العدد 400-401 -

السنة الرابعة والثلاثون، جمادى الأولى وجمادى الآخرة 1441هـ ، كانون الثاني وشباط 2020م

صفات الجيش المنتصر في ضوء غزوة بدر الكبرى

 صفات الجيش المنتصر في ضوء غزوة بدر الكبرى

 

عَن مُعاذِ بنِ رِفاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَن أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهلِ بَدرٍ، قَالَ: «جَاءَ جِبريلُ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ما تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُم؟ قَالَ: مِن أَفْضَلِ المـُسلِمينَ أَوِ كَلِمَةً نَحوَها. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَن شَهِدَ بَدرًا مِنَ المَلائِكَةِ» (صحيح البخاري). جاءت نتائج غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان سنة 2ه كالصاعقة التي نزلت على كفار قريش، وكالزلزال الذي كان لارتداداته أكبر الأثر في تحديد بوصلة الصراع الفكري والمادي بين الحق والباطل؛ فقد قويت شوكة المسلمين ودولتهم الناشئة في المدينة المنورة وارتفع صوت الإسلام عاليًا، وزادت ثقة المسلمين بدينهم وبأنفسهم، من بعد ثلاثَ عشرة سنة من استضعاف كفار قريش لهم في مكة المكرمة. مقابل ذلك انكسرت هيبة قريش، وسقط خُيلاؤها بعد أن صُرع فلذات أكبادها فرسى أمام جيش المسلمين الذي لم يكن قد خرج بعدة مناسبة للقاء حربي، وإنما كان خروجه لاعتراض قافلة أبي سفيان القادمة من الشام. فتجلَّت إرادة الله سبحانه بأن تتحول مجريات الأمور من اعتراض للعير واغتنام تجارتها، إلى صدام عسكري ومعركة حقيقية بين المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش بقيادة أبي جهل بن هشام، هذا مع وجود الفارق الكبير بين عديد وعدة الفريقين. ويحسن بنا أن نقف أمام صفات الجيش البدري العظيم الذي كتب الله هذا النصر على يديه بالدراسة والتحليل، ومن ثم الخروج بالأسباب التي بسببها استحق المسلمون النصر في غزوة بدر الكبرى، آخذين بعين الاعتبار حقيقتين:

الأولى: إن النصر مِنَّةٌ وفضل من الله تبارك وتعالى يمُنُّ به على عباده المستحقين لهذا النصر. فالنصر من عند الله وحده، وليس من عند المسلمين مهما بلغ عديدهم وقويت عُدتهم. قال تعالى: (وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) لذا يجب على المسلمين أن يؤمنوا بهذه الحقيقة، حقيقة كون النصر حصرًا وقصرًا من عند الله، وأن هذه الحقيقة من العقائد التي يجب الإيمان بها. وأما ما يبذله المسلمون من إعداد وتخطيط، فهو أمر تشريعي تكليفي مختلف. فالله سبحانه فرض على المسلمين أن يأخذوا بأسباب النصر ضمن استطاعتهم كبشر تعبَّدًا واستجابةً له بهذه الأسباب، لا اعتمادًا عليها، أو ركونًا إليها، أو اعتبارًا لها بأنها هي التي جلبت النصر. قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ) . فكون النصر من عند الله وحده مسألة، وهي من العقائد. وكون أن المسلمين مكلَّفون بالأخذ بأسباب النصر طاعة لله سبحانه، وأن أخذهم بأسبابه شرط يلزم من عدم وجوده عدم وجود النصر ولا يلزم من وجوده وجود النصر ولا عدم وجوده، مسألة أخرى، وهي من الأحكام.

الثانية: إن نصر الله الذي أنزله على الجيش البدري في غزوة بدر ليس حكرًا على أهل بدر دون غيرهم من المسلمين، بل هو سنة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل. فكل جيش إسلامي تتوفر فيه صفات الجيش البدري، كان حقًا على الله أن يُنزل النصر عليه في كل زمان ومكان تمامًا كما أنزله على أهل بدر. فقد انتصر المسلمون في مواطن كثيرة، في بدر وغير بدر، ومعارك المسلمين التي تنطق بذلك أكثر من أن تُحصى. ونعرض فيما يلي أبرز سمات الجيش البدري العظيم التي كانت سببًا في استحقاق المسلمين لنصر الله تعالى يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.

الجيش البدري والدولة الإسلامية:

      أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة بعد هجرته من مكة المكرمة؛ فكانت هجرته والمسلمين معه إيذانًا ببدء فترة دعوية جديدة تعيَّنت بموجبها طبيعة الصراع بين الإسلام والكفر، من صراع فكري وسياسي كَفَّ به المسلمون أيديهم عن قتال المشركين أول الأمر في مكة المكرمة، إلى صدام عسكري دموي يُخضع الكفار كل الكفار لسيادة الإسلام وسلطان المسلمين طوعًا أو كرهًا؛ لإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. فالبداية كانت بإقامة الدولة الإسلامية، والتي هي الكيان السياسي للمسلمين الذي يرعى شؤونهم بأحكام الإسلام داخليًا بتطبيقها عليهم، وخارجيًا بحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم بالجهاد. والجهاد هو الطريقة الشرعية لحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وهو مركز السياسة الخارجية للدولة الإسلامية، ولا يتم الجهاد إلا بالقوة العسكرية – الجيش – والدولة هي التي تُجيَّش الجيوش وتنفرها للجهاد في سبيل الله.

      لذلك فإن الجيش أي جيش لا  يُسمى جيشًا ولا تتوفر فيه الصفاتُ الحربية اللازمة لكل جيش إلا إذا تأسس هذا الجيش ابتداءً بقرار سياسي، قرار الدولة والخليفة، ولا يقوم هذا الجيش بوظيفته حمل الدعوة بالجهاد إلا بتنفيذ قرار الحرب والسلم الذي يصدر عن من بيده هذا القرار، وهو خليفة المسلمين. عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أُمِرتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشهَدُوا أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحمَّدًا رَسولُ اللَّهِ…» ) صحيح البخاري(فالرسول عليه الصلاة والسلام بوصفه الحاكم وصاحب القرار السياسي للدولة هو الذي أصدر قرار الخروج لاعتراض قافلة أبي سفيان، وهو الذي اتخذ قرار الحرب بعد تغير المجريات من ملاحقة لقافلة إلى قتال ومواجهة عسكرية مع قريش. فالدولة هي نقطة الارتكاز التي يخرج الجيش للقتال بقرارها، فيقوم بمهمته ثم يرجع إلى قواعده فيها، ويفيء ويتحيَّز إلى فئتها إن دَهَمه عدوٌّ لا قِبلَ له به. عَنِ ابنِ عُمَرَ قالَ: «بَعَثَنا رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيَّةٍ، فَحاصَ النَّاسُ حيصَةً، فَقَدِمنا المدِينَةَ فَاختَبَأْنا بِها، وقُلنا: هَلَكنا، ثُمَّ أَتَينا رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلنا: يا رَسولَ اللَّه، نَحنُ الفَرَّارونَ، قال:» بَل أَنتُمُ العَكَّارونَ، وَأَنا فِئَتُكُم» (سنن الترمذي: حديث حسن، ومعنى قوله: فحاص الناس حيصةً: يَعني أنهم فرُّوا من القتال، ومعنى قوله: بل أنتم العكَّارون: والعَكَّارُ الذي يفِرُّ إلى إمامه لينصره ليس يريد الفرارَ مِنَ الزَّحفِ(. وعلى هذا فالجيش البدري جهاز من أجهزة الدولة الإسلامية، يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها. وليست كذلك جيوش المسلمين اليوم على كثرة عديدها، ووفرة عُدّتها. فجيوش المسلمين موجودة نعم وبالملايين، ولكن أين الإمام الجُنَّة خليفة المسلمين الذي يُحرِّكها لقتال الكفار المداهمين لبلاد المسلمين؟.

      إن غياب دولة الخلافة الإسلامية أقعد جيوش المسلمين الجرارة في ثكناتها، ينتظر جنديُّها وضابطها راتبه آخر الشهر دون أن تغبرَّ قدماه ساعةً في سبيل نصرة فلسطين وأقصاها، والشام وحرائرها، والروهينجا وأطفالها… بل إن الكافر المستعمر عبر أدواته الحكام العملاء وضع هذه الجيوش في خندقه يضرب بها ويقتل أبناء المسلمين في كثير من الأحيان، في ميدان التحرير ورابعة العدوية بمصر الكنانة، وفي الشام حيث استأسد مرتزقة بشار البعثي، وميليشيا إيران وحزبها، على أهل الشام الثائرين على طغيان النظام البعثي المجرم… بعد أن لبث هؤلاء ونظائرهم من الحكام الخونة في ثكناتهم ردحًا من الزمن لم يُلوِّحوا ببندقية ولو مجرد تلويح في وجه كيان يهود المغتصب للأرض المباركة فلسطين!

القيادة الحازمة والتخطيط الدقيق:

      بعد نجاة قافلة أبي سفيان، وخروج كفار قريش لنجدتها، تأكد للنبي صلى الله عليه وسلم أن القتال بات أمرًا لا بد منه، ولكنه، عليه الصلاة والسلام، لم يخرج لقتال، ولم يتجهَّز بعدة المحارب، وإمكانية طلب المدد والعدد أضحت صعبة؛ بسبب بعد المسافة عن مقر الدولة، المدينة المنورة، وصار الموقف جِدَّ حرجٍ، أَيرجِعُ المسلمون من وجه قريش؛ فتقول العرب: فَرَّ محمدٌ ومن معه وجبُنوا عن مواجهة قريش؟ وفي ذلك كسر لهيبة المسلمين ودولتهم الناشئة، بل وتوهين لقوة الفكرة الإسلامية ذاتها في نفوس المسلمين أنفسهم، ولدى قبائل العرب المشركة التي تراقب الحدث عن بُعد تنتظر على أحر من الجمر لتعرف على من تكون الدائرة. وبالمقابل تنتفش قريش وترجع إلى قومها فيلعب فتيانها بسيوفهم وسط القَينات أمام أصنام الضلال، ويعاقرون أقداح الخمر في أنديتهم، ثم ينظُم الشعراء أشعار الفخر والظفر على المسلمين، وتتحدث جزيرة العرب كلها، بل واليهود والمنافقون من قُدامِها، والروم والفرس من خلفها، أن محمدًا وأصحابه عادوا من حيث خرجوا بِخُفَّي حُنين لم يلووا على شيءٍ؛ ومن ثم يكون للحدث تداعيات إعلامية وخيمة ومؤثرة في الرأي العام، محليًا في المدينة المنورة حيث اليهود والمنافقون، وإقليميًا حيث القبائل العربية المنتشرة في الجزيرة العربية طولًا وعرضًا، ودوليًا حيث الروم والفرس دول العالم الكبرى المجاورة لجزيرة العرب… فما العمل: أيرجع المسلمون، أم يخوضون المعركة ويتحملون كل تداعياتها؟.

هنالك وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أصحابه قائلًا: «أشيروا عَليَّ أيها الناس» فسمع من أبي بكر وعمر والمقداد بن الأسود ما يُحب. ثم قالها ثانية: «أشيروا عليَّ أيها الناس». وكان يريد بكلمته هذه الأنصار الذين بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، وكان يتخوَّف أن لا يكون الأنصار يرون عليهم نصره إلاّ ممن دهمه بالمدينة من عدوِّه. فلما أحس الأنصار أنه يريدهم، وكان سعد بن معاذ صاحب رايته، التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال:  «أجل». قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك. فوالذي بعثك، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلَّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فسر بنا على بركة الله. ولم يكد سعد يتم كلامه حتى أشرق وجهه صلى الله عليه وسلم بالمسرَّة، وقال: «سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم» )كتاب: الدولة الإسلامية(.

بهذا الأسلوب القيادي، استطاع الرسول، عليه الصلاة والسلام، أن يرتفع بنفسية المسلمين وهمتهم عاليًا، إِذْ بشرهم بالنصر قبل وقوع المعركة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، استصدر الرسول صلى الله عليه وسلم قرار القتال عن رضى واختيار من أفراد الجيش عبر ممثليهم من المهاجرين والأنصار، أبي بكر وعمر والمقداد وسعد بن معاذ رضي الله عنه، ولعل ذلك أدعى للإقبال في القتال والثبات في أرض المعركة مهما بلغت شوكة العدو. ولم يبقَ بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم إلا الوقوف على الإحداثيات اللازمة قبل بدء القتال، من معرفة لمكان العدو وعدده وعُدته، وتحديد موضع معسكر الجيش وموقع المعركة، ورسم خطة الحرب بما يتناسب مع الإحداثيات التي رصدتها المخابرات الإسلامية. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ». قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ»، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ… وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا: أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ، وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ». فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ… «قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا، وَدَعَا لَهُ بِخَيْر» )سيرة ابن هشام: ج: 1، ص: 616 – 621 (.

ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يُنظم صفوف جيشه ويرتبها. قال محمد بْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني حِبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ بْنِ وَاسِعٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَدَلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قَدَحٌ يَعْدِلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسُوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ، حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ مُستَنتِلٌ مِنَ الصَّفِّ، فَطَعَنهُ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَطْنِهِ بِالْقَدَحِ، وَقَالَ: «اسْتَوِ يَا سَوادُ بنُ غَزِيَّةَ»…)تاريخ الطبري: ج: 2، ص: 446(. وَاستَعمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلى المـُـــشَاةِ وَهُم فِي السَّاقَةِ: قَيسَ بنَ أَبي صَعصَعةَ عَمرو بنَ زَيدِ بنِ عَوفِ بنِ مَبذولِ، وَأَمرَهُ حِينَ فَصَلَ مِنَ السُّقيا أَن يَعُدَّ المسلِمِينَ، فَوقَفَ لَهُم عِندَ بِئرِ أَبي عَنبةَ، فَعَدَّهُم ثُمَّ أَخبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدَّمَ أَمَامَهُ عَينَينِ لَهُ إِلى المـُشركينَ يَأْتِيانِهِ بِخَبَرِ عَدُوِّهِ، وَهُما: بَسبَسُ بنُ عَمرو، وَعدِيُّ بنُ أَبي الزَّغباءِ، وَهُمَا مِن جُهَينَةَ حَليفَانِ للأَنصارِ. فَانتَهَيَا إِلى مَاءِ بَدرٍ، فَعَلِما الخَبَرَ، وَرَجَعا إِلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. )إمتاع الأسماع: ج: 1، ص: 84(.

وبعد هذا الاستعراض الموجز لفن القيادة وحسن التخطيط في غزوة بدر الكبرى، نستدير قليلًا 180 درجة، نُطِلُّ على واقع المسلمين اليوم؛ حيث لا قيادة حازمة لهم، ولا تخطيط عسكريًا، ولا ما يحزنون. فحكام المسلمين رؤوسٌ في الخيانة، يُسلمون البلاد والعباد للكافر المستعمر هكذا (عَطِيَّة ما مِن وَراهَا جَزِيَّة). فنجد كيف أعلن الهالك (حافظ أسد) عن سقوط القنيطرة بيد يهود قبل سقوطها، وكيف سَلَّح الهالك (الملك حسين) جيشه بـ (الفَلِّين والمفرقعات) ليفروا من أمام يهود مع أول قذيفة، وكيف أمر المقبور (أنور السادات) جيشه بوقف الحرب بعد نجاح الجيش المصري في اختراق خط بارليف وقناة السويس، بل وبعد وصوله إلى العريش في حرب أكتوبر عام 1973م. وغير بعيد يُطل علينا الخائن أردوغان اليوم بدروعه – درع الفرات – فيُسلم مدينة حلب للنظام السوري، وأغصانه – غصن الزيتون – الممدودة لكل بائِعٍ لثورة الشام في سوق النخاسة والاستسلام. وقائمة قيادات المـُلك الجبري، الهالكة والمالكة تطول وتطول، ولكن ليل الظالمين وإن طال لا بد مفضوحٌ بفجرِ العزة الصادق، عزة الإسلام والمسلمين، خلافة راشدة على منهاج النبوة.

ثقافة الجيش البدري الحربية ثقافة جهادية:

يقول الله تبارك وتعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَى ٱلۡقِتَالِۚ ) قال الشوكاني: قَوْلُهُ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ أَيْ: حِثَّهُمْ وَحُضَّهُمْ، وَالتَّحْرِيضُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْحَثِّ…)فتح القدير: ج: 2، ص: 370( وقال صاحب الظلال: ومن ثم يأتي الأمر بتحريض المؤمنين على القتال -في سبيل الله- وقد تهيأت كل نفس، واستعدَّ كل قلب وشدَّ كل عصب، وتحفَّز كل عرق، وانسكبت في القلوب الطمأنينة والثقة واليقين… )في ظلال القرآن: ج: 3، ص: 1549(. وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رضي الله عنه … فقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلى جَنَّةٍ عَرضُها السَّمَاواتُ والأَرضُ». يَقولُ عُمَيرُ بنُ الحَمامِ الأَنصَارِيُّ: يا رَسولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرضُهَا السَّماواتُ والأَرضُ؟ قالَ: «نعم». قالَ: بَخٍ بَخٍ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ما يَحمِلُكَ عَلى قَولِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ». (صحيح مسلم).

تدل النصوص السابقة على أن الثقافة الحربية الجهادية فرض يجب دمجه ضمن العلوم العسكرية؛ لأنه من أحكام الجهاد. والجهاد هو الطريقة الشرعية لحمل الدعوة الإسلامية إلى الأمم والشعوب الأخرى. وكان الجيش البدري سبَّاقًا في تكريس هذه الثقافة عمليًا، فكان تحريض الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين على القتال قُبيل المعركة، فدعاهم إلى الصبر والثبات أمام الأعداء، وعظَّم لهم أجر الجهاد، وأجر الشهادة في سبيل الله؛ فأقبل المسلمون على عدوهم والجنة تلوح أمامهم، واصطفُّوا للموت كأنهم في صلاة، تهون في عيونهم الشدائد والصعاب، محتسبين كل ما يمكن أن يلاقيهم بلا ضجرٍ ولا جزع ابتغاء مرضاة الله سبحانه. لقد كان للثقافة الحربية أكبر الأثر في نفسية المقاتل المسلم في غزوة بدر الكبرى، ألا ترى كيف رمى عمير بن الحمام t تمراته، واندفع وسط المشركين يضرب هامهم حتى لقي الله شهيدًا؟ ألا ترى كيف انقض مُعَوِّذ بنُ عفراءَ ومعاذُ بنُ عمرو بنِ الجموحِ على صِغَرِ سِنِّهِما على أبي جهل، فضرباه وأسقطاه عن فرسه بالرغم من إحاطة بني مخزوم له كأنهم الغابة، ولسان حالهما، رضوان الله عليهما، يقول: وَاللَّهِ لا يُغادِرُ سَوادُنا سَوادَهُ حتى يَموتَ الأَعجَلُ مِنَّا؟.

على النقيض من ذلك تمامًا، لم تكن ثقافة الجيوش العربية التي هُزمت أمام كيان يهود سنة 1967م ثقافةً حربيةً جهاديةً تستند إلى السياسة الحربية في الإسلام. وإنما كانت ثقافةً وطنية أو قومية تستند إلى سياسة حربية انهزامية تُهوِّل قوة العدو بدل تَوهينِها والتقليل من شأنها؛ مما جعل الجندي العربي يخرج لملاقاة عدوه بنفسية مُهتزة لم تَقوَ على الوقوف أمام جيش يهود أيامًا معدودات في مسرحية شهد التاريخ عليها بالعار المـُـسربل بتسليم الأرض المباركة فلسطين! واليوم تتصدر ثقافة الحرب على الإرهاب/ الإسلام الثقافة الحربية لجيوش المسلمين؛ مما جعل بأس المسلمين بينهم شديد، يحطم بعضهم بعضًا في حروب ضارية أخذت فلذات الأكباد بدلًا من وقوفهم صفَّا واحدًا أمام أميركا وروسيا ويهود… وهكذا تعطَّل الجهاد في سبيل الله، وتمترس الكفار في بلاد المسلمين ينتقصونها من أعماقها، فضاعت فلسطين، واحتُلت أفغانستان وتركستان الشرقية والقرم وغيرها، وبات برُّنا وبحرنا وجونا مشاعًا للكافر المستعمر يسرح ويمرح فيها وجيوش المسلمين ترقُب تحركاته فلا تصد عدوانه، بل وتسير ذليلةً خلفه تارةً في مناورات عسكرية مشتركة، وتارةً أخرى تنفذ أوامره بذبح المسلمين في اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان!.

الجيش البدري ورابطة العقيدة:

على غرار المجتمع الإسلامي الذي تكوَّن في المدينة المنورة على أساس الإسلام ورابطة العقيدة، تكوَّن الجيش البدري هو الآخر على أساس العقيدة الإسلامية. فكانت تشكيلة الجيش تتكون من المهاجرين من أصول عدنانية، والأنصار، الأوس والخزرج، من أصول قحطانية، وذابت في هذا الجيش أعراق وطبقات شتى، عربية وحبشية ورومية، وزالت فيه الفروق الطبقية، فكان الموالي فيه كغيرهم، سواء بسواء، لا فضل لأعلاهم على أدناهم إلا بالتقوى. اجتمع هؤلاء جميعًا، رضوان الله عليهم، تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم جاعلين قومياتهم وراء ظهورهم. وصدق الله العظيم: (وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٦٢ وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ).

لقد نسي المهاجرون أنسابهم، ونبذ الأنصار ذكريات (يوم بُعاث)، وارتقى الموالي والعبيد من المسلمين فكانوا أسيادًا يتقدمون الصفوف الأولى في مقارعة خُيلاء قريش، وارتفعت سيوفهم جميعًا في صف واحد، يقتلون ويأسرون أعداء الله وإن كانوا أُولي قُربى ولاءً لله ولرسوله والمؤمنين، وبراءً من الكفر والكافرين. أَخرَجَ ابنُ عَساكِر عَن ابنِ سِيرينَ: أَنَّ عَبدَ الرَّحمَنِ بنِ أَبِي بَكرٍ كَانَ يَومَ بَدرٍ مَعَ المـُشرِكِينَ، فَلما أَسلَمَ قَالَ لِأبِيهِ: لَقد أَهدَفْتَ لِي يَوْمَ بَدْرٍ، فَانصَرَفتُ عَنْكَ وَلَم أَقْتُلْكَ. فَقَالَ أَبُو بَكرٍ: لَكِنَّكَ لَو أَهدَفْتَ لِي لَم أَنصَرِفْ عَنكَ. )تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص: 33(. وفي قولِهِ تعالى: (لَّا تَجِدُ قَوۡمٗا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ يُوَآدُّونَ مَنۡ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَوۡ كَانُوٓاْ ءَابَآءَهُمۡ أَوۡ أَبۡنَآءَهُمۡ أَوۡ إِخۡوَٰنَهُمۡ أَوۡ عَشِيرَتَهُمۡۚ) قال القرطبي: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ وَقِيلَ: يَوْمَ بَدْرٍ. )تفسير القرطبي، ج: 17، ص: 307(. وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ، أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي الْأُسَارَى. قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ، لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ. )سيرة ابن هشام، ج: 1، ص: 645(. وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ…» ) البداية والنهاية، ج: 5، ص: 151(. يقصد قتلى المشركين يوم بدر، وكان ذلك بعد أن ألقاهم المسلمون في القليب/البئر. لقد أوجدت رابطة العقيدة الإسلامية نسيجًا ديمغرافيًا متينًا ومتميزًا عن كل الروابط التي كانت سائدة في جزيرة العرب آنذاك، فنهض المسلمون بها نهضةً ارتفعت بهم وجعلتهم أمةً واحدةً من دون الناس، وانتصروا بها على كل قوى الكفر، صغيرها وكبيرها، حتى دانت لهم العرب والروم والفرس طوعًا أو كرهًا.

      ولا أخال المسلمين اليوم يجهلون كيف أنهم مُنوا بالانكسار أمام أعدائهم الكفار، عندما تمزقت بلادهم إلى قوميات ووطنيات تُرفرف عليها راياتٍ عُمِّيةً نتنةً، نسجها لهم أعداؤهم إمعانًا في إذلالهم، وتفريقًا لوحدتهم؛ فحلت الروابط القومية والوطنية والطائفية محل رابطة العقيدة الإسلامية، واستظل المسلمون بها، وتقاسموا بالله تحتها أن يحافظوا عليها، وأن يحرسوا بها حدود أوطانهم، حدود سايكس بيكو؛ فانتشرت المخافر ترقب حركة الغادين والرائحين، وتزينت أكتاف جنود الوطن وحراسه بشارات العَلَم المزركش بألوان تنزع إلى شجرة أرز، أو غصن زيتون، أو نخلة تنبت في صحراء، أو زُرقة نهر جارٍ يروي تراب الوطن الـمُفدَّى… هنالِكَ انهزمت شعوب المسلمين شر هزيمة، وتناحر صنائع الجهل تحت راياتهم/أعلامهم لا يلوون على شيء إلا ما كان من استعراض عسكري في أعياد الاستقلال على ألحان النشيد الوطني، ثم ينفَضُّ السامر وبيت المسلمين خارِبٌ ودامِر!

صَدَقُوا اللَّهَ فَصَدَقَهُم اللَّهُ:

     عَن أَبِي هُرَيرَةَ t عَن رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ – عَزَّ وَجَلَّ – اطَّلَعَ عَلى أَهلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعمَلوا مَا شِئتُم، فقَد غَفَرتُ لَكُم» )مسند أحمد(. لقد صدق أهل بدر اللَّهَ فصدقهم اللَّهُ، صدقوه عندما أقاموا دولة الإسلام كيانًا لهم، ثم صدقوا اللَّهَ عندما نفروا بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام للقتال فكانت غزوة بدر الكبرى؛ وبسبب صدقهم مع الله واستجابتهم لأمره وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، فقد أيَّدهم الله بجنود من عنده في هذه الغزوة العظيمة؛ فَغَشَّاهم النُّعاسَ أمنةً منه لترتاح أجساد المسلمين، فتنهض صحيحة قوية واثبة على القتال، وأنزل عليهم المطر فطهَّرهم به من الرجس والجنابة، وأنزله عليهم خفيفًا يَشُدُّ الرمال تحت أقدامهم ويماسكها، فيتحركون بخفة ونشاط، وكذلك أنزله على المشركين غزيرًا يوحِلُ الرمال تحت أقدامهم، فيُعيق حركتهم ويُبَطِّئُ نشاطهم. كما أيَّدهم بالملائكة يُثبتون المسلمين، ويُثبِّطون المشركين، وألقى سبحانه الرعب في قلوب الكافرين. قال سبحانه: (إِذۡ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةٗ مِّنۡهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ لِّيُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَيُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّيۡطَٰنِ وَلِيَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ ١١ إِذۡ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمۡ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۚ سَأُلۡقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعۡبَ فَٱضۡرِبُواْ فَوۡقَ ٱلۡأَعۡنَاقِ وَٱضۡرِبُواْ مِنۡهُمۡ كُلَّ بَنَانٖ)، وتجلت قدرة الله بأن يرى رسوله، عليه الصلاة والسلام، المشركين في منامه قليلين:

 (إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ٤٣). قَالَ مُجَاهِدٌ: رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَثَبَّتَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ… )تفسير القرطبي، ج: 8، ص: 22(. وتجلت قدرته جل في عليائه عندما قلَّلَ المشركين في أعين المسلمين، وقلَّلَ المسلمين في أعين المشركين؛ ليقضيَ أمره بدفع المشركين إلى مصارعهم، ويُحفِّزَ المسلمين للإقدام واثقين بنصر الله تعالى:

 (وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ٤٤). قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ t: لَقَدْ قَلَّلُوا فِي أَعْيُنِنَا حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً، فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا. قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ الْعِيرَ قَدِ انْصَرَفَتْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: الْآنَ إِذْ بَرَزَ لَكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ؟ فَلَا تَرْجِعُوا حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ، إِنَّمَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ. ) تفسير البغوي، ج: 2، ص: 298(. وجاء عند ابن الأثير: وَكَانَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا، فَقَصَّتْهَا عَلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ وَاسْتَكْتَمَتْهُ خَبَرَهَا، قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنِ انْفِرُوا يَا آلَ غُدَرَ لِمُصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ! قَالَتْ: فَأَرَى النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَثَلَ بَعِيرَهُ عَلَى الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ مِثْلَهَا، ثُمَّ مَثَلَ بَعِيرَهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ فَصَرَخَ مِثْلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً عَظِيمَةً وَأَرْسَلَهَا، فَلَمَّا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْوَادِي ارْفَضَّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا دَخَلَهُ فِلْقَةٌ… وَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ بِالْجُحْفَةِ رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، فَقَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأَبُو جَهْلٍ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ – وَرَأَيْتُهُ ضَرَبَ لَبَّةَ بَعِيرِهِ ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ إِلَّا أَصَابَهُ مِنْ دَمِهِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَهَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ. )الكامل في التاريخ، ج: 2، ص: 13، 17(. وقد كان لهاتين الرؤيتين أثرهما في نفسية كفار قريش، فخرجوا متثاقلين مترددين يفتقدون إلى الحماسة التي عند المسلمين، وشتَّان ما بين مسلم ينزل إلى أرض المعركة موقنًا بإحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة. وما بين كافر لا يدفعه للقتال إلا حقدٌ ملأ قلبه، أو غيظ تدفَّق في صدره، أو حفنة من دنانير ارتزقها كذلك سولت له نفسه.

هذه هي غزوة بدر الكبرى التي سمَّاها رب العزة سبحانه (يوم الفرقان) يتعرض المسلمون في شهر رمضان الكريم لنفحات العزة فيها، وفي كل غزوة ومعركة حدثت في هذا الشهر الفضيل، وقد مضى عليهم مائة رمضان منذ هدم الخلافة لم يتذوقوا طعم العزة وحلاوة النصر. وأنَّى لهم أن يتذوقوه وقد اعتلى سدة أمرهم حكام طواغيت ليسوا من أهل الحرب والنزال؟ حكام مردوا على موادَّاةِ الكفار، أميركا وأوروبا وروسيا ويهود… فكانوا كما قال فيهم القوي العزيز: (بَشِّرِ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِيمًا ١٣٨ ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۚ أَيَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا ١٣٩ ). ولكن هؤلاء الحكام ليسوا قضاءً لا يُرد، فقصورهم أهون من أن تصُدَّ تيار الأمة المتحفَّز لإسقاطهم، وتخليص الأمة من غدرهم. فقد بان عوارهم، وانكشف بوارهم، وأُميط اللثام عن شرارهم. فمن كان منهم بالأمس يتدثَّر بعباءة مشايخ السلفية الوهابية، نراه اليوم يجهر بالسوء والخيانة لأميركا. ومن كان منهم يُخادع الناس بشعارت إسلامية توارى خلفها لبلوغ سدة الحكم، صار اليوم هتَّافًا بالحرب على الإرهاب في الشام والعراق. ومن كان بالأمس صيَّاحًا: الموت لأميركا، بات اليوم نبَّاحًا بالطائفية البغيضة يقتل المسلمين بسلاح حبسه عن نصرة القدس التي شكَّل فيلقًا تسمَّى باسمها (فيلق القدس) دون أن يكون لنصرة القدس منه حظ ولا نصيب. فقط هو الخليفة الإمام الجُنة منقذ المسلمين مما هم فيه من ذل وهوان، ببيعته تجتمع كلمة المسلمين في دولة واحدة، وبصيحته تنفر جيوش المسلمين خفافًا وثقالًا في سبيل الله، تقاتل يهود فتقتلهم، وتهزم أميركا فيُنفلنا الله بوارجها وقواعدها نفلًا، بل ونغزوها به في عقر دارها، ويصرخ ناشئُ الفتيان فينا: يا لثارات حلبَ والغوطة انتقامًا من روسيا وبشار وكل من سولت له نفسه أن يوقع أذًى بالمسلمين.

وَآخِرُ دعوانا أَنِ الحمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *