العدد 334 -

السنة التاسعة والعشرون ذو القعدة 1435هـ – أيلول 2014م

المجتمع المدني ومنظماته :سياق التنمية(3)

بسم الله الرحمن الرحيم

المجتمع المدني ومنظماته :سياق التنمية(3)

د. ماهر الجعبري

ناقشت الحلقتان السابقتان من هذه السلسلة خلفية المجتمع المدني تاريخياً وتنظيرياً وتشكيلاته ومفهومه، وتم تأصيل انبثاقه عن الرأسمالية كطريقة حياة إبان التحول التاريخي الذي شهدته أوروبا، وارتباطه الفكري بالديمقراطية وترويجها. وتتناول هذه الحلقة السياق السياسي-التنموي المرتبط بترويج المجتمع المدني.

يرتبط ترويج المجتمع المدني وتفعيله ارتباطاً وثيقاً بموضوع التنمية: فحسب الفكرة الرأسمالية، عندما تقصّر الدولة في القيام بحق رعاياها تبرز مؤسسات المجتمع المدني في خدمة الرعايا في جوانب تنمويَّة معينة. وفي توثيق هذا الأساس. يقول الكاتب عبد الله الزلب: «فالدولة اليوم لم تعد قادرة على الاستجابة لمتطلبات التنمية من تعليم وتشغيل ورعاية؛ كما لم تعد قادرة على ضمان كرامة الجماعة في مواجهة الفقر والبطالة والمشاكل الاجتماعية. إذاً بروز المجتمع المدني أصبح ضرورة لينهض بتلك الأعباء التي فشلت الدولة عن النهوض بها».

إذاً، تقصير الدولة عن رعاية الناس هو الأساس في ترويج المجتمع المدني حسب النظرة الغربية. وفي الوقت الذي يقرر فيه الفكر الغربي فلسفة إشراك الرعية في الرعاية، فإن الإسلام حث في هذه الحالة على أن تقوم الأحزاب والعلماء بمحاسبة الدولة على هذا التقصير من باب الأمر بالمعروف، ومن ثم إلزامها بالرعاية. وهذه المحاسبة هي رعاية سياسية نظرية وليست تنفيذية، فالإسلام لا يوجّه الناس في هذه الحالة لأن يقوموا هم بالترقيع وجبر العجز ميدانياً. وهذا فرق جوهري في النظرة للرعاية وتنظيمها بين الإسلام والرأسمالية: نظرة تقوم على المحاسبة السياسية لإجبار الدولة على الرعاية التنفيذية، في مقابل نظرة تقوم على جبر تقصير الدولة من خلال تفهّم هذا التقصير وإعفاء الدولة من مسؤولياتها والتلبس بالرعاية الميدانية.

طبعاً، انتشر ذلك التفكير الترقيعي وتحوّل إلى ممارسات عملية لدى المسلمين تحت دافع حب الخير، ودون إدراك لبعده السياسي والفكري لدى الكثيرين. إلا أن هذا النهج التقبّليّ للفكر الغربي في التعاطي مع المشكلات من قبل كتّاب وفاعلين في الأمة، يستند إلى فكرة استنباط الحلول من الواقع نفسه والاسترشاد بتجارب الغرب وثقافته، بدل معالجة هذه المشكلات بما يجب أن يكون استناداً إلى مبدأ الأمة الإسلامي.

إن هذا الترويج للمجتمع المدني سياسياً يأتي متوافقاً مع تحركات رأسمالية عالمية في جوانب أخرى من الحياة باتجاه صياغة جديدة للتنمية، مثل الخصخصة في الجانب الاقتصادي. ولذلك باتت منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي تنظر إلى «المجتمع المدني» كجسر يفتح المجال لإشراك المواطنين في التنمية البشرية المستدامة، وفي هذا السياق صارت منظمات المجتمع المدني عنصراً فاعلاً فيما يسمى التنمية الشاملة المستدامة.

إذاً، فجهود إحداث التنمية في البلدان النامية واستدامتها باتت مرتبطة بترويج المجتمع المدني الذي يعزز إشراك الرعية في رعاية شؤونها. وبدل مطالبة الحكومات بالقيام بدورها في رعاية الرعية وأداء تلك الحقوق، تُحوّل الرأسمالية الأنظار -كعادتها- عن الحل الصحيح إلى الحل الترقيعي، والذي يعيق الوصول إلى نهضة صحيحة تحرر العباد من هيمنة الغرب؛ ولذلك فإن أدبيات مؤسسات التنمية، تعطي المجتمع المدني الدور الأساسي في «تولي وظيفة باتت شاغرة بعد انسحاب الدولة عن مهمة تقديم خدمات أساسية للمواطنين، بحكم عمليات الخصخصة وسياسة التكييف البنيوي وأيديولوجية الليبرالية الجديدة» حسب تعبير الكاتب جميل هلال.

إن هذا الارتباط الوثيق بالتنمية يوجب توضيح مفهوم التنمية والموقف منها:

التنمية وأبعادها الفكرية

مصطلح التنمية يمكن أن يكون محل جدل بسيط، وهو يستخدم كترجمة عن الإنجليزية لكلمة تأتي بمعنى التطوير (Development). والتنمية في اللغة العربية هي الزيادة والتحسين والتوسع. وتعتبر -في أدبياتها الحديثة- كتطور أفرزته السياسات الدولية في مجال تطور الدول وارتقائها. وهي ترتبط بالمجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية.  وتعرف التنمية، في أدبيّاتها، على أنها توحيد جهود جميع المواطنين مع الجهود الحكومية لتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للجماهير، وربطهم بظروف مجتمعهم ونمط الحياة فيه، وتمكينهم من المساهمة في تحقيق التقدم والرقي لمجتمعهم حسب ما يذكر الدكتور زهير عبد الكيك عايد في ورقة عمل بعنوان: «الحكمانية والتنمية» ضمن منشورات الملتقى الثالث لمنظمات المجتمع المدني (2006م الدوحة – قطر).

وهنالك مصطلح «التنمية المستدامة» الذي يركّز على ديمومة التطور والبقاء، ويتحدث المنظرون في هذا المجال عن أربعة عناصر للتنمية هي: الإنتاجية والعدالة الاجتماعية والاستدامة والتمكين. أي أن مفاهيم «التنمية المستدامة» تختلط فيها الأدوات والوسائل العالمية (مثل الإنتاجية) مع وجهات النظر الخاصة في الحياة (مثل العدالة).

إذاً، فالتنمية مسألة ذات أوجه عامة للبشر وأخرى خاصة مرتبطة بثقافاتهم، وبالتالي فهي تتضمن جوانب مدنية (مادية) أساسية ومشتركة بين الناس لا علاقة لها بمبادئهم (مثل كيفية إدارة الإنتاج وآلاته)، وأخرى حضارية (ثقافية ومعنوية) ترتبط بالمبادئ التي تسيّر المجتمعات (مثل كيفية تحقيق العدالة).

إن المعاني العامة للتنمية (المادية) في المجالات الاقتصادية والتجارية والزراعية والصناعية والطاقة وما يرتبط بها من تحسين الظروف وزيادة الإنتاجية وديمومة المصادر من أجل تحقيق الرفاهية والسعي لحياة فضلى للناس هي معان مقبولة ومشتركة بين البشر جميعاً، وهي ترتبط بالعلوم أكثر من ارتباطها بالمبادئ والأفكار، ولذلك فهي عامة للناس وليست خاصة حسب الثقافات ووجهات نظر الناس، ولا حرج في الحديث حولها، والتعلّم من الآخر حول سبلها، وتبادل مهاراتها وأصولها والخبرات المتعلّقة بها. أما ما يتعلق بالجوانب الحضارية والثقافات فلا يمكن النظر إليها إلا من زوايا خاصة بكل مجتمع، وهي ليست عرضة للتبادل المعرفي، ولا يمكن استقاؤها من الآخر مع الإبقاء والمحافظة على الخصوصية الثقافية للأمم.

واستناداً لعمومية المعنى العام المقبول للتنمية (الجانب العلمي العام وغير الحضاري الخاص)، لا بد من تقرير حقيقة أن السعي لإحداث التنمية هو مطلب إنساني ملح للناس عموماً، وهو نابع من طبيعة الإنسان ابتداء قبل مفاهيمه. ووجهة النظر الخاصة لدى الناس عن الحياة (ثقافتهم وحضارتهم) ليست الأساس في تحريك هذه المسألة، وإن كانت عنصراً مهماً في التحفيز للتنمية وفي طريقة تحقيقها؛ ولذلك فهذا الاندفاع نحو التنمية ليس خاصاً بمبدأ دون آخر، ولا بأمة دون غيرها، بل إن تحقيق التنمية بمعنى الزيادة والتحسين في المصادر والموارد وديمومتها هي مسألة عالمية لكل البشر.

ولذلك فلا تعارض بين دافع العمل على التنمية وبين دافع العمل في الإسلام، بل إن التنمية يمكن أن تندرج من ناحية التأصيل الفكري في ظلال قول الله تعالى في سورة البقرة ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [، وقد ذكر الطبري في تفسيره عن ابْن إسْحَاق أن من معاني خليفة في هذه الآية «سَاكِناً وَعَامِراً يَسْكُنهَا وَيَعْمُرهَا». فعمارة الأرض تتضمن الإفادة من مصادرها وتسخيرها لخدمة الإنسان وتنميتها وبالتالي استدامتها.

ولا حاجة للتفصيل في مشروعية التنمية (المادية)، فليس المقام محل خلاف. ثم إن تحقيق الرفاهية في المجتمع هدف يدعو له حملة الإسلام السياسي في العمل لتحقيق النهضة، وكل ذلك لا تعارض فيه. ولكن كيفية إحداث التنمية (وطريقة العمل لتحقيقها) هي ما يتعلق بوجهة النظر عن الحياة وترتبط بمفاهيم الإنسان: فمثلاً تبرز الثقافة بشكل واضح أمام السؤال التنموي: هل تصح تنمية الثروة الزراعية من خلال استغلال ناتج العنب في صناعة الخمر؟ إذاً، فهذه الجوانب تتعلق برعاية شؤون الناس وهي محل نقاش لاحق ضمن هذه السلسلة.

التنمية وأبعادها السياسية

مع ذلك التوضيح لمفهوم التنمية ومستوى تقبله في الجوانب المادية، تبقى هنالك خطورة سياسية في التركيز على الدعوة للتنمية (دون غيرها من ضروريّات التغيير) تتعلق بمتطلبات الواقع الحالي للأمة الإسلامية، وترتبط بهيمنة الغرب وغياب الإسلام عن الحكم، خصوصاً في ظل احتدام الصراع القائم بين الأمة الإسلامية من جهة وبين الأنظمة والغرب من جهة أخرى حول استئناف الحياة الإسلامية. وهذه الدعوة للتركيز على التنمية تصب في أن الدفع للعمل التنموي يأتي كمدخل لصرف الناس عن التفكير بالتغيير الجذري للمجتمع والتحرر من هيمنة الغرب، وتصب في صرف جهود المخلصين من الأمة عن العمل السياسي إلى العمل الخيري، وتصب في إعاقة إحداث نهضة شاملة في الأمة، وتصب في ربط وحصر العمل التنموي بجمعيات ومنظمات أهلية، والتضليل لصرف ذهن الناس أن هذا دور الدولة، فيصبح العمل التنموي الخيري بديلاً عن العمل التغييريّ.

إضافة لما سبق، تكمن خطورة الدعوة للتنمية في طبيعة وتصنيف موضوعاتها، التي تتجاوز في العديد من الحالات المسائل المدنية ومهارات وتطوير الأساليب والأدوات، إلى الموضوعات الحضارية أو الثقافية، فيتم إدراج ترويج مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والموضوعات الاجتماعية ضمن أساسيات التنمية.

إن حقيقة استغلال وتسخير الدعوة الغربية للعمل التنموي هذا في سياق محاربة العمل الإسلامي المخلص لتغيير واقع الأمة ليس اختلاقاً أو توقّعاً أو تحليلاً، بل إن توثيقه الصريح الصحيح أكيد في المنشورات الغربية، وقد برز ضمن دراسات استراتيجية تنص بشكل سافر على ذلك، فمثلاً جاء الحثّ على موضوع التنمية صريحاً ومباشراً، واعتبر من ضمن الخيارات الرئيسة أمام أميركا لمواجهة ما يسمّونه التطرف الإسلامي، كما يطرح كتاب «العالم الإسلامي بعد 11/9»، فضمن بنود الخيارات المتاحة التي تم اقتراحها في ذلك الكتاب، ورد تحت بند «تطوير فرص اقتصادية»، وبعد الحديث عن تأثيرات الوضع الاقتصادي وشح فرص عمل الشباب على دفعهم نحو «التطرف»، يوصي الكتاب خيراً بالمنظمات غير الحكومية بالقول: «إن تقديم خدمات اجتماعية بديلة في أماكن عديدة يمكن أن تساعد بشكل مباشر في إضعاف تقبّل الناس للمنظمات الراديكالية (المتطرفة)… هنالك حاجة لتوجيه المساعدة الأميركية والمصادر العالمية باتجاه قنوات مناسبة للظروف المحلية، ولتوسيع الاعتماد على المنظمات غير الحكومية، من خلال العلاقات القائمة في البلدان المستقبلة (للمنح). إن دعم التعليم والبرامج الثقافية التي تدار من قبل منظمات علمانية أو إسلامية معتدلة يجب أن يحظى بالأولوية لمواجهة الجماعات المتطرفة».

وللأسف يقع بعض المسلمين في هذا «المطبِّ» السياسي، مثل ما روجت له قناة اقرأ الفضائية منذ سنوات من مفهوم «التنمية على أساس الإيمان». ومع افتراض «حسن النية» في هذه التوجهات نحو التنمية من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتحسين ظروف الحياة لدى الناس، فإنه لا بد من التأكيد أن مثل هذا العمل خطير من حيث البعد السياسي.

وليس القصد هنا التشكيك بالأشخاص أو اتهام من ارتأَوا أن يكون لهم دور في تحسين ظروف الحياة لدى المسلمين من خلال الانخراط بالأعمال التنموية،  فالحديث هو عن الفكرة وليس عن الشخص، ولا بد من الكشف السياسي لما وراء ذلك كما تصرِّح أدبيات الغرب نفسه. فالتنمية على أهميتها للأمة، هي جانب خطر في تفعيل المجتمع المدني، لأنها تأتي، كما تمّت الإشارة إليه أعلاه، في إطار صرف الأمة عن التفكير بالخلاص الحقيقي والعمل للتغيير. ومسألة الهيمنة الغربية هي الجانب الأخطر في تفعيل المجتمع المدني، وهي وراء الدوافع الحقيقية للعمل الضخم الذي يقوم عليه الغرب بقضه وقضيضه في هذا المجال.

وناقش إصدار مركز المجتمع المدني في بريطانيا، فكرة تسخير المجتمع المدني لخدمة الأهداف الغربية، حيث طرح تساؤلات وعلّق عليها بما ترجمته «تساؤلات تعبر في الحقيقة عما نحاول إيصاله وهي: هل فكرة المجتمع المدني هي فقط جزء من مشروع إمبريالي جديد لفرض سيطرة الغرب؟ أم أنه يتعلق «بردكلة» الديمقراطية (radicalization of democracy) وإعادة توزيع القدرة السياسية؟ وهل الغرب منحاز لدى التفكير بالمجتمع المدني على أساس علماني، ولدى توافقه بشكل رسمي على منع الاعتراف بالأشكال المحلية للمجتمع المدني؟ هل من المفيد أخيراً التفكير بمجتمع مدني عالمي كمفهوم معياري يجمع مفاهيم اللاعنف والتضامن والمواطنة العالمية الفعّالة؟».

إن هذه الأسئلة التي يطرحها الكتاب «الغربي» هي في الحقيقة أسئلة موضوعية تستأهل أن يقف أمامها حملة الإسلام وقفات طوال! فالتحريك السياسي للمجتمع المدني منبعه غربي وأهدافه غربية، وإن حققت بعض المشاريع للمجتمع المدني جوانب تنموية تسهم في تحسين بعض ظروف العيش للناس في البلاد الإسلامية، وهي منجزات خدماتية على الأرض وليست موضوع استهداف سياسي هنا.

هذا هو الجانب الأهم في الكفاح ضد تغلغل المجتمع المدني في أوساط الأمة، إنه الكشف السياسي حول دوافع ترويجه في الأمة وتحديد هوية من يقف وراءه، ولذلك لا بد للقارئ أن يتساءل: ما سرّ هذا الاهتمام الشديد في دفع هذا المفهوم في بلاد المسلمين؟ هل حقاً يهتم الغرب ذو القيم النفعية بمصلحة العباد في هذه البلاد؟ وهل تدفعه مصلحة الناس نحو تبنّي هذا المفهوم التنموي والعمل من خلال أطره؟ وهل أميركا التي فجّرت عاصمة الرشيد ودفنت الجنود تحت رمال الخليج في حرب الخليج الأولى تكترث لإحداث تنمية في بلاد المسلمين؟ وهي التي تصب الزيت على النار اليهودية التي يكتوي بها أهل فلسطين بشكل يومي من خلال دعمها المتواصل لكيان يهود، وهي التي تنهب خيرات الأمة. وهل أوروبا التي أذاقت الأمة كأس الاستعمار وقضت عجوزها الشمطاء على دولة الخلافة في إسطنبول، ومنحت أرض بيت المقدس ليهود بوعد ظالم، تحرص على إصلاح الأمة، وهي ما فتئ صبيانها يحرّضون على الإسلام ويسخرون من رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم؟.

ليس ثمة من شك في أن المبدأ الرأسمالي القائم على النفعية والأنانية عديم من الدوافع الإنسانية، فإن نهب خيرات الشعوب، وبسط الهيمنة والسيطرة، وشن الحروب على الأمة الإسلامية، وهذه الهجمة الوحشية على أفغانستان والعراق ودعم كيان يهود إلا أمثلة عملية للنزعة الاستعمارية لدى الغرب، وكل ذلك يتعارض بشكل واضح مع إدّعاء إمكانية وجود رسالة إنسانية يسعى الغرب لتحقيقها في الناس، ويحرص من خلالها على التنمية. ولذلك فمن المقطوع به أن محاولات ترويج هذا المفهوم وتفعيل أطره هي جزء من عمليات اختراق الأمة للحفاظ على ديمومة خضوعها، وهي من منطلق نفعي بحت من قبل أرباب الرأسمالية.

إن دولة كأميركا ترسل جنودها لتدمير العراق وأفغانستان تحت شعار الديمقراطية وتنسى تأمين الرعاية لمواطنيها (عندما تكون غالبيّتهم من السود) لدى تعرضها لكوارث طبيعية كإعصار كاترينا الذي حصل في نيو-أورليانز قبل أعوام، لا يمكن أن تدّعي في الحقيقة أنها تؤمن بأن للإنسان حقوقاً تسعى لأدائها، أو أن لها رسالة إنسانية تسعى لتحقيقها.

وإن التساؤل حول سرّ هذا الدفع الغربي وحول دوافعه يكشف الأمر، فليس ثمة شك أن تقديم الدعم يعني في المقابل رضوخاً من المستقبل للدعم (المحتاج) لما يمليه الداعم، والمثل الشعبي القائل «أطعم الفم تستحي العين» خير تعبير عن طبيعة العلاقة بين منظمات المجتمع المدني وبين الدول الغربية ومؤسساتها المانحة في العلاقة التنموية، مع ما في ذلك من ترسيخ للتبعية.

إن الغرب عندما يحرّك المجتمع المدني ويدعمه مالياً، لا يقوم بذلك خدمة للإنسانية، بل تحقيقاً لأهدافه الرأسمالية في الهيمنة والسيطرة، وللتمثيل على هذه التبعية من المناسب الإشارة إلى مقارنة علاقة المال بالأفكار في مجال المجتمع المدني ما بين بلاد المسلمين والغرب، حيث إن المال (التمويل والمنح) لدى الغرب يأتي في الوضع الطبيعي استجابة للأفكار (للتطوير والتنمية)، أما في بلاد المسلمين، فإن المعادلة على العكس تماماً، فإن الأفكار تلحق الأموال، حيث يتم تصميم المشاريع التنموية استجابة للمال الذي يمكن أن توفره الجهات المانحة! فهل يعي حملة الإسلام السياسي هذا التآمر فيوقفوا تمرير خديعة التنمية على المقاس الغربي، ويتصدّوا لعدم تمرير المؤامرة؟

إنه لحقيق على أصحاب المبادرات من «الإسلاميين» في مجال التنمية أن يتأمّلوا ويتدبروا هذه الحقيقة، وأن ينصرفوا إلى التركيز على التغيير الجذري المستمد من الإسلام لا من الغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *