العدد 402-403-404 -

السنة الرابعة والثلاثون – رجب – شعبان – رمضان 1441هـ – أذار – نيسان – أيار 2020م

في معادلة الحرب الأميركيّة على الإسلام…ترجمات معاني القرآن الكريم: كيدٌ خفيٌّ للقضاء على مرجعية كتاب الله

الأستاذ بسّام فرحات

إنّ الغرب الاستعماري الغارق في البراغماتية والمكيافليّة ليس له ابتداءً أيّ مشكلة مع الأديان مادامت مفصولةً عن الحياة منزوعة المخالب بحيث لا تهدّد مصالحه وطريقة عيشه، بل قد يستثمر فيها ويحوّلها إلى نشاط اقتصاديٍّ ربحيٍّ، أو يركبها ويوظّفها لتخدير الشعوب وإلهائها وإضعافها والسّيطرة عليها والتحكّم بها وبمقدّراتها..إلاّ أنّ الإشكال مع الإسلام أنّه يمتلك من مقوّمات القوّة ما يمكن أن يجعله بديلاً حضاريًّا ومنافسًا سياسيًّا مستقبليًّا خطيرًا يثير مخاوفهم ويهدّدهم في وجودهم فضلاً عن مصالحهم، وذلك على غرار الشمول والكمال والنزعة الجهاديّة والتوسّع والانتشار والقدرة على صهر الشّعوب. وقد كانت الولايات المتّحدة قد تولّت نشر المبدأ الرّأسمالي بعد الحرب العالميّة الثانية، ثمّ إثر سقوط جدار برلين صارت تعمل لتُفرد هذا المبدأ عالميًّا، وقد نجحت بمساعدة العالم الحرّ في جعله أساس العلاقات والأعراف الدّولية… وبعد صدمة 11 سبتمبر 2001م، تبنّت الولايات المتّحدة حملة لعولمة العقيدة الرّأسماليّة نفسها وجعلها دين أُممٍ وشعوب الأرض كلّها بحيث لا يكتفون بتطبيق مبدئها قسْرًا بل يعتنقونها ويكيّفون مقاييسهم وقناعاتهم على أساس أفكارها ومفاهيمها.

ولئن نجحت هذه الحملة خارج العالم الإسلامي إلاّ أنّها تعثّرت داخله وتكسّرت على صخرة العقيدة الإسلاميّة الصمّاء؛ ممّا حدا بالولايات المتّحدة إلى تطوير خططها وأساليبها وإفراد العالم العربي ـ قلب الإسلام النّابض ـ بمشروعين تكميليين (الدّمقرطة ـ الشرق الأوسط الكبير أو الجديد). ومن أجل تجزئة المجزّأ وتقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت، فقد تبيّن للعمّ سام أنّ إطار (سايكس ـ بيكو) أضحى قاصرًا عن استيعاب مشاريعه المسمومة، فانعقد عزمه على إعادة صياغة المنطقة العربيّة (جغرا ـ سياسيًّا) مع تطويع العقيدة الإسلاميّة نفسها لتحقيق ذلك عبر اختراقها وفرقعتها من الدّاخل إلى إسلامات متباينة متناحرة. وعلى ضوء ذلك انخرطت الماكنة السياسيّة والعسكريّة الأميركيّة وحلفاؤها في تشذيب العقيدة الإسلاميّة وإصلاح الإسلام وصياغة مواصفاته المقبولة غربيًّا مستعينةً بالأنظمة التّابعة والنّخب العلمانيّة المرتهنة وفقهاء السلاطين في عمليّة التّوجيه الفكري للأمّة وتركيز العقيدة الرّأسماليّة في أذهان المسلمين باسم الاجتهاد والاعتدال والوسطيّة والتيسير والتجديد والمقاصد. غير أنّ هذا المطلب الإجرامي الخبيث عسير المنال ما دام القرآن الكريم ـ النصّ المرجعي المؤسّس للعقيدة الإسلاميّة ـ موحّدًا واضحًا بيّنًا مفعّلاً منزّلاً على الوقائع الجارية؛ فلا مفرّ إذًا من المبادرة بمصادرة نصوصه وآليّات فهمه واستنباط أحكامه لمسخه وتحريفه وتكريس عقمه التّشريعي وضبابيّة أحكامه وميوعتها بما قد يُفضي إلى تعدّدية مرجعيّة تؤدّي بدورها إلى شكل من أشكال التعدّدية الدّينيّة فالعقائديّة ثم السياسيّة…

الظّاهرة تحت المجهر السّياسي

إنّ أقصر وأجدى طريق للقضاء على عقيدةٍ ما وتقويض أركانها هي استهداف مصادر تشريعها ونصوصها التّأسيسيّة؛ فتفقد خصوصيّتها وتميّزها ومبدئيّتها وطاقتها التّشريعية ويؤتى بنيانها من القواعد… من هذا المنطلق شنّ منظّرو الاستعمار وفقهاؤه حرْبًا شعواء على مصادر التّشريع في الإسلام مركّزين على كتاب الله وتفنّنوا في القدح فيه ونسج الشّبهات حوله ـ جمعًا ومتنًا ولفظًا ورسمًا ورواية ـ مراوحين بين إنكاره جملةً أو ضرب مصداقيّته وحجيّته أو استنطاقه عنوةً بشهادة زور خدمةً لأغراض أسيادهم الدّنيئة، متصنّعين التجرّد والموضوعيّة والبحث العلمي النّزيه..كما حاكوا ضدّه جملةً من المشاريع المسمومة بمنتهى الخبث والدّهاء من قبيل (الصّنصرة ـ التّحريف ـ التصرّف في بنيته ـ تشويش نظامه المصحفي ـ فصله عن السنّة..) أمّا أهمّ وأخطر المشاريع التّصفويّة المستهدفة للقرآن الكريم وأكثرها مكرًا والتحافًا بحسن النيّة فهو بلا منازع فصله عن لغته العربيّة التي نزل بها عبر ترجمة معانيه إلى سائر اللّغات واللّهجات العالميّة (لتقريبه من أذهان المسلمين الأعاجم وتوضيح معانيه السّامية لأصحاب الدّيانات الأخرى) كما يزعمون. وقد استند دعاة هذه الجريمة إلى فرية استشراقيّة مفادها أنّ اللّغة العربيّة هي مجرّد قناة تبليغ لمعاني الوحي مثلها مثل باقي اللّغات، وبالتّالي يمكن استبدالها بأخرى دون حرج ودون أن يفقد كتاب الله صفته وقداسته وحجيّته ومرجعيّته بوصفه مصدر تشريع ووحيًا مقدّسًا يُتَعبّد به. وعلى هذا الأساس ودون مقدّمات انخرطت الدّوائر الغربيّة والعربيّة إثر تفجيرات 11/09/2001م في حملة عالميّة لترجمة معاني كتاب الله وتفاسيره إلى مُعظم اللّغات المحكيّة في العالم الحيّة منها وشبه الميّتة لاسيّما لغات المسلمين الأعاجم ولهجات الأقليّات العرقيّة في العالمين العربي والإسلامي؛ بحيث أحصتها ومسحتها جميعها وعبّرت بها عن معاني القرآن الكريم. النّظرة السّطحيّة المتفائلة لهذه الحيثيّات قد توحي بنزوع غربيّ صادق نحو الاستئناس بالإسلام ودراسته والتعرّف عليه عن قرب، وبسعي جدّي إلى تدعيمه وتعزيزه في صفوف الشّعوب الإسلاميّة غير النّاطقة بالعربيّة، بيد أنّ هذا الاستنتاج ـ على وجاهته الظّاهريّة ـ يستبطن عملًا سياسيًّا عدائيًّا مريبًا وراءه نيّات خبيثة وغايات استعماريّة هدّامة وغير بريئة وذلك لعدّة اعتبارات:

 أوّلاً: إنّ اللّغة العربيّة في القرآن الكريم ليست مجرّد قناة تبليغ يمكن استبدالها بأخرى، بل هي جزء لا يتجزّأ من معانيه ـ منطوقًا ومفهومًا ـ بدونها يفقد صفته وإعجازه وقداسته ومرجعيّته وطاقته التّشريعية؛ فلا تستقيم به صلاة ولا يُتعبّد بتلاوته ولا يُستنبط منه حكم…

ثانيًا: إن الترجمة في المطلق خيانة للنصّ الأصلي مهما بلغت درجة دقّتها وأمانتها ووفائها، حتى ولو أُنجزت بأيادٍ أمينة ونيّات صادقة لغايات سامية؛ وذلك لاختلاف اللّغات ـ لا لفظًا ورسمًا فحسب ـ بل سَعَةً ودقّةً وإحاطةً وبلاغةً وطاقةً تعبيريّة وقدرةً على التّجريد مصداقًا للمثل السّائر (التّرجمان خائن خوّان)…  ثالثًا: إنّ هذا السّلوك لم يكن ديدن رسول الله وصحابته والفاتحين الأوائل، فقد بلّغ عليه الصّلاة والسّلام القرآن كما نزل عليه للعرب والعجم، وكان صحابته رضوان الله عليهم يعتبرون اللّغة العربيّة جزءًا لا يتجزّأ من الكتاب والسنّة، ويحملونها للشعوب المفتوحة كما يحملون الإسلام، ويعتبرون التّعريب من مقتضيات الأسلمة…

رابعًا: أنّ ترجمة معاني القرآن الكريم ارتبطت تاريخيًّا وسياسيًّا بانحطاط المسلمين، وانفصال الطّاقة العربيّة عن الطّاقة الإسلاميّة، وتبلور العداء الفارسي الشيعي للعرب السنّة مع تأسيس الإمبراطوريّة الصّفوية، كما ارتبطت أيضًا بانخراط الغرب النّصراني بعد الحروب الصّليبيّة في احتواء الإسلام فكريًّا عبر دراسة الثقافة الإسلاميّة من منطلق الرّد عليها وانتقاصها وإثارة الشّبهات حولها كنواة للتبشير والاستشراق والغزو الثّقافي للمسلمين…

خامسًا: إنّ الانتعاشة الأخيرة التي شهدتها حركة التّرجمة لمعاني كتاب الله قد تزامنت مع حالة متقدّمة من الإسلاموفوبيا والعداء الهستيري للإسلام والمسلمين والحملة الشرسة على اللّغة العربيّة ـ لفظًا ورسمًا ـ بالتّوازي مع الحرب الأميركيّة على الإرهاب ومشاريعها المسمومة المستهدفة للمسلمين ـ أرضًا وبشرًا وعقيدةً ومقدّرات ـ على غرار الدّمقرطة والشّرق الأوسط الجديد وصولاً إلى صفقة القرن…

إن ترجمة معاني القرآن الكريم إذًا هي ظاهرة غير صحيّة، مجانبة لواقع كتاب الله العربي المبين، مخالفة لسيرة الرّسول وصحابته، محفوفة بالمزالق التقنيّة، وُلدت من رحم الانحطاط والهبوط الفكري، ونشأت في مهد الصّليبيّة والشّعوبيّة، وشبّت وترعرعت في أحضان الاستعمار والاستشراق الكولونيالي، ونضجت واشتدّ عودها في دهاليز التّحالف المسيحي الصّهيوني الصّفوي. وحسبنا تانك النسبة والهويّة اللّقيطتان المشبوهتان وتلك الولادة القيصريّة وذاك التّاريخ المشبوه المريب وهذا الحاضر الغارق في الدّماء والحروب لنضع الظاهرة برمّتها موضع الشكّ، ونوجّه إليها أصابع الاتّهام، ونخضعها لقراءة سياسيّة نقديّة مستنيرة ـ كمًّا وأصحابًا ودقّةً وتوقيتًا وعلاقةً بالمشاريع الاستعماريّة ـ عسانا نفهم هذا الاحتفاء المريب بكتاب الله، والعطف المفاجئ على المسلمين، الأعاجم وهذا الإصرار الغريب على ترجمة القرآن الكريم إلى جميع اللّغات المحكيّة في العالم…

المدوّنة في الميزان

وحتّى لا يكون كلامنا من باب التنظير الفجّ أو الإغراق في نظريّة المؤامرة، فسننطلق من استنطاق المنجز فعليًّا، أي من استقراء المدوّنة الحاصلة لتلك الترجمات ـ كمًّا وأصحابًا ودقّةً وتوقيتًا وعلاقةً بالمشاريع الاستعماريّة ـ وإنّ أوّل ما يلفت انتباهنا منذ النظرة الخارجيّة لهذه المدوّنة هو تعدّد الترجمات إلى اللغة الواحدة: فمعاني القرآن الكريم تُرجمت أكثر من 800 مرّة إلى 74 لغة ولهجة محكيّة عالميًّا، منها 100 مرّة إلى الأورديّة، و95 إلى الفارسيّة، و80 إلى الإنجليزيّة، و65 إلى التركيّة، و35 إلى الفرنسيّة، و30 إلى البنغاليّة، و22 إلى الإسبانيّة، و17 إلى الإندونيسيّة والألمانيّة والأذريّة والرّوسيّة، و15 إلى الصينيّة والإيطاليّة، و10 مرّات إلى العبريّة، و8 مرّات إلى الأمازيغيّة. هذه الملاحظة المركّزة هي حجر الزّاوية في تحليلنا، من رحمها الخصب تنسلُّ سائر الاستنتاجات؛ لكن وبحكم ورودها مادّة خامًا فإنّ استنطاقها يحتاج إلى إثرائها وتدعيمها. فمن المفيد جدًّا للتحليل أن نعرف:

 أوّلًا: إنّ أغلب هذه الترجمات صادر بشكل فوضويّ دون ضابط ولا رقيب ولا مراعاة لحرمة الكتاب، وذلك عن دوائر غير إسلاميّة، منها ما هو معروف بعدائه التقليديّ المبدئيّ الصريح والمعلن للإسلام (الصهاينة)، أو في شكل مبادرات (فرديّة) من أطراف إمّا مشبوهة أو غير مؤهّلة أو منتسبة إلى هرطقات محسوبة على الإسلام (بهائيّة ـ قاديانيّة ـ أحمديّة…) ولا نستثني من الشبهة حتّى مجَمَّع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ودونكم الترجمة العبريّة الأخيرة التي أصدرها…

ثانيًا :إنّ أغلب المترجمين يجهلون لغة الضّاد لسان القرآن الكريم جزئيًّا أو كليًّا؛ ممّا اضطرّهم إلى تهميش النصّ الأصليّ في أعمالهم والاستناد إلى كوكتيل من الترجمات بلغات مختلفة؛ ممّا يُوسّع الهوّة بين الأصل العربيّ والنّسخ المترجمة، ويُراكم من الأخطاء، ويفتح الباب أمام الدسّ والتحريف…

ثالثًا: إنّ الأقليّات الشيعيّة غرب الهند وجنوب الصحراء الأفريقيّة لم تُترجم لها المصاحف العثمانيّة، بل القرآن الشّيعي المحرّف المسمّى (قرآن فاطمة) وقد دسّ فيه غلاة الباطنيّة (سورة الولاية) من بنات أفكارهم وأضافوا (وجعلنا عليًّا صهرك) إلى سورة الشرح، وقرؤوا (إنّ علِيَّنا للهدى) )الليل: 12] ـ كما قرؤوا (وما كنت متّخذ المضلَّيْن عضدًا) بصيغة التثنية، وفسّروهما بأبي بكر وعمر… إلخ. وما لم يقدروا على تحريفه لفظًا ورسمًا حرّفوه تفسيرًا وتأويلًا على غرار قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ ) حيث فسّروا (بقرة) بأنّها أمّ المؤمنين السيّدة عائشة رضي الله عنها… إلخ. والإشكال أنّ هذا (التأويل) سينعكس على اللّفظ والمعنى أثناء الترجمة…

رابعًا: إنّ تلك الترجمات قد اتّسمت ـ كلّها ـ في أحسن الحالات بالتحريف الشّديد الذي لا يرتقي إلى الاقتباس، وفي أسوئها بالمسخ والتشويه والمغالطات الفظيعة المتعمّدة، وسنتناول فيما يلي بعض العيّنات المثيرة للتقزّز والاشمئزاز…

اليهود والتّرجمة

بالإضافة إلى التّرجمات العبريّة، فإنّ معظم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى مختلف اللّغات العالميّة كانت بإمضاء يهود صُرحاء. وغني عن التّذكير بأن الحديث عن الحياد والموضوعيّة والنّزاهة والأمانة والدقّة في تعامل اليهود مع القرآن والإسلام والمسلمين أمر يتجاوز الطّوباويّة إلى الغباء السياسي: فالدسّ على القرآن والإسلام هو ديدن اليهود منذ فجر الدّعوة، فقد كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ ) ولا غرابة أن يكون ذلك ديدنهم اليوم وهم يتصدَّون بشراسة لبوادر الصّحوة الإسلاميّة: فهم يموِّلون الترجمات المغرضة لمعاني كتاب الله ويتجشّمون مشقّة توزيع آلاف النّسخ منها ـ بالمجّان ـ لتشويه صورة الإسلام وتحريف شرائعه، ودونكم هذه العيّنات المقزّزة: فـ(هارون بن شيمش) صاحب التّرجمة العبريّة الثالثة ترجم (وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَۗ) بما يُفهم منه أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أقلّ الأنبياء مرتبةً وقيمةً وشأنًا، وعمد في المواطن التي يخاطب الله فيها بني إسرائيل (يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) إلى تحويل الخطاب إلى صيغة المفرد حتى لا تنطبق الصّفات القبيحة إلاّ على فرد واحد منهم…كما قام بتعديل بعض الآيات بما يخدم الرّوايات اليهوديّة: فالبقرة التي وصفها الله تعالى بأنّها

(صَفۡرَآءُ فَاقِعٞ لَّوۡنُهَا) حوّلها إلى حمراء انسجامًا مع إحدى الأساطير الصهيونيّة المرتبطة ببناء الهيكل المزعوم، وقد اتّسمت ترجمته عمومًا بالتّحريف الشّديد إذ افتتحها بمرثيّة لزوجته وآبائه، كما عمد إلى ضغط كل خمس آيات في آية واحدة، بما يجعل منها مجرّد اقتباس ونسخة مزيدة منقّحة. أمّا (أندريه شوراكي) صاحب الترجمة الفرنسيّة الثامنة، فقد تعمَّد التّلاعب بحدود السّور وترتيبها: فسورة الفاتحة لم يورد في البداية إلاّ نصفها متوقّفًا عند (ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ) ثمّ أورد بقيّتها في آخر الترجمة مضيفًا إليها بداية سورة البقرة… وقد تعمَّد أيضًا تخيُّر الألفاظ التي تشوّه القرآن وتحرّفه: فعوض أن يُترجم لفظ (الطّلاق) بمقابله الفرنسي(Divorce)  ترجمه بلفظ (Repudiation) التي تعني الطّرد التعسّفي ليوحي أن الإسلام يهين المرأة… كما سعى ما أمكن له إلى السّخرية من الإسلام وإخراج بعض آياته إخراجًا كاريكاتوريًّا هزليًّا، ومن ذلك أنّه ترجم لفظة (فلك) في قوله تعالى: (فِي فَلَكٖ يَسۡبَحُونَ) ـ باللّفظ الفرنسي (Felouque) أي السفينة الصّغيرة حتى تبدو الآية غير منطقيّة ومثيرة للسخرية (اللّيل والنّهار والشمس والقمر في سفينة صغيرة تسبح بهم في الفضاء)… وقد طال عبث شوراكي شخص الرّسول صلى الله عليه وسلم إذ عمد إلى ترجمة النداء في قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ) بأداة النّداء الفرنسيّة (Ohé) التي تُستعمل لتنبيه الحيوانات وحثّها على السّير… وتصل صفاقة شوراكي ذروتها حين يتجاوز حدود اللّياقة والأدب مع الذّات الإلهية جلّت وعلت: فقد تعمّد ترجمة (رحمته) في قوله تعالى: (وَٱللَّهُ يَخۡتَصُّ بِرَحۡمَتِهِۦ مَن يَشَآءُۚ) ـ باللّفظ الفرنسي (Matrice) الذي يعني رحم المرأة (هكذا) ولكم أن تتخيّلوا المعنى الذي أصبحت تفيده الآية ومدى الاستهانة بالذّات الإلهية والاستهتار بمشاعر المسلمين… هذه الأمثلة المقزّزة هي مجرّد عيّنات ممّا يمكن أن يحصل عندما يوكل أمر ترجمة معاني كتاب الله إلى أعداء الأمّة الحاقدين على الإسلام أو إلى المتطفّلين على اللّغة العربيّة والثّقافة الإسلاميّة، وقد أمكن لنا اكتشافها لأنّها وردت بلغات حيّة معروفة، أمّا الافتراءات التي خطّتها نفس تلك الأيادي القذرة بلغات محدودة ولهجات قبليّة فلا يعلمها ويحصيها إلا الله تعالى…

مصداقيّة القرآن في الميزان

على ضوء هذه المعلومات تتحرّك فينا ماكينة الشكّ المنهجيّ والحسّ السياسيّ: فلئن كانت الترجمة إلى لغات متعدّدة مبرّرة ـ على الأقل نظريّا بحكم اختلاف الألسن ـ فإنّ تعدّدها وتكرارها في نفس اللغة الواحدة أمر يبعث على الحيرة والرّيبة، فتلك العمليّة منظور إليها من زاوية التذييل الآنف لها بالضرورة مضاعفات سلبيّة تمسّ بمصداقيّة القرآن وقداسته وحُجِيَّتِه، وتهدّد بجديّة وحدة الإسلام والمسلمين بما هو النصّ المرجعيّ المؤسّس للديانة والباعث للأمّة. فلئن كانت الغاية المنطقيّة من تعدّد الترجمة إلى نفس اللغة هي التنقيح والتعديل بغاية التجويد فإنّ تكرار تلك العمليّة عشرات المرّات (100 ـ 95 ـ 80 ـ 65 ـ 35…) بشكل متزامن دون أدنى تنسيق هي عمليّة أبعد ما تكون عن السيرورة الطبيعيّة للتنقيح نشدانًا للأمثل والأقرب من النصّ الأصليّ، بل هي عبارة عن إغراق متعمَّد ومدروس للشّارع الإسلاميّ والعالميّ بفوضى من الترجمات المتباينة ـ شكلًا ومحتوًى، روحًا ومعنًى ـ ممّا يُولّد الارتباك والحيرة، ويزرع بذور الشكّ والرّيبة، ويكرّس الاستهانة والاستخفاف بالنصّ القرآنيّ، وينفي عنه لدنيّته، وينزع من القلوب احترامه وتقديسه، ويغري به متنًا وتفسيرًا. فالتعدّد يفترض التباين والاختلاف، ويؤدّي حتمًا إلى التناقض والتعارض والتشويه، كما يفترض الخطأ والسّهو وسوء الفهم والتقدير ونقص الدقّة في التعبير بحكم الاختلاف في خصائص اللّغات والتفاوت في قدرات المترجمين ـ فالترجمة خيانة في نهاية الأمر ـ وهذا باب مُشرَع على مصراعيه أمام الطعن في المصداقيّة المفترضة لذلك الكمّ الهائل من الترجمات، طعن سرعان ما ينتقل إلى القرآن نفسه. فأن يوجد في باكستان 100 رواية للقرآن الكريم، وفي إيران 95، وفي الدول النّاطقة بالإنجليزيّة 80، وفي تركيا 65… لا يقرّب دستور الإسلام من المسلمين الأعاجم ـ كما يُدّعى ويُرَوَّج له ـ بل يؤدّي إلى تمييعه وتعويمه، ويكرّس الافتراءات التي أُلصقت به من أنّه نصّ محرَّف مليء بالمتناقضات، متأثِّر بأخطاء الرواة وأهواء الجامعين ونزوات السّاسة والنوازع المذهبيّة، فلم يخلُ ـ شأنه شأن أي كتاب عاديّ ـ من الزيادة والنقصان والصنصرة والتصحيف؛ وهذا من شأنه أن يوفِّر الأجواء ويهيِّئ العقليَّات لما يخطِّط له التحالف المسيحيِّ الصهيونيِّ من ضربٍ لوحدة النصِّ القرآنيِّ ووضوحه عبر توظيف الترجمة،

أوّلًا: للحيلولة دون اتصال المسلمين الأعاجم بالنسخة الأصليّة للقرآن الكريم بما هي كتابهم المقدّس وأداة تعبُّدهم ومصدر تشريعهم الأساسيِّ…

ثانيًا: لتحريف كتاب الله بين تلك الشُّعوب؛ وبذلك تتيسّر عمليّة تنقيحه وصنصرته وإخضاعه ـ كما أصحابه المسلمين ـ لمشروع الدّمقرطة…

ثالثًا: لتكريس الضبابيّة والغموض وتعدّد الرّوايات المفضي إلى تعدّد المصاحف. فالمذاهب ثمّ الديانات وصولًا إلى خلق مُسوِّغ مذهبيٍّ دينيٍّ جديد؛ لتمزيق المسلمين وتفتيتهم، ينضاف إلى المسوِّغين العرقي ّ واللغويّ…

قداسة القرآن في الميزان

إنّ الثّالوث (لغة ـ إعجاز ـ قداسة) في القرآن الكريم متكامل إلى حدّ التماهي، فبين أضلاعه تقوم علاقة تبادليّة متشابكة بحيث تفضي إلى بعضها البعض: فاللغة العربيّة هي منشأ الإعجاز القرآنيّ، والإعجاز هو بدوره منشأ القداسة، أي أنّ قداسة القرآن الكريم هي في نهاية الأمر رهينة اللغة العربيّة مصداقًا لقوله تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِين). من هذه الزّاوية، فإنّ الترجمة الفوضويّة المغرضة لا تؤدّي إلى تعويم القرآن وامتهانه وتعدّده فحسب، بل تُفضي إلى إلغائه وإعدامه بسلبه الصفة التي تجعل منه كتاب تعبّد ومصدر تشريع ألا وهي القداسة؛ لأنّ هذه الأخيرة متولّدة أساسًا عن اتحاد معنى الوحي مع اللفظ والتركيب والأسلوب والحرف والرسم العربيّ واقترانهما بشكل يفضي إلى النظم المعجز: فاللغة العربيّة في القرآن الكريم جزء لا يتجزّأ من المعنى بدونها يفقد إعجازه وقداسته ويصبح كتابًا عاديًّا لا تستقيم به صلاة ولا تصحّ عبادة، كما يفقد ـ وهذا الأهمّ ـ مرجعيّته التشريعيّة كدستور تُستمدّ منه الأحكام والقوانين. فالاجتهاد هو بالأساس فعل في اللّغة العربيّة؛ لأنّ المراد من خطاب الله هو ما دلّ عليه الكلام العربيّ بالفهم العربيّ للألفاظ والأساليب العربيّة. أمّا الترجمة فهي ـ بالكاد ـ تفسير بلغة أجنبيّة لا يرقى لأن يكون مصدر تشريع؛ لأنّ تغيير اللغة الأصليّة للقرآن لا ينقل إلاّ جزءًا بسيطًا من منطوقه فحسب، فضلًا عن مفهومه. فاللّغة والحضارة وجهان لعملة واحدة بحيث لا يمكن التعبير عن حضارة ما إلاّ بلغتها، ويتأكّد هذا مع النّصوص العقائديّة الدينيّة، وهل أكثر اختزالًا للحضارة الإسلاميّة من القرآن الكريم؟؟ وبذلك يتجلّى الوجه القبيح للترجمة: فهي عمليّة سحب للقرآن من بين أيدي المسلمين الأعاجم وتحريف لمعانيه وطمس لتشاريعه وحيلولة دون فهمه وتفعيله وتفجير طاقته، وهي بالتّالي تصفية جسديّة له ككتاب مقدَّس يختزل عقيدة وشريعة ويوحّد أمّة، وهذه خدمة لا تُقدّر بثمن للجهود الغربيّة المبذولة في عولمة العقيدة الرّأسماليّة واجتثاث الإرهاب/الإسلام وتجفيف منابعه بوصفها رافدًا فكريًّا ثقافيًّا حضاريًّا للمناورات السياسيّة والجبهات العسكريّة المشتعلة في العالم الإسلاميّ…

وحدة المسلمين في الميزان

وتتجاوز المضاعفات الخطيرة للترجمة القرآنَ نفسَه لتطال أيضًا الكيان العقائديَّ والسياسيَّ للمسلمين؛ بحكم أنّه النصّ المؤسّس للمبدأ الإسلاميّ الذي قامت عليه دولة الخلافة الإسلاميّة. فهذه العمليّة تندرج في إطار تفكيك العالم الإسلاميِّ الثريِّ بالمذاهب والأعراق واللغات قبل إعادة تركيبه مجزّأً وفق مصالح الكافر المستعمر، وذلك: أوّلًا: عبر الفصل بين العرب والعجم وفكّ الرّابط العقائديّ الذي يجمعهم (القرآن العربيّ)، ثانيًا: عبر تفتيت العالم العربيّ بتشجيع الأقليّات العرقيّة والإثنيّة المكوّنة لنسيجه البشريّ على الانفصال والحيلولة دون انصهارها مع العنصر العربيّ في بوتقة العقيدة الإسلاميّة. فبثّ النزعة القوميّة في تلك الأقليّات وإحياء لغاتها ولهجاتها الأُحفوريّة وترجمة كتاب الله إليها هو من باب تزويدها بمقوّمات الانفصال و(أكسسواراته) قبل تجنيدها وتوظيفها وقودًا لحرب الأمّة وإنهاك جسدها؛ ذلك أنّ المشاريع الاستعماريّة المستهدفة للمسلمين قد تكسّرت كلّها على صخرة العقيدة الإسلاميّة، فهي بمثابة الملاط والإسمنت المسلّح الذي شدَّ ومازال لبنات العالم الإسلاميّ والبوتقة التي انصهرت فيها تلك الفسيفساء من الأعراق واللغات والإثنيّات رغم التقسيم الاستعماريِّ المصطنع والقسريّ. وأمام استحالة انتزاع هذه العقيدة من صدور المسلمين؛ فلا أقلّ من تحويلها من عامل بناء وقوّة وتوحيد ونهضة ورقيّ إلى معول هدم وتفرقة وضعف وتفكّك وانحطاط وتخلّف بفرقعتها من الدّاخل إلى إسلامات (اقليميّة ـ وطنيّة ـ عرقيّة ـ مذهبيّة ـ طرقيّة..) متباينة في مواصفاتها ـ عقيدةً وشريعةً وطقوسًا ومقدّساتٍ ـ متناحرة متعادية متقاتلة فيما بينها. هذا المطلب يبدو عزيز المنال مادام النصّ المرجعيّ المؤسّس للعقيدة مُوَحَّدًا؛ فلا مفرّ إذًا من المبادرة بضرب وحدة القرآن الكريم لخلق تعدّديّة مرجعيّة تفضي إلى شكل من التعدّديّة الدينيّة من قبيل: لكلّ وطنٍ إسلامُه وقرآنُه، ولكلّ مذهب إسلامه وقرآنه، وكذا لكلّ عرقيّة وإثنيّة وأقليّة لغويّة أو لهجيّة؛ وذلك عبر آليّات عديدة لعلّ أشدّها خبثًا ومكرًا فرض مذهب فقهيّ ورواية قرآنيّة لكلّ قطر وخاصّة الترجمة الفوضويّة المغرضة لكتاب الله؛ وبهذا يتّضح لنا بجلاء أنّ هذه الترجمة قد وُظّفت لتكريس المشاريع الأميركيّة المستهدفة للإسلام والمسلمين (الدمقرطة ـ التجزئة والتقسيم والتفتيت ـ عولمة العقيدة الرّأسماليّة) بل إنّها أُخضِعت لتهيئة المسلمين للقبول بصفقة القرن، ودونكم الترجمة العبريّة الأخيرة (العاشرة). وقبل الخوض فيها نؤطّر المسألة سياسيًّا، ونضعها في سياقها التّاريخيّ…

المأزق الإسرائيلي

إن مشكلة كيان يهود ليست في الوجود ـ فهذا متيسِّر، وقد تحقق فعلًا سنة 1948م ـ ولكن المأزق (الإسرائيلي) الفعلي يتمثل في الثبات والاستمرار والدّيمومة. فالاستعمار إذا بقي جسمًا غريبًا منبوذًا لا يعترف به أصحاب الأرض، فإن مصيره لا محالة إلى زوال ولو استوطن المنطقة أجيالًا متعاقبة، ودونك الصّليبيون في المشرق. هذا الدرس التاريخي السياسي لم يكن ليغيب عن دهاقنة الإمبريالية والصهيونية الذين فطنوا إلى أن المشروع الصهيوني على أرض فلسطين إذا تحقق بالحديد والنار فإن مآله الفشل الذّريع؛ لأن المهم ليس اغتصاب الأرض بل الاستقرار فيها وخلق أجواء أمنية ملائمة للنهب والتهويد، وإن الطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو أن تهضمهم المنطقة ويسلّم أهلها بهذا الاغتصاب ويزكّوه ويرضَوا به؛ إلاّ أنّ ما تحقّق طيلة العقود الستّة الأولى من الصّراع لا يعدو أن يكون اعترافًا شكليًّا منتَزعًا بالحديد والنّار والخيانات والقرارات الأمميّة الجائرة محسوبًا على الأنظمة العلمانيّة المــُنصَّبة على رقاب العرب، وهذا لا يُلبّي احتياجات (إسرائيل) الأمنيّة؛ لأنّه حبرٌ على ورق؛ فالعمق الشّعبي الإسلامي مازال رافضًا لاسيما مع تمادي المستوطنين في غطرستهم؛ لذلك يجب العمل على انتزاع الاعتراف من أفواه الإسلاميّين أصحاب الحق الشّرعيين حتّى يكتسب مصداقيّة ويكون قابلاً للتجسّد على أرض الواقع؛ خاصّةً وقد فقدت (فتح) مصداقيّتها وافتضحت عمالتها ولم تعد مؤهّلة للتّنازل باسم الفلسطينيّين فضلًا عن العرب والمسلمين. من هذا المنطلق سعى اليهود وحلفاؤهم إلى توريط آخر قلاع الصّمود والنّزاهة، أي الحركات الإسلاميّة ـ وأكثرها شعبيّة (حماس) ـ فدمجوها سنة 2006م في العمليّة السّياسية لتصبح طرفًا في السّلطة القائمة على اتّفاقات أوسلو وترث عنها كلّ تنازلاتها، ثمّ أخضعوها للضغوطات السّياسيّة والعسكريّة لتنتهي إلى ما انتهت إليه (فتح) من التّدرج في الاعتراف بـ(إسرائيل) وترويض أتباعها، وقد تحقّق ذلك سنة 2017م مع (وثيقة حماس) التي تنصّلت فيها الحركة من مرجعيّتها الإسلاميّة وتبرّأت من (تهم) التطرّف واللاَّساميّة، ورضيت بالعمل تحت مظلّة (فتح) وقبلت بدويلة على أراضي 1967م في اعتراف ضمني بكيان يهود على أراضي 1948م. هذه التنازلات الخيانيّة التي انخرطت فيها (حماس) ألحقتها في أعين الفلسطينيّين بحركة (فتح) وأفقدتها بالتالي مصداقيّتها وأهليّتها لتمثيل الشعب وسائر العرب والمسلمين في الصّراع مع كيان يهود؛ إلاّ أنّها لم تنفِ عن الصّراع مرجعيّته الإسلاميّة، ولم تجرّد الإسلاميّين من القوامة على فلسطين ومقدّساتها، بل جرَّدت (حماس) من الصفة الإسلاميّة، وبقي الإسلام والإسلاميّون معقد آمال الشعب الفلسطيني والأمّة الإسلاميّة في استعادة الأقصى وتطهير أولى القبلتين من دنس يهود. وبالتالي وجدت (إسرائيل) نفسها في المربّع الأوّل لهواجسها الأمنيّة، فكلّ المناورات السياسيّة والعسكريّة التي قامت بها مع صنائعها وأزلامها لم تثبّط همم المسلمين ولم تقتل فيهم الأمل في تحرير فلسطين وتحقيق وعد الله تعالى؛ لذلك يجب الانتقال إلى الإحباط العقائديّ، أي إلى اختراق المرجعيّة الإسلاميّة للصّراع وجرّ العقيدة الإسلاميّة نفسها للتطبيع؛ بما يُفضي إلى إطفاء جذوة الأمل والثقة في نبع الخيرية الإسلاميّة الدفّاق في الأمّة ويدفع المسلمين قسرًا إلى الإذعان للأمر الواقع (الإسرائيليّ). فمع استحالة انتزاع العقيدة الإسلاميّة من صدور المسلمين وحرفهم عن التسليم الطّوعي لها وإقصائها من مرجعيّة الصّراع؛ فلا أقلّ من ركوبها وتوظيفها وتطويعها لخدمة مشروع التحالف المسيحي الصهيوني في أرض المسرى والمعراج؛ وهذا يقتضي إخضاع القرآن الكريم للدّمقرطة ومحاربة الإرهاب عبر تنقيته من آيات السّيف والجهاد والآيات (اللاَّساميّة) التي تهاجم اليهود وتفضح إجرامهم، والآيات التي تقرّ بأحقّية المسلمين بالأرض المباركة ومقدّساتها، ثمّ استنطاقه بما يجيز شرعًا التفريط فيها ليهود، أي انتزاع الاعتراف والتطبيع على القرآن الكريم وصياغته وحيًا لدنيًّا مقدّسًا؛ عساهم يحقّقون مبتغاهم ألا وهو اعتراف الأمّة الإسلاميّة بتلك الجريمة وقبولها بها وتسليمها للأمر الواقع (الإسرائيليّ) ليتحقّق ليهود هاجس الأمن والأمان والاستقرار… 

ترجمة صفقة القرن

هذا المطلب العزيز المنال يستحيل إخضاع النسخة العربيّة الأصليّة للقرآن الكريم لمقتضياته، فهي منقوشة في صدور الرّجال قبل سطور المصاحف العثمانيّة؛ ولكن يمكن له ـ نظريًّا ـ أن يتحقّق في لغة أخرى عبر التّرجمات المغرضة لمعاني كتاب الله. على هذا الأساس ودون سابق إنذار أو حاجة ملحّة وبشكل متزامن ومتوازٍ مع صفقة القرن، أطلقت وزارة الشؤون الإسلاميّة بالمملكة العربيّة السعوديّة حملة لترجمة معاني كتاب الله إلى 74 لغة ولهجة محكيّة في العالم بإشراف وإنتاج مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، ومن بين أبرز تلك الترجمات نجد واحدة إلى اللّغة العبريّة، وقد أنجزها الدّكتور (أسعد نمر بصولي) وهو فلسطيني مسلم مقيم بأميركا منذ 20 سنة، كما راجعها أيضًا الدّكتور الفلسطيني المسلم (تيسير حسن محمّد العزّام)..إلاّ أنّ الباحث الفلسطيني (علاء الدّين حمّاد أحمد) رصد في هذه الترجمة أكثر من 300 خطأ تتراوح بين أخطاء معنويّة معرفيّة في ترجمة الألفاظ، وأخرى في ترجمة المتشابه، وأخرى مطبعيّة بزيادة أو نقصان حرف أو أكثر مع تعمّد إدخال «الإسرائيليّات» المزيّفة والمحرّفة وخلطها بالقرآن الكريم من قبيل أنّ الذّبيح هو إسحاق وليس إسماعيل، وأنّ سيّدنا إبراهيم له ولدان (إسحاق ويعقوب) دون إسماعيل، وهي أخطاء تمسّ العقيدة الإسلاميّة نفسها وتتماشى مع الرّوايات اليهوديّة.  وأوّل خطأ رصده الباحث يتعلّق بترجمة الاسم (القرآن الكريم) حيث أُسقطت عنه صفة (الكريم) وأعطي صفةً أخرى، كما ترجم (أهل الكتاب) بالنّصارى فحسب وأُسقط اليهود من السياقات التي جُمعوا فيها مع النّصارى ( وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ لَيۡسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ )، هذا إلى جانب حذف اسم النّبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم من قائمة الأنبياء المرفقة بالتّرجمة. ومن بين الأخطاء التي شكَّلت صدمة للباحث اعتماد المترجم مصطلح (الهيكل) بدل (المسجد الأقصى) في الآية الأولى من سورة الإسراء (سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا) وكذلك اعتماد لفظ (الحكم) بدل (الفتح) في الآية 28 من سورة السجدة (وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا ٱلۡفَتۡحُ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ٢٨)، وفي نفس الفترة وبشكل مريب أطلقت الإمارات طبعة جديدة للمصحف الشريف استُبدِل فيها اسم (سورة الإسراء) باسم (سورة بني إسرائيل) وحتى نفهم هذه الخطوة الوقحة تجاه كتاب الله لابدّ لنا من النّبش في الذّهنيّة اليهوديّة لنعرف كيف ينظرون إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم: إنّ المترجمين اليهود ينطلقون من مصادرة عقائديّة ملخَّصها أنّ القرآن الكريم (كتاب مليء بالمتناقضات، تلقّفه محمّد من أفواه القساوسة والحاخامات بعد أن نهل من التّوراة والإنجيل والتلمود، وهو لم يضِفْ شيئًا عمّا جاء في التّوراة إلاّ في الأمور التّفصيليّة) وبذلك فإنّ الإسلام ليس إلاّ (يهوديّةً عربيّة تلائم العرب بمُتغيّراتهم). وقد لخّص (أندري شوراكي) هذه النّظرة بقوله: «إنّ القرآن في نسخته الأصليّة كُتب بالعبريّة ثم تُرجم إلى العربيّة ترجمةً سيّئة» بهذه الافتراءات تكتمل معالم الحلّ اليهودي للقضيّة الفلسطينيّة كاشفةً عن رسالة سياسيّة عقائديّة موجّهة إلى المسلمين فيها استنطاق للعقيدة الإسلاميّة بالمشروع الصّهيوني في فلسطين وتحميلٌ لها به عسى ذلك أن يساعد المسلمين على هضم صفقة القرن والقبول بها، أمّا فحوى الرّسالة (نحن اليهود نشاطر المسلمين في الاحتكام إلى المرجعيّة الإسلاميّة في صراعنا من أجل فلسطين؛ ولكنّنا أكثر منهم وفاءً إلى تلك المرجعيّة: فقد عُدنا بها إلى صيغتها الأولى ونصّها الأصلي في لغته التي أُلِّف بها قبل ترجمته إلى العربيّة. وقد وجدناه ناطقًا صراحةً بالمشروع الصّهيوني في فلسطين، يعترف بالهيكل ويُقرّ بإعادة بنائه مكان المسجد الأقصى، كما يبشّر بالحكومة العالميّة التي يُنظِّر لها إخواننا الماسون (متى هذا الحكم). وإن كنتم في ريبٍ من هذه المقالة، فقد نطق بها وأثبتها مسلمان فلسطينيّان ترجمةً ومراجعةً وهما من أصحاب الحقّ بكلّ المقاييس والاعتبارات؛ وبهذا يسقط الحاجز النّفسي العقائدي الذي يحول دون التّطبيع، فالرّضا بالأمر الواقع (الإسرائيلي) ليس خيانةً للأمانة ولا تفريطًا في المقدّسات بل هو عودةٌ إلى خيمة جدّنا إبراهيم… ثمّ أنتم المسلمون لا خيار لكم، فصفقة القرن مفروضة بالحديد والنّار ولا تقبل المناقشة، وهي فرصة لا تُعوَّض فلا تضيّعوها؛ وإلاّ فإنّ مصير مسلمي الصّين والهند ينتظركم). وقد لخّص رئيس الوزراء (الإسرائيليّ) (بنيامين نتنياهو) هذا المنزع في الحجر على الإسلام والمسلمين بقوله «سنصنع لهم إسلامًا يناسبنا، إسلامًا جديدًا يمكّننا من الوصول إلى أهدافنا، إسلامًا يبيح القتل وسفك الدّماء ونشر الرّذيلة والفوضى… سنقوم بتغذية الطّائفيّة ثمّ نقوم بتسليحهم فيبدأ الاقتتال، وبعدها يتمّ تقسيم العالم العربيّ على أساس طائفيّ دينيّ؛ فنضمن استمراريّة القتال الدّاخليّ، ونضمن التخلّف وعدم النموّ… والأهمّ من هذا وذاك أنّهم سيحاربون جيوشهم بدلًا منّا وعوضًا عنّا؛ ممّا يوفّر علينا الكثير من الجنود والأموال».

هذه الخطة من القيام بكبر ترجمة معاني القرآن على هذه الطريقة الماكرة لا بد من وعي المسلمين عليها، وتفويت أهدافها، فهم بها لا يريدون تمرير مخططاتهم الخبيثة على المسلمين كصفقة القرن فحسب، بل أكثر من ذلك بكثير، إنهم يريدون تبديل دين الله، يريدون القضاء على وحدة المسلمين في عقيدتهم وفي تشريعاتهم، وفي وحدتهم السياسية، هذا وقد وصف الله وتعالى مكرهم بقوله: (وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ٤٦). وعلى المسلمين أن يفوِّتوا عليهم مكرهم بتتبعه وردِّه والأخذ عليه باليد وتحقيق قوله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ ٱلۡمَكۡرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهۡلِهِۦۚ).  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *