يطرح نفسه مع كل حكم شرعيّ: ما هي (الحكمة) من هذا الحكم الشرعي؟ وهذا (السبب) لا بد أن يكون خيراً، أي أن يكون لدفع مفسدة أو لجلب مصلحة. لذلك كان (سبب) تحريم الخمر دفع مضارِّهِ التي لا تُحصى، (وسبب) تحريم لحم الخنزير أيضاً دفع مضارِّه، وهكذا.

وهذا المنهج في تلقّي الأحكام الشرعية خاطئ من ثلاثة وجوه:

الأول: أن في ذلك إخبار عن الله تعالى أنه أنزل ذلك الحكم لسبب كذا مما لم يخبرنا به عزّ وجلّ. فمن أين لنا أن نقول إن الله تعالى حرّم الخمر لهذا السبب أو لذلك، أو لهذه الحكمة أو تلك؟ ومن أخبرنا أن الله تعالى فرض الصلاة لأن فيها رياضة للنفس كما يقول البعض؟ ولا يخفى أن في ذلك تجاوز وتماد.

الثاني: أن معظم الأحكام الشرعية في الفقه إنما هي خلافية، اختلف فيها الأئمة. فباستثناء بعض الأحكام القطعية التي وردت في القرآن أو في الحديث المتواتر مما كانت دلالته قطعية، لم يتفق الفقهاء على أي حكم شرعي. فلو اعتبرنا أن سبب تحريم هذا الحكم هو كذا، فكيف نبرّر أن هناك حكماً شرعياً آخر استنبطه مجتهد آخر يخالف الحكم الأول؟ فكيف تكون (الحكمة) أو (السبب) حينذاك؟

صدمة كبيرة!

الثالث: وهو الأخطر، أن كثيراً من المسلمين فهموا الأمر على غير حقيقته. فإننا إذا قررنا أن لكل حكم (حكمة) وراءه، وأن هذه (الحكمة) لا بد وأن تكون لدفع مفسدة أو لجلب مصلحة، ماذا نفعل لو أن الدليل الشرعي قضى بحكم شرعي غريب لا يمكن تصور حكمته؟ هل نرد ذلك الحكم لمجرّد أننا لم نجد له (سبباً) أو (حكمة)؟

الواقع أن هذه النقطة قد سببت إشكالاً كبيراً عند المسلمين. فالمسلم الذي يتصور أن الإسلام إنما هو مجموعة مثاليات، هذا المسلم يصاب بصدمة لو أنه اطّلع على حكم شرعي قال به بعض الفقهاء وليس فيه حكمة ظاهرة، وقد يؤدي به الأمر إلى القول: لا يعقل أن يكون ذلك من الإسلام، رافضاً كل الأدلة والاجتهادات!

وقضية عورة الأَمَةِ يحتّج بها كثيرون للدلالة على خطورة هذه النقطة. فالحكم المشهور هو أن عورة الأَمَةِ هي عورة الرجل (والتي اختلف الفقهاء بين أن تكون من السرّة إلى الركبة أو أقل من ذلك)! فإذا كان المسلم يظنّ أن شِرْعَةَ الحجاب للمرأة مثلاً، إنما كانت للسَتر ولصون الأخلاق، فماذا يفعل بهذا الحكم.

ولعل علماء المسلمين الذين اشتغلوا بالبحث عن (الحكمة) وراء الأحكام الشرعية، كانوا على درجة من العلم والفهم، بحيث يأمنون من الوقوع في هذه المطبّات. لكن عامّة الناس، والذين اعتادوا على البحث عن (الحكمة) وراء الأحكام الشرعية لم يكونوا على وعي وبيّنة على مثل هذه الأمور، فلم يأْمنوا مثل هذه الصدمات.

(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

أما وقد بيّنا خطأ هذا المنهج في تلقي الأحكام الشرعية، فلا بد لنا أن نعرض للمنهج الصحيح لتلقي مثل هذه الأحكام.

قال الله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا). ففي هذه الآية دلالة صريحة على ضرورة التسليم بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام شرعية، أو بما جاء في كتاب الله. وعلى المسلم أن يسلّم بالحكم الشرعي ما دام من عند الله (أو ما دام قد غلب على الظن أنه كذلك)، وحينذاك يجب أن لا يبقى في نفس المسلم أيّ حرج من تقبل هذا الحكم.

والمشهور عند العلماء أن كلمة (الإسلام) إنما أصلها من التسليم، لأن المسلم هو الذي يسلِّم بما جاء من عند الله تعالى. فالحكم الشرعي هو كذلك لأنه استُنبط بالطرق الشرعية من النصوص، وليس لأي سبب آخر. وعلى المسلم التسليم به مهما تراءى له أنه غير صالح، ومهما صعُب عليه تقبلُه، ومهما خالف هواه.

مقياس الحُسْن والقُبح

والقاعدة الشرعية عند الفقهاء أن (الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع). فما دام الحكم شرعياً فلا بد أن يكون حسناً، ولا بد أن يكون هناك حكمة يعلمها الله تعالى وراء هذا الحكم، أدركها العقل أم لم يدركها، أخبرنا بها الله تعالى أم لم يخبرنا بها. وبذلك يُنظر في الحكم. فإذا كان قد ورد في القرآن الكريم أو جاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الخير كل الخير في تطبيقه، وإذا لم يرد لم يكن كذلك. وبذلك يكون الشرعُ مقياس الحُسن والقبح، وليس الواقعُ وملاءمةُ الحكم له.

ولذلك لا محلّ للعقل في الأحكام الشرعية إلا بمقدار ما يلزم لفهمها ولا يجوز مطلقاً أن نتخذ العقل حَكَماً في الأحكام الشرعية. وذلك عكس العقيدة، فإن المطلوب من المسلم أن يعمل عقله في الواقع ليتوصل إلى وجود الله، وإلى نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك، فإذا كان سبيل العقيدة هو العقل، فإن سبيل الشريعة الوحيد هو النقل عن محمد صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *