العدد 334 -

السنة التاسعة والعشرون ذو القعدة 1435هـ – أيلول 2014م

كيف تكون سياسياً؟

بسم الله الرحمن الرحيم

كيف تكون سياسياً؟

إبراهيم القصراوي: اليمن

السياسة في اللغة: من مادة ساس يسوس سياسة بمعنى رعى شؤونه. قال في القاموس المحيط: «وسستُ الرعية سياسة أمرتها ونهيتها» وهو رعاية شؤونها بالأوامر والنواهي.

السياسة شرعاً: هي رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً، وتكون من قبل الدولة والأمة. فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عملياً، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة. وهذا التعريف مستنبط من أحاديث الرسول  صلى الله عليه وسلم  حيث يقول: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، ففوا ببيعة الأول فالأول، فإن الله سائلهم عما استرعاهم» ومعناه أنكم أيها المسلمون تسوسكم الخلفاء أي ترعى شؤونكم. وقوله  صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد استرعاه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلاّ لم يجد رائحة الجنة». وقوله  صلى الله عليه وسلم : «ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلاّ حرم الله عليه الجنة». وهذا يتعلق برعاية الحاكم لرعيته وإحاطتها بالنصح وهو من رعاية الشؤون. وقوله  صلى الله عليه وسلم : «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا». وهذا يتعلق بمحاسبة الأمة للحاكم وهو من رعاية الشؤون، وقوله  صلى الله عليه وسلم : «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم». وعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» وروي عنه أيضاً أنه قال: «أتيت النبي  صلى الله عليه وسلم  فقلت: أبايعك على الإسلام. فشرط عليَّ والنصح لكل مسلم» وهذا يتعلق بنصح المسلمين حكام ورعية والاهتمام بمصالحهم، وهو من رعاية الشؤون…

ومنذ أن هدمت دولة المسلمين دولة الخلافة وطبقت أنظمة الكفر السياسية في البلاد الإسلامية وانتهى الحكم بالإسلام من كونه سياسياً، وحل محله الفكر السياسي الغربي المنبثق عن عقيدة المبدأ الرأسمالي، القائمة على فصل الدين عن الحياة؛ أخذت الدول الرأسمالية بالعمل على تضليل الأمة عن السياسة وإدراك واقعها، فصورت لها أن السياسة هي فن الممكن بالمعنى الذي أرادوه وهو (الواقعية والرضى بالأمر الواقع مع استحالة تغييره)وهذا كذب وإيقاف لعجلة التاريخ حيث إن التاريخ يُعرف بأنه سرد لأحداث حصلت ووقائع تغيرت. ويقال عن التاريخ بأنه سياسة يوم مضى، أي أن الواقعية والرضى بالأمر الواقع مناقضة للتاريخ والسياسة، وليس بما تدل عليه الألفاظ وهو (غير المستحيل، وهذا صحيح لأن الممكن هو ما يمكن أن يكون، أما المستحيل فهو ما لا يمكن أن يكون. والسياسة من الممكنات أي فن الممكن )، وأن السياسة لا يدركها ولا يمارسها سوى العباقرة ،وأن السياسة تتطلب الكذب والدجل لذلك فإنها تتناقض مع سمو الإسلام وروحانيته ،وأن الدين والسياسة لا يجتمعان… وغير ذلك من التضليل الذي اتبعه الغرب بهدف إبعاد الناس عن السياسة وتنفيرهم من الحركات السياسية ومن السياسيين حتى وصل بهم الحال إلى تنفير المسلمين من مجرد سماع الأخبار بحجة أنها تنغِّص العيش وتجلب الهموم وكل ذلك حتى تبقى الأمة رازحة تحت نير ظلم وطغيان المبدأ الرأسمالي، وحتى لا تترسم الأمة بحال سبيلاً للنهضة، وحتى تضمن دول الكفر الحفاظ على مبدئها الرأسمالي التي تعلم أن أفكاره وأحكامه السياسية لا يمكن ضربها والتصدي لها إلا بالأعمال  السياسية من قبل التكتلات السياسية؛ ولذلك كان واجباً على المسلمين أن يدركوا المقصود بالسياسة لغة وشرعاً كما بيناه، وأن يدركوا السبيل لأن يصبحوا سياسيين بما يتيح لهم التصدي لتلك الدول وخططها وأساليبها ووسائلها السياسية الخبيثة التي تتبعها في السيطرة على بلاد المسلمين والحيلولة دون نهضتهم.

من هو السياسي؟

يتضح من تعريف السياسة بأن الإنسان من حيث هو إنسان ، أو الفرد من حيث كونه يعيش في هذه الحياة، هو سياسي بطبعه، ويحب السياسة ويعاينها، فهو يرعى شؤون نفسه، أو من هو مسؤول عنهم  مثل الأسرة والعائلة والقبيلة، ولكن المقصود بالسياسي الحق هو الذي يرعى شؤون أمته بمبدئها، وبما أننا نتحدث عن أمة الإسلام فيكون السياسي الحق هو من يرعى شؤون هذه الأمة التي لا يخفى حالها على أحد، فقد تكالبت عليها الأمم بعد أن كانت لا تجرؤ على مجرد الاقتراب منها، وأصبحت في ذيل الأمم بعد أن كانت في رأسها، وحكمت بغير أنظمة الإسلام بعد أن كانت تحكم به، وقسمت إلى أكثر من خمسين دولة بعد أن كانت دولة واحدة، وتخلت عن حمل الإسلام للعالم بالدعوة والجهاد بعد أن كان رسالتها وروحها، فتبع الهزيمة  هزائم، والشتات تشتت، والمصيبة مصائب، والفقر مسكنة، والجرح جروح، من فلسطين إلى البوسنة والهرسك والشيشان وأفغانستان والعراق وبورما وهكذا دواليك، وتحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل. ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت» أبو داود. وكل ذلك بعد ضياع الحارس (دولة الخلافة) ورحم الله الإمام علي حين قال «الدين أس، والسلطان حارس. فما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع» ولذلك كان السياسي الحق هو من يعمل لإيجاد هذه الدولة. وبما أن الفرد مهما سمت عبقريته  وبلغ ذكاؤه لا يمكنه القيام بذلك لوحده؛ لذا كان من المحتم على من أراد أن يكون سياسياً أن يعمل مع حزب سياسي. وحزب التحرير وهو حزب سياسي يعمل لإنهاض أمة الإسلام على أساس الإسلام باتباعه طريقة الرسول  صلى الله عليه وسلم   وكان سبيلاً لمن أراد أن يكون سياسياً يعمل لإقامة دولة الخلافة (تاج الفروض)التي تطبق الإسلام، وتنهض بالمسلمين وتحمله للعالم بالدعوة والجهاد، وتتجلى السياسة في حزب التحرير في كل  ما يقوم به من أعمال:

من تثقيف الأمة بالثقافة الإسلامية، لصهرها بالإسلام، وتخليصها من العقائد الفاسدة، والأفكار الخاطئة، والمفاهيم المغلوطة، ومن التأثر بأفكار الكفر وآرائه.

ومن الصراع الفكري، الذي يتجلى في صراع أفكار الكفر وأنظمته، وصراع الأفكار الخاطئة، والعقائد الفاسدة، والمفاهيم المغلوطة، ببيان فسادها، وإظهار خطئها، وبيان حكم الإسلام فيها.

ومن الكفاح السياسي، الذي يتجلى في مصارعة الدول الكافرة التي لها نفوذ على البلاد الإسلامية لتخليص الأمة الإسلامية من سيطرتهم، وتحريرها من نفوذهم، واجتثاث جذورهم الفكرية والثقافية والسياسية والعسكرية واجتثاث أنظمتهم من سائر بلاد المسلمين

وأيضاً يتجلى الكفاح السياسي في مقارعة الحكام في العالم الإسلامي ومنه العالم العربي، وكشف خياناتهم للأمة، ومؤامراتهم عليها ومحاسبتهم والتغيير عليهم، وتغييرهم لتقصيرهم في أداء واجباتهم تجاه الأمة وفي رعايتهم لشؤونها، ولمخالفتهم لأحكام الإسلام، ولتطبيقهم لأحكام الكفر.

أما كيف يبني حزب التحرير من يعمل معه بناء سياسياً فيتضح من خلال التالي:

1- إن الحزب حينما يثقف الشخص بالثقافة الإسلامية من عقائد وأفكار وأحكام وأنظمة يكون  لأجل العمل بها وإيجادها في واقع الحياة (الصراع الفكري) وليس لتبقى معلومات ذهنية، وأفكاراً  أكاديمية في بطون الكتب وأذهان الرجال، أي يحملها له حملاً سياسياً وليس ترفاً فكرياً .

2-إن الحزب حينما يقوم بالكفاح السياسي من تحليل للأخبار والحوادث فلكشف خطط الاستعمار وأدواته ورجالاته للأمة، وبالمقابل يبين لها كيفية التصدي والنجاة من ذلك، صحيح أن هذا يكون من خلال أفراده وما يتاح له من وسائل مثل النشرات وغيرها، إلا أنه لا يكتفي من أفراده بذلك فقط، بل يطلب من كل فرد بعد أن يزوده بالمفاهيم والمعلومات السياسية أن يبذل الوسع في أن يكشف الخطط  ويحلل الأخبار ويعطي الرأي فيها، أي أن يكون واعياً سياسياً، لا أن يظل منتظراً لتحليل الحزب ورأيه لتبيانه للناس .

التحليل السياسي:

والمقصود بالتحليل السياسي هو تحليل الأخبار والحوادث لبيان حقيقتها ومن يقف وراءها، والأهداف التي يراد تحقيقها. ويسمى من يكتفي بذلك بالمحلل السياسي، أما من يتجاوز ذلك ويعطي رأيه بالحادثة أو الخبر من زاوية خاصة ينظر بها إلى العالم يكون واعياً سياسياً وشتان ما بين المحلل والواعي.

وحتى يكون الشخص واعياً سياسياً يلزمه عدة أمور:

أولاً: معلومات سياسية: إن من لا يمتلك المعلومات لا يستطيع التحليل، وتشمل معلومات عن الدولة الأولى في العالم، وعن الدول الكبرى التي تتنافس معها السيطرة على العالم، ومناطق نفوذ كل دولة من تلك الدول، وعن الدول التي تدور في الفلك، وعن الدول العميلة وخاصة البلاد الإسلامية. وإلى من تتبع كل دولة منها، وأدوات الصراع في كل دولة، ولمن تتبع كل أداة… وغيرها من المعلومات. ولا يشترط في البداية أن يكون الشخص ملماً بكل المعلومات بشكل واسع، بل يكفي أن تكون أولية ومقتضبة، ومن ثم تتوسع وتزداد مع الزمن والتتبع  والدراسة والبحث والاطلاع على بعض الكتب مثل (مفاهيم سياسية) و(قضايا سياسية) و(أفكار سياسية)وغيرها من الكتب.

ثانياً: تتبع الوقائع والحوادث التي تقع في العالم: في بداية الأمر يحتاج الشخص إلى تتبع جميع الأخبار المهمة وغير المهمة،  ثم مع المران ومع الزمن يصبح  الشخص قادراً على جعل التتبع مقصوراً على الأخبار المهمة والتي تلزمه للكفاح السياسي لا لجميع الأخبار، والتتبع  لا يصح أن يكون منقطعاً، بل يجب أن يكون متصلاً، لأن الحوادث والوقائع الجارية تشكل سلسلة مترابطة الأطراف، فإذا فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة، ويصبح في غير مقدور الشخص أن يربط الأخبار وأن يفهمها.

ثالثاً: تمحيص الخبر أو الحادثة تمحيصاً تاماً: فيعرف مصدر الخبر ومن ثم مصداقية هذا المصدر، فإن كان الخبر كاذباً لزم معرفة الهدف من إيراده كاذباً. وإن كان صحيحاً  لزم معرفة مكانه أو مكان الحادثة التي تناولها وزمانها والظروف التي تحيط بها والوضع الذي حصلت فيه وكل ما هو متعلق بها. وبقدر ما يكون التمحيص شاملاً وعميقاً بقدرما يكون الشخص بعيداً عن الوقوع  فريسة للتضليل أو الخطأ؛ وذلك لأن تجريد الحادثة أو الخبر من الظروف والوقائع التي تحيط به يؤدي إلى سطحية الفهم والإدراك والتي يتبعها الوقوع في الخطأ والتضليل.

رابعاً: الابتعاد عن التعميم  والقياس الشمولي والمنطق؛ فإن ذلك آفة فهم الوقائع والحوادث، ويوقعان الشخص في الخطأ. فلا تعمم حادثة على حوادث أخرى حتى وإن كانت مشابهة لها لأن ذلك يوقع في الخطأ؛ حيث إن الحوادث قد تكون متشابهة من حيث الزمان والمكان والطبيعة، إلا أنها مختلفة من حيث الجهات التي تقف وراءها، والأهداف التي يراد تحقيقها؛ ولذلك يجب أن تؤخذ كل حادثة على حدة، وفي نفس الوقت يجب الابتعاد عن المنطق وبناء النتائج على مقدمات لتجنب الوقوع في الخطأ.

خامساً: ربط الخبر بالمعلومات والأخبار المتعلقة به؛ وذلك للفهم والإدراك والتحليل. فمن يتتبع الأخبار ولا يربطها بما يتعلق بها من معلومات لتحليلها هو كمن لا يتتبعها مطلقاً من حيث المعرفة، وكمن يسيء إلى نفسه وأمته من حيث الضرر، لأنه حينئذ يحلل الأخبار بحسب ظواهرها فيَضلّ ويُضلّ. وأيضاً من يمتلك المعلومات السياسية ولا يستخدمها في تحليل الأخبار والحوادث لا يكون سياسياً مهما كثرت معلوماته وتوسعت. وبقدر الاجتهاد في الإدراك والفهم والربط يكون التحليل أقرب للصواب. فالخبر إذا كان متعلقاً بالسياسة الدولية وربط بالسياسة المحلية، أو كان متعلقاً بالسياسة المحلية وربط بالسياسة الدولية، أو كان خبراً اقتصادياً وربط بالاقتصاد  مع أنه من الأمور السياسية ولو كان اقتصادياً، أو كان خبراً يتعلق بالسياسة البريطانية وربط بالسياسة الأميركية… فإن الخطأ يقع حتماً؛ لذلك فإن ربط الخبر بما يتعلق به من معلومات أمر بالغ الأهمية للوصول إلى التحليل الصحيح. إلا أن التزام الحيادية والموضوعية في التحليل السياسي لا تقل أهمية عن حسن الربط في الوصول إلى التحليل الصحيح،  فرغبات النفس لشيء ذاتي أو حزبي أو مبدئي ربما تجعل المحلل يفهم الأخبار بحسب النتيجة التي يريد أن يصل إليها؛ فيصبغ الحقائق باللون الذي يهواه، ويؤوِّل الأفكار على الوجه الذي يريده، مما يؤدي إلى تفسير وتحليل النبأ أو الحادثة تحليلاً خطأً فيَضلّ ويُضلّ.

سادساً: أن يعطي رأيه في الحادثة أو الخبر للناس. وأن يكون الرأي صادراً من زاوية خاصة ينظر بها إلى العالم. وفي هذا الوقت تكون الزاوية الخاصة للسياسي الذي يعمل لإنهاض المسلمين على أساس الإسلام هي أن يكشف للأمة تصارُعَ الدول الكافرة فيما بينها وتآمرها على المسلمين وبلادهم وثرواتهم ليحولوا دون نهضتهم بوضع الإسلام موضع التطبيق، وأن يكشف خيانة حكامهم لهم، وأن يجعل ذلك دافعاً وموجهاً لهم للعمل على التغيير الجذري بإزالة هذه الأنظمة وإقامة دولة الإسلام، ولا ينظر في إعطاء الرأي إلى رغبات الناس وميولهم وما عليه الرأي العام، فلا تلوَّن الحقائق باللون الذي يهواه الناس، ولا تؤوَّل الأفكار على الوجه الذي يريده الرأي العام؛ لأن ذلك تضليل للأمة وخيانة لها، ولذلك وجب على الواعي سياسياً أن يكون سافراً متحدياً في قول الحق من تصارع وتآمر دول الكفر على المسلمين، وخيانة من يسمون بحكام المسلمين ومن لف لفهم من المضبوعين بالغرب وحاقدين على الإسلام دون النظر إلى مناصبهم أو مكانتهم في المجتمع أو حب الناس وانخداعهم بهم، فيقول عن العميل عميلاً ولو كان في نظر الناس بطلاً، وعن الخائن خائناً ولو كان في نظر الناس شريفاً.

وإعطاء الرأي يجب أن لا يكون مقصوراً على الناس العوام، بل يجب على الشخص الواعي سياسياً أن ينشر رأيه في الأوساط السياسية، وتشمل جميع الأحزاب السياسية التي تعطي رأيها في الأخبار السياسية والأعمال السياسية والأحداث السياسية وترعى شؤون الناس بحسب هذه الآراء، سواء أكانوا حكاماً أم غير حكام، وأن يستخدم منابرهم من قنوات إعلامية وصحف وإذاعات ومجالس لبيان رأيه. إلا أنه في الوقت الحالي، ونظراً لفساد معظم الأوساط السياسية في البلاد الإسلامية ووجود هذه الأنظمة الجائرة الظالمة وسيطرتها على معظم مجالات الإعلام من: صحف، وإذاعات، وقنوات، بواسطة عملائها ورجالاتها المفتونين بأنظمة الكفر وسياسية الكفر، والكارهين للإسلام والحاقدين عليه والمحتقرين له والمقفلين الأبواب في وجه كل من يريد أن يعطي الرأي السياسي من زاوية نظرة الإسلام للحياة؛ لأن ذلك يهدد نظامهم… جعل من الصعب دخول هذه الأوساط واستخدام منابرها. إلا أن ذلك لا يعني الاستسلام لهم، بل يجب على الواعي سياسياً أن ينشر رأيه بين قيادات وأفراد هذه الأوساط، وأن يستخدم ذكاءه وفطنته وما يتاح له من فرص لدخول هذه الأوساط واستخدام منابرها لإيصال رأيه ونشره دون أن يخاف في الله لومة لائم تأسياً بالرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كان يدخل نوادي قريش، وهي الأماكن التي يجتمع فيها علية القوم (الوسط السياسي)في ذلك الوقت مبلغاً رسالة ربه، سافراً متحدياً، لا يداجي، ولا يداهن، ولا يجامل، ولا يتملق، ولا يؤْثر السلامة كان يقوم بذلك بغض النظر عن النتائج والأوضاع، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم.

ولا يقال إن هذه الأمور كثيرة وصعبة ومن العسير تحقيقها؛ لأن وجود هذه الأمور ليس بالأمر الصعب، ولأن المقصود بها هو مجرد الإلمام بداية، وليس المعرفة الواسعة. وعلى ذلك، فإنه بمقدور كل إنسان، مهما كان تفكيره، ومهما كان علمه، ومهما كان عمله، أن يكون واعياً سياسياً. فالإنسان العادي والنابغة والعبقري والمهندس والطبيب والخضرجي واللحام وبائع الثياب كل منهم في مقدوره أن يكون واعياً سياسياً، بل عليه بذل الوسع في ذلك تأسياً بالرسول عليه الصلاة والسلام، وما كان عليه الصحابة الكرام.

 فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل أن يخرج رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم، فكيف غلب المجوس الروم وهم أهل كتاب؟ فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فأنزل الله تعالى: ]الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [ ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه، والذي كان عمله بيع الثياب القديمة على كتفه في الأسواق، راهن المشركين على أن الروم سيغلبون، وأخبر الرسول بذلك، فأقره الرسول على هذا، وطلب منه أن يمدد الأجل، وهو شريكه في الرهان. مما يدل على أن العلم بحال دول العصر، وما بينها من علاقات أمر قد فعله المسلمون، وأقره الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل دلالة واضحة على مدى اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام بالسياسة الخارجية، وتتبعهم للأخبار العالمية وأنباء العلاقات الدولية، وذلك قبل قيام الدولة الإسلامية، وفي الوقت الذي لم تكن فيه فارس والروم تشكل خطراً على المسلمين، ولا تقف حائلاً دون قيام دولة الإسلام، فكيف الحال بالاهتمام والوعي في هذا الوقت على الدول الكبرى وأدواتها وعملائها الذين يعملون ليل نهار ويعدون الخطط والمؤامرات لمنع قيام دولة الإسلام.

مثال على كيفية القيام بالتحليل السياسي:

انطلاقاً من مقولة: بالمثال يتضح المقال، سنحاول توضيح ما أوردناه عن كيفية التحليل والوعي السياسي بمثال حتى يكون الموضوع أقرب للفهم والأخذ العملي وليس للتنظير الفكري، ونورد مثالاً بسيطاً حتى لا يكبر على البعض كيفية القيام بالتحليل السياسي بالتسلسل الذي بيَّناه سابقاً.

تتبع الأخبار: تناقلت وسائل الأنباء العالمية والعربية والمحلية ومنها الجزيرة والعربية واليمن السعيد وعدة صحف وإذاعات في 26-27/11/2013م عن حصول اشتباكات ومعارك في دماج صعدة وهي مدينة يمنية تقع بالقرب من الحدود السعودية، وتناقلت وكالات الأنباء أن الاشتباكات كانت إثر هجوم شنه الحوثيون على مسجد للسلفيين في المدينة، وأن الاشتباكات قد أسفرت عن مقتل أكثر من مائة شخص من الطرفين.

المعلومات السياسية: التصارع الأميركي – البريطاني في اليمن. فالأولى تطمع وتحاول إيجاد نفوذ لها في اليمن (نظراً لموقعها الاستراتيجي، فهي تطل على باب المندب، وتتمتع بثروات مثل الغاز والذهب وغيره) والثانية تحاول الحفاظ على نفوذها السابق بقيادة علي عبد الله صالح والمستمر بقيادة عبد ربه منصور هادي، إن مخرجات الثورة وما تلخص من الحوار لم يسفر عن إبعاد نفوذ بريطانيا، وإن كان قد أضعفه بعض الشيء بإبعاد علي عبد الله صالح وبعض رجالات الإنجليز، إلا أن الأمور بقيت في يدهم، وذلك يرجع إلى عمق نفوذهم في الجيش ورجال القبائل والأحزاب السياسية ومنها المؤتمر والإصلاح. إن أميركا كانت وما زالت  قبل وبعد الثورة تحاول إيجاد نفوذ لها في اليمن من خلال اللعب بورقتين هما الحوثيون والحراك الجنوبي الذي يطالب بالانفصال. أن أميركالم تكن راضية عن مخرجات الحوار التي لم تكن في صالحها نتيجة لقوة النفوذ البريطاني، وذلك يتضح من إشارة الأمين العام للأمم المتحدة جمال بن عمر في تقريره بعنوان «بيان حول إحاطة مجلس الأمن» في تاريخ 27/11/2013م إلى تمديد الحوار، بينما صرحت السفيرة البريطانية جين ماريوت قبل ذلك بثلاث أيام بقولها «لا تمديد لمؤتمر الحوار، ويجب بدء مرحلة النتائج ليلمسها المواطن». إن أميركا تستخدم سياسة تسميها (الفوضى الخلاقة)في حال فشلها في تحقيق أهدافها من خلال المؤتمرات والمناورات السياسية.

تمحيص الخبر أو الحادثة: بعد التحقق من أن ما أوردته وسائل الإعلام كان صحيحاً، ومن ثم التعمق في فهم هذه الحادثة والظروف التي تحيط بها، يلاحظ أنها لم تكن مثل سابقاتها، بل كانت بشكل موسع وأكثر عنفاً حتى إن عدد القتلى زادوا عن المئة. إن المعارك دارت بين الحوثيين من جهة والسلفين من جهة أخرى، وهم كلهم مسلمون يعيشون في تلك المنطقة منذ مئات السنين دون تناحر أو تقاتل، إن الحوثيين هم من باشروا الهجوم بقصفهم مسجداً للسلفيين. إن الحوثيين قصفوا المنطقة أثناء وجود لجنة الوساطة الرئاسية والمراقبين المكلفين بتثبيت وقف إطلاق النار بين الطرفين بعد أن حدثت عدة اشتباكات سابقة ولكن بشكل محدود. إن هذه الحادثة حدثت بالتزامن مع تصريحات جمال بن عمر المبعوث العام للأمم المتحدة عن الحوار.

الابتعاد عن القياس الشمولي والتعميم والمنطق: فلا تعمَّم هذه الحادثة على حوادث أخرى ولو كانت مشابهة، ولا يقال بأن الشعب اليمني شعب قبلي، وأن كل ما يحدث هو نزاع  قبلي محلي على أساس طائفي، ولا تبنى النتائج على مقدمات مثلاً بالقول إن الحوثيين شيعة والسلفيين سنة؛ بما أنهم يختلفون في المذهب؛ إذاً هم يتقاتلون من أجل المذهب.

التحليل السياسي: إذا ربطت المعلومات السابقة مع ما حدث يتبين أن التحليل السياسي يكون بأن أميركا هي من أشعلت جبهة دماج في صعدة بواسطة الحوثيين بما يتماشى مع سياسة (الفوضى الخلاقة) لخلق المزيد من المشاكل أمام النظام الحاكم الذي يعاني من ضعف في الأمن وانتشار الاغتيالات؛ وذلك بهدف جره إلى مزيد من الضعف وعدم الاستقرار مما يسهل عليها إيصال أحد عملائها إلى الحكم، وبالمقابل فإن بريطانيا تصدت لتلك الخطة ضد النظام العميل لها بقيادة عبد ربه منصور هادي من خلال استخدام ودعم السلفيين والإصلاح بعد أن فشل في إيجاد هدنة بين الطرفين، أي إن ما حصل كان صراعاً أميركياً _ بريطانياً، ولكن بأدوات محلية.

الوعي السياسي: وهو إعطاء الرأي فيما سبق للناس والأوساط السياسية من وجهة نظر خاصة، وهي أن ما يحصل هو صراع دولي بأدوات محلية، وأن طرفي النزاع ينفذون سياسة أميركا وبريطانيا في اليمن بقصد أو بغير قصد، فهم يشعلون النزعة الطائفية والمذهبية ويسفكون دماء بعضهم البعض إرضاء للغرب وإغضاباً لله تعالى ورسوله، قال تعالى: ] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[. وأخرج ابن ماجة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: «مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا» وقوله عليه الصلاة والسلام  «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» أخرجه البخاري. وبالمقابل يبين للناس والأحزاب السياسية ومنها الأطراف المتنازعة أن سبيل النجاة من ذلك يكون بأن يتركوا هذه النزاعات ويتوحدوا ويعملوا مع العاملين لإسقاط هذا النظام العميل وإقامة دولة الإسلام دولة الخلافة على منهاج النبوة فينقطع دابر الكافرين ويرضى عنهم الله ورسوله والمؤمنون .

وفي الخاتمة نقول لشباب المسلمين إذا كان الغرب يتفاخر بأن السياسة عند شعوبه أصبحت خبزهم اليومي، فلنعلمهم  بأن السياسة عندنا هي ديننا الحنيف الذي يجري في عروقنا مجرى الدم.q

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *