العدد 407 -

السنة الخامسة والثلاثون، ذو الحجة 1441هـ الموافق آب 2020م

سياسات رجب طيب أردوغان في ميزان الإسلام (1)

حامد عبدالعزيز- مصر

إن قراءة الواقع السياسي يجب أن تكون قراءة واعية مجردة عن المشاعر، والحكم عليه يجب أن ينبني على قواعد ثابتة، بمعنى أنه يجب أن نفهم الواقع كما هو لا كما نحب أن يكون، وأن الحكم عليه يجب أن ينبني على العقيدة الإسلامية لا أن ينبت في مراكب تتلاعب بها الأمواج والرياح، كما أن الحكم على الأشخاص والأفكار لابد من أن ينبني على قاعدة ثابتة قائمة على العقيدة الإسلامية وإلا فقدنا وعينا وتم سوقنا إلى المهالك ونحن نهلل ونستبشر، نرى الأمر نحسبه عارضًا ممطرنا فإذا هو ريح فيها عذاب أليم، أو سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!. وإنه لا ينبغي أن تسمح الأمة لأحد بخداعها وإدخالها في حالة تستنزف من طاقاتها وقدراتها ووقتها وأملها ثم تعود مخذولة يائسة، خاصة وأن بين يديها كتاب ربها الذي أنزله هدى ونورًا؛ فلا تضل ما اتخذت مقاييسها وأحكامها منه وبنتْ أفكارها على أساسه. ولقد التفَّت الأمة سابقًا حول زعامات زائفة تمَّ صناعتها صناعة هلَّلت وطبَّلت لها على مواقف زائفة وخطابات عنترية، برغم أن تلك الزعامات لم تمنع عن الأمة هزائم تتلوها هزائم ولم تردَّ يد لامس، بل أوردتها المهالك وتلاعبت بقضاياها الهامة والمصيرية لصالح أعداء الأمة، بداية من مصطفى كمال وجمال عبدالناصر وياسر عرفات، ولن تكون مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نهاية المطاف.

من هو رجب طيِّب أردوغان:

   هو من مواليد 26/2/1954م، حي قاسم باشا في إسطنبول، جاءت أسرته من محافظة ريزا شمال البلاد. التحق بمدرسة الأئمة والخطباء الدينية، ولازم نجم الدين أربكان، وتقلَّب في العديد من المناصب قبل أن يصبح عمدة إسطنبول في سنة 1994م، سجن لمدة أربعة شهور ومنع من ممارسة أي نشاط سياسي بعدما أنشد شعرًا للشاعر التركي المشهور ضياء كوك ألب الذي يقول فيه: «المساجد ثكناتنا، والقباب خوذنا، والمآذن حرابنا، والمؤمنون جنودنا)، ثم صدر عفوٌ عامّ عنه.

   بعد خروجه من حزب الفضيلة، أسس أردوغان حزب العدالة والتنمية مع صديقه عبد الله غول. وبعد وصوله إلى رئاسة الوزراء ألغى سياسات أربكان السابقة وأبرزها سياسة (التوجه شرقًا) واستمرَّ في التوجه نحو أوروبا والغرب. في سنة 1994م، قال: «إن العقيدة العلمانية التي يقوم عليها النظام التركي لا بد من إلغائها لأن الإسلام والعلمنة لا يمكن أن يتعايشا معًا، واعتبر أنه لو اعتمدت تركيا نظامًا إسلاميًا يعترف بجميع المواطنين بصفتهم مسلمين لما كانت واجهت المشكلة الكردية في جنوبي شرق البلاد»، وانتقد الدستور وقال إنه كُتب بيد (سِكِّيرين). ثم نكص على عقبيه بعد ذلك ليقول: «إنه يرى العلمانية بمثابة ضمانة للديمقراطية»، وشدَّد على عدم تشويه العلمانية بإساءة تفسيرها وإظهارها وكأنها تتعارض مع الدين. كما نفى الرجل الإسلامية عن حزبه فقال: «البعض يسموننا حزبًا إسلاميًا، والبعض الآخر يراه إسلاميًا معتدلًا؛ ولكننا لا هذا ولا ذاك، نحن حزب محافظ ديمقراطي ولسنا حزبًا دينيًا، وعلى الجميع أن يعرف ذلك»، كما صرح لجريدة السفير اللبنانية في 12/12/2009م، بقوله: «إن حزب العدالة ليس حزبًا إسلاميًا، ويرفض وصف سياسة حكومته الخارجية بالعثمانية الجديدة، ويرفض اعتبار تعاطفه مع غزة بأنه من منطلق إسلامي». ولو قرأنا مقدمة البرنامج السياسي لحزبه لتبيَّن لنا واقع هذا الحزب؛ حيث يقول البرنامج: «إن حزبنا يشكل الأرضية لوحدة وتكامل الجمهورية التركية؛ حيث العلمانية والديمقراطية ودولة القانون وصيرورات الحضارة والدمقرطة وحرية الاعتقاد والمساواة في الفرص تعتبر جوهرية».

   وبرغم وضوح كلام الرجل نجد من يجادل عنه فيصف حزبه بالإسلامي ودولته بالنموذج الذي يجب أن ينسج الإسلاميون على منواله. وكلمته المشهورة أكبر ردٍّ على هؤلاء؛ إذ قال بكل صلف «تمدُّن المسلمين لا يمكن أن ينافس تمدُّن الغرب». وعندما سُئل أربكان في حديث له مع جريدة الشرق الأوسط – قبل وفاته – عن الدوافع التي جعلت أردوغان ينشق عن حزب الفضيلة، قال: «أردوغان لم يؤسس حزبًا بمبادرة منه، بل أُعطي أوامر بتأسيس حزب، لماذا أصبح أردوغان أُلعوبة في هذا المشروع؟ لأنه لديه ضعف إزاء الموقع والمال والرئاسة والمنصب»، ثم قال: «لسنا راضين عن ولائه وكونه شريكًا للصهاينة في بعض البرامج». كما قالت أويا أكجونينش إحدى القيادات البارزة في حزب السعادة الإسلامي: «إن حزب العدالة والتنمية حزب رجال الأعمال والأثرياء، فهم أكثر من استفاد من سياسته، وهو حزب مؤيِّد لأمريكا، ومؤيِّد لأوروبا، وليبرالي في سياسته الاقتصادية». وكان كبير مستشاري عبد الله غول قد نفى إمكانية تحول تركيا إلى دولة إسلامية وقال: «إن تركيا تقوم على أسس لا يمكن تغييرها أو تعديلها، وأولها علمانية الدولة وديمقراطيتها».

   إن الذين يدافعون عن أردوغان يريدون إلباس الرجل ثوب الإسلامية عنوة، مع أنه منسجم مع نفسه وأفكاره تمامًا، فهو يقود نهجًا علمانيًا واضحًا، يفصل تمامًا بين الدين والدولة، والجانب الديني الذي يحرص على إبرازه وإظهاره هو (الجانب الطقوسي)، ولا توجد أي أدلة أو وقائع تثبت سعيه وتوجهه لتطبيق الأحكام الشرعية في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فالرجل في أكثر من مناسبة صرَّح بأنه رجل مسلم، يقود دولة علمانية، وحينما زار مصر بعد ثورة 25 يناير، قدم نصيحته للمصريين بتبني الدولة العلمانية، فلماذا يصرُّ البعض على إلباس أردوغان ثوبًا لا يريد لبسه، بل دعاهم بصريح العبارة إلى لبس ثوبه العلماني، الذي يراه حلًا ناجعًا!».

    مما لا شك فيه أن مواقف أردوغان (البطولية) في دافوس وسفينة الحرية وسحبه لسفير بلاده في دولة (يهود) لشعوره بالإهانة، وإدِّعائه الوقوف مع الشعب السوري ضد نظام بشار الطاغية، أوجدت له شعبية كبيرة في العالم العربي استفاد منها كثيرًا؛ بحيث أصبح موضع أمل الكثيرين الذين لم يتعوَّدوا على مثل هذه المواقف من زعماء بلدانهم؛ ولكن لا ننسى في خضم هذه المواقف (البطولية) حقيقة أن تركيا لاعب رئيس في مسيرة التطبيع مع (يهود) التي انخرطت فيها جميع دول المنطقة بلا استثناء. ومما لا شك فيه أيضًا أن ادِّعاء تركيا بأنها تدعم المقاومة الفلسطينية ادِّعاء ساقط، فالتطبيع ودعم المقاومة نقيضان لا يلتقيان، كما لا يجب أن ننسى أن خطوطه الحمراء في سوريا لم تنفع أهل سوريا بشيء، بل تم خنق الثورة في سوريا وتسليم المناطق التي كانت تحت يد المعارضة المسلحة إلى النظام، ومازالت المؤامرة مستمرة لتسليم ما تبقَّى من إدلب. كما أن العلاقات المميَّزة بين تركيا والولايات المتحدة وكون تركيا عضوًا في حلف الأطلسي وتربطها علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية معلنة مع يهود، يرشحها للعب دور عاقد النكاح الذي يراد إكماله بين العرب ويهود.

موقف أردوغان من قضية فلسطين والعلاقة مع كيان يهود:

    بعد سنوات من التوتر والقطيعة فى أعقاب قتل الكوماندوس (الإسرائيلى) عشرة نشطاء أتراك كانوا على متن السفينة (مافي مرمرة) التي كانت تسعى للوصول إلى قطاع غزة المحاصر في 2010م، ضحَّى أردوغان بغزة، وبالمطالبات الدولية لفك الحصار عنها، وأبرم عقب جولات مفاوضات عديدة فى عدد من المدن الأوروبية اتفاقًا لتطبيع العلاقات مع كيان يهود في 2016م، وشمل الاتفاق: عودة السفراء والزيارات، والالتزام بعدم العمل ضد بعضهما فى المنظمات الدولية، وعودة التعاون الأمني والاستخباراتي بين الطرفين. في المقابل تنازلت تركيا عن شرط رفع الحصار عن غزة مقابل السماح لها ببناء مستشفى حديث، ومحطة تحلية مياه البحر، ومحطة توليد كهرباء في القطاع.

فى 26 يونيو 2016م، زار رئيس جهاز الموساد يوسى كوهين أنقرة والتقى بنظيره التركي هكان فيدان، واتَّفقا فى هذا المجال على «عدم سماح تركيا لحركة حماس بأي أنشطة عسكرية ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي التركية، سواء من حيث التخطيط أم التوجيه أم التنفيذ، بينما تستمر حماس بالاحتفاظ بمكاتبها في تركيا للقيام بأنشطة دبلوماسية» وذلك مقابل تنازل (إسرائيل) عن شرط ومطلب طرد قادة حماس من تركيا. وفى نوفمبر 2016م، تبادل الجانبان السفراء، وعيَّنت وزارة خارجية كيان يهود الدبلوماسي، إيتان نائيه، سفيرًا لدى أنقرة، وأرسلت تركيا السفير كمال واكيم.

    وفي نوفمبر العام 2016م، عندما تعرَّض كيان يهود لموجة حرائق، أدت إلى اشتعال النيران في المستوطنات بالضفة الغربية المحتلة، عرضت تركيا إرسال طائرة إطفاء كبيرة للمساعدة في إخماد الحرائق، وكانت الحكومة التركية أول المقدِّمين للمساعدات من أجل إخماد الحرائق، وقدَّم أردوغان 3 طائرات لإطفاء الحرائق من أجل إخمادها، وقال وقتها نتانياهو، إنه يثمن هذا العرض والمساعدة التي تقدمها الحكومة التركية.

   الواقع المشاهد أن أردوغان لا يرى مشكلة في احتلال حوالى 80% من فلسطين، بل ويعتبر (إسرائيل) دولة شرعية، ولا يزال يعترف بحقها في الوجود على أرض الإسراء والمعراج، وينادي بحل الدولتين الأمريكي، ويحرض حماس على الاعتراف علنًا بـ(إسرائيل)!، وإنما يرى المشكلة فقط في المستوطنات لأنها تشكل عقبة أمام (السلام).

نقل السفارة الأمريكية إلى القدس:

   في ديسمبر 2017م هدَّد أردوغان، بقطع العلاقات مع (إسرائيل) إذا اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لها. وهذا ما لم يحدث؛ فلا هو قطع العلاقات مع كيان يهود، ولا هو اتخذ موقفًا تجاه أمريكا التي يجب أن يكون التهديد بقطع العلاقات معها هي لا مع ظلها كيان يهود. وقال أردوغان وقتها إن مثل هذه الخطوة تعدُّ تجاوزًا (لخط أحمر) بالنسبة للمسلمين. ثم أعاد نفس الكلام بعدما أقدمت أمريكا على تنفيذ خطتها بنقل السفارة بالفعل والاعتراف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل)، ففي 8 مايو 2018م، في مقابلة تلفزيونية مع  (CNN)  قال: إن قرار الولايات المتحدة بنقل سفارتها إلى مدينة القدس خطأ فادح. وفي 14 مايو خلال زيارته إلى لندن قال: «الولايات المتحدة بخطوتها الأخيرة اختارت أن تكون جزءًا من المشكلة لا الحل، وخسرت دور الوساطة في عملية السلام». ولم تكن هذه سوى مجرد تصريحات جوفاء لا أثر لها على أرض الواقع، حتى القمة الاستثنائية لمنظمة المؤتمر الإسلامي في إسطنبول التي دعا إليها أردوغان للتنديد بالانتهاكات (الإسرائيلية) بحق الشعب الفلسطيني بعد مقتل أكثر من ستين فلسطينيًا وإصابة ألفين بجروح برصاص الجيش (الإسرائيلي) على الحدود مع قطاع غزة في أحداث تزامنت مع تدشين السفارة الأمريكية الجديدة في مدينة القدس الشرقية. حتى هذه القمة لم يكن لها أثر سوى ذر الرماد في العيون من خلال كلمات الشجب والاستنكار، وقبل افتتاح القمة، أعلن أردوغان في كلمة أمام آلاف المتظاهرين الذين تجمَّعوا في وسط إسطنبول بدعوة منه لإبداء دعمهم للفلسطينيين أن العالم الإسلامي (فشل في امتحان القدس) ولم ينجح في منع انتقال السفارة الأمريكية إلى المدينة المقدسة. فالفشل هو فشل الحكام الذين يقفون موقف المتفرج مما يحدث، بل هم مشاركون في التآمر على فلسطين، سواء ممن لم يُبدِ اعتراضًا على تلك الخطوة الأمريكية، أم ممن شجب واستنكر وندَّد. فلطالما سعى أردوغان إلى تزعم العالم الإسلامي بمجرد الخطب الرنَّانة؛ حيث انخرط في حرب كلامية مع (إسرائيل) ليُعيد سيرة من سبقة من الزعماء العرب الذين تاجروا بالقضية لكسب ود الشعوب التي تنظر لقضية فلسطين باعتبارها قضية مصيرية من قضايا الأمة.

صفقة القرن والموقف التركي منها:

   أعلن الرئيس الأمريكي ترامب، يوم الثلاثاء 28/01/2020م، في مؤتمر صحفي بواشنطن (صفقة القرن) المزعومة، بحضور رئيس وزراء كيان يهود بنيامين نتنياهو. وتتضمن الخطة إقامة دولة فلسطينية (متصلة) في صورة أرخبيل تربطه جسور وأنفاق، وجعل مدينة القدس عاصمة غير مقسمة لكيان يهود. ويوم الخميس 30/01/2020م، خلال حفل توزيع جوائز الأناضول الإعلامية قال أردوغان معلقًا على صفقة القرن تلك: «إن القدس ليست للبيع»، كما قال أيضًا: «يطلقون عليها صفقة القرن، أي صفقة هذه! هذا مشروع احتلال». وأضاف: «نحن كأمة تركية، نظرتنا اليوم إلى فلسطين هي نفس نظرة السلطان عبد الحميد الثاني».

    ويذكر أنه في 5 آذار/مارس 1883م، أصدر السلطان عبد الحميد مسودة قانونية عُرفت باسم (الإرادة الثانية) تُلغي ملكية اليهود للأراضي بالكامل، وتقضي بتحريم بيع أي شبر من فلسطين لليهود، وقد ظلت هذه المسودة سارية حتى عزله عن العرش عام 1909م، وخلال تلك الحقبة، قام السلطان عبد الحميد بشراء الأراضي التي يريد أهلها بيعها. وفي عام 1896م، رفض السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله بيع فلسطين لرئيس الوكالة اليهودية ثيودور هرتزل لتأسيس دولة صهيونية تجمع الصهاينة، ويومها رد السلطان عبد الحميد على هرتزل بالقول: «أنا لا أستطيع بيع حتى ولو شبر واحد من هذه الأرض (فلسطين)؛ لأن هذه الأرض ليست ملكًا لشخصي بل هي ملك للدولة العثمانية، والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلَّى عن شبر واحد من فلسطين». وفعلًا استطاع السلطان عبد الحميد أن يحمي فلسطين والقدس والمسجد الأقصى، واستطاع أن ينسف (صفقة القرن) التي قدِم بها هرتزل، ولم يتحقق حلم الصهاينة إلا بعد أن أسقِطَت الخلافة الإسلامية العثمانية. فما الذي فعله أردوغان ردًا على صفقة القرن تلك سوى الكلام عن الخطوط الحمر التي تزداد يومًا بعد يوم.

موقف أردوغان من القضية السورية:

   قال أردوغان في 5 أيلول/ سبتمبر 2012م، إنه «إن شاء الله، سنذهب إلى دمشق في أقرب فرصة، وسنحتضن إخوتنا هناك بكل محبة. هذا اليوم ليس بعيدًا. وإن شاء الله، سنقرأ الفاتحة أمام قبر صلاح الدين الأيوبي، ونصلّي في الجامع الأموي، وسندعو بكلّ حرية من أجل إخوتنا أمام ضريح بلال الحبشي وابن عربي والتكيّة السليمانية ومحطة الحجاز»؛ لكن هذا لم يحدث، بل أكثر من ذلك قام أردوغان بتنفيذ الخطة الأمريكية في سوريا والتي تتلخص في منع النظام من السقوط، والتي كان أبرزها ما قامت به تركيا من سحب المقاتلين الموالين لها نهاية عام 2016م، للقتال في مدينة الباب لمحاربة تنظيم الدولة، في حين كانت جبهات حلب في أمس الحاجة للدعم وللمقاتلين؛ حيث استمرت معركة حصار وخنق حلب من شباط 2016م إلى أن سقطت حلب بيد النظام في ديسمبر/ كانون الأول 2016م، وهكذا ظهر للعيان أن حلب للنظام مقابل مدينة الباب للأتراك في صفقة واضحة بين الروس والأتراك. واستمرت معركة الباب قرابة ثلاثة أشهر ودخلت قوات درع الفرات المدعومة من تركيا مدينة الباب في 23/2/2017م، ومن ثم أصبحت تتوسع الجغرافيا التركية داخل الأراضي السورية مابين قتال تنظيم الدولة إلى قتال الأكراد دون المساس بالنظام الذي كان يتوسع هو الآخر في مناطق أخرى أكثر حيوية، فكانت سيطرة النظام على الغوطة الشرقية في نهاية آذار 2018م، بُعيد سيطرة القوات التابعة للعملية العسكرية التركية المسماة غصن الزيتون على مدينة عفرين في منتصف آذار 2018م. وتكرَّر السيناريو مرة أخرى في المعركة التي شنّتها تركيا وحلفاؤها على الأكراد في رأس العين وتل أبيض تحت مسمَّى نبع السلام، حتى تتمكن تركيا من السيطرة الكاملة على الحدود، وفي الوقت نفسه انتقلت مناطق واسعة من سيطرة الأكراد إلى سيطرة النظام دون قتال. وهكذا كانت كل تحركات تركيا تصحبها توسعات ومناطق تعود للنظام من جهة، ومزيدًا من السيطرة الكاملة والتحكم بالفصائل المتبقية في الثورة السورية، وكان آخرها هيئة تحرير الشام (النصرة) إثر أحداث إدلب الأخيرة وما سبقها من تفاهمات لتنفيذ اتفاقات سوتشي، وإخماد أي صوت معارض للاتفاق؛ حيث قامت هيئة تحرير الشام باعتقال أكثر من ثلاثين شابًا من حزب التحرير الذي يحرض الناس على بقاء بوصلة الثورة واحدة باتجاه إسقاط النظام من جهة، والفكاك من النفوذ الخارجي ورفض الاتفاقات الدولية الماكرة من جهة ثانية.

   أقامت تركيا 12 نقطة مراقبة داخل محافظات إدلب وريفي حماة وحلب بالاتفاق مع الجانب الروسي والإيراني بهدف تطبيق ما يعرف باتفاق خفض التصعيد في المناطق التي كانت تفصل بين قوات النظام السوري والمعارضة، ودخلت تلك المناطق حيِّز التنفيذ تحت (خفض التصعيد)؛ ولكن خفض التصعيد هذا كان من طرف واحد؛ حيث زاد النظام وحليفته روسيا من ارتكاب المجازر تحت أعين الضامن التركي، وبدأ النظام يسيطر على المناطق المتبقية تحت سيطرة المعارضة السورية.

   وبدأت المناطق السورية تتساقط تباعًا من أيدي المعارضة السورية مع اتفاقية روسية تركية تشمل تسيير دوريات عسكرية مع اتفاق الجانبين على بند (محاربة الإرهاب) في سعي موسكو للسيطرة الكاملة على الأراضي التي تقع تحت سيطرة فصائل الثورة، وآخرها كانت مدينة سراقب التابعة لمحافظة إدلب أخر معاقل الثورة السورية. ومن المعلوم أنه لمحاربة الإرهاب لابد عليك أن تتمسك بشمَّاعة، كما حصل في مدينة الباب السورية؛ حيث اتَّفقت دول العالم على محاربة (تنظيم داعش) بعد أن أعطته الضوء الأخضر في بدايات الثورة للتغلغل داخل المدن السورية حتى يبقى بشار الأسد يعمل ويقتل تحت ذريعة محاربة الإرهاب مع حلفائه.

   إن ما ارتكبه أردوغان في سوريا مثلًا يعتبر خيانة للإسلام وجريمة ضد المسلمين؛ فهو كان المساهم الأول في هزيمة الثورة، وهو يقف إلى جانب روسيا وينسق خطواته كلها معها، فكيف ينظر هؤلاء إلى أردوغان على أنه أملهم وملهمهم، وينظرون في الوقت نفسه إلى روسيا وإيران على أنهم أعدى أعداء الأمة؟!!

   أردوغان ذاك الذي سلَّم مدينة حلب على طبق من ذهب لنظام بشار بعد أن لبثت هذه المدينة العظيمة لسنوات عصيةً عليه وعلى كل من أصطفَّ إلى جانبه، روسيا وإيران وحزبها وشَبِّيحتهم وذَبِّيحتهم، عندما فتح أردوغان عملية درع الفرات تزامنًا مع هجوم النظام وأحزابه على حلب، أي في الوقت الذي كانت فيه حلب وأهلها أحوج ما يكونون إلى من يستجيب لاستغاثاتهم، فكان ما كان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

   لم يعد خافيًا على أحد أن أمريكا وخلفها روسيا لم تكن تسعى إلى إسقاط عميلها طاغية الشام؛ وإنما سعت إلى إجهاض الثورة وإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل بدايتها في 2011م؛ حيث كانت أمريكا هي المــُنفذ الفعلي لمقولة (الأسد أو نحرق البلد) وها هي الآن تحاول إنهاء ما بدأت به؛ ولعلّ الشمال السوري هو القلعة الأخيرة والحصن الأخير في هذه الثورة.

  والخطر كل الخطر في اتفاقات بوتين وأردوغان الذي أتقن وظيفة التلاعب بالفصائل الموالية له كي يتيح لروسيا ولنظام الإجرام التفرُّد بالمناطق الواحدة تلو الأخرى؛ ومن ثم السيطرة عليها، ولإخراج المسرحية جيدًا تُتَّبع سياسة القصف الجوي الوحشي المكثف على الأهالي والمدارس والأسواق والمستشفيات، مع انهيار مقصود للفصائل التي من المفترض أن تكون مستعدة لأن تدافع عن مناطقها؛ لخلق فوضى عارمة يستحيل معها ضبط الأمور، لتنطلق بعد ذلك الدعوة للاستسلام تحت مسمى حقن الدماء والمحافظة على ما تبقَّى، وتصبح خيانات جنيف وأستانة وسوتشي سقف تطلعات الثورة والناس.

[يتبع]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *