العدد 397 -

السنة الرابعة والثلاثون – صفر 1441هـ – ت1 2019م

العلماء بوصلة الأمة، بصلاحهم تصلح الأمة(1)

العلماء بوصلة الأمة، بصلاحهم تصلح الأمة(1)

عبدالرحمن العامري – اليمن

يعرف العلم بمجموعة المعلومات والمعارف التي يتلقاها الإنسان، إما  من المخلوق أو من رب هذا المخلوق، فإن كانت من المخلوق؛ ضلَّ وشقى وغوى، فكيف لا، وأن هذا المخلوق عاجز وناقص ومحتاج إلى غيره، وهو الله خالق الكون والإنسان والحياة. وأما إن كانت من هذا الخالق العالم للجهر والسر وما يخفى؛ استقام ورشد واهتدى.هذا وقد تكون هذه المعلومات حقيقة تنطبق على واقع فتضحى عند من آمن بها عقيدة راسخة رسوخ الجبال الراسيات؛ فتدفعه للانطلاق والعمل نحو التغيير؛ فتكوِّن حينئذٍ مفهومًا يوجد سلوكًا له أثره في الحياة، وقد تكون معلومات لم ترقَ إلى درجة الإيمان والتصديق؛ فتبقى في النفس أسيرة لم يوجد لها بالفعل واقعًا ولا أثرًا فتكون مجرد فكرة، وقد تكون ليست سوى معلومات ليس لها واقع، فهي يقينًا تُرهَات وخيالًا وأوهامًا.

هذا وقد حثَّ وحضَّ ديننا الإسلامي الحنيف على العلم؛ لأنه بهذا العلم تصلح وتستقيم أمور الدنيا والآخرة، وبدونه تفسد فيهلك الحرث والنسل، وقد علَّم الخالق عز وجل آدم العلم، فقال في محكم كتابه: (وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِ‍ُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٣١قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٣٢ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٣٣ ). نعم، هذا العلم الذي جعله الله عز وجل ميزان التقوى وميزان الكرامة وميزان التفضيل، ففضَّل بني آدم على العالمين، وكرَّمهم على سائر المخلوقات من جنٍّ وملائكة وشياطين، رغم أن قوة الجن أو الشياطين قد تكون أقوى من الإنس، ولكن بهذا العلم يتقوَّى ويتفوَّق بنو آدم على هذه المخلوقات ويسمَون ويرقَون، وقد مجَّد الله عز وجل في آياته الكريمات العلماء ورفع من شأنهم وقدرهم فقال: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ١٨) ففي هذه الآية الكريمة قرن الله سبحانه شهادة العلماء بشهادته وشهادة ملائكته، وكفى بذلك فضلًا وتميُّزًا لصاحب العلم عن الجاهل، فما هي ياترى مميزاته وسماته:

1- إنَّ الله تعالى جعلهم (أولي العلم)، فأضافهم إلى العلم، إذ هم القائمون به المتَّصفون بصفته.

2- إنَّ الله تعالى جعلهم شهداء وحجة على الناس، وألزم الناس العمل بالأمر المشهود به، فيكونون هم السبب في ذلك، فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء قال تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ). فإشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه. قال عز وجل: ( وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلۡأَنۡعَٰمِ مُخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَۗ إِنَّمَا يَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَٰٓؤُاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ٢٨) ثم تابع فقال سبحانه:

(قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ) فقدرهم عظيم، ومسؤوليتهم أعظم.

3- إن العلماء بعلمهم وإخلاصهم يُرضون الله الذي أمر بالعلم والتعلم، وينفعون به أنفسهم والآخرين؛ ويصبح مثلهم كمثل النجم الساطع يحرق ويشتت أثرَ كل ظلام وأثر َكل جهل، وقد قال رسول الأمة صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رَوَاهُ ًاحْمَد وَأَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ. وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، أحدهما عالم والآخر عابد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته وأهل أرضيه يصلون على معلم الناس الخير» أخرجه الترمذي والطبراني في معجمه الكبير. فالرضى من الله والثواب والأجر كل الأجر لهذا العالم، فكيف لا، وقد قرن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل العالم بفضله صلوات ربي وسلامه عليه؟!.

4- إن العالم يعرف أسرار الخلق وخفايا الأمور، والغاية التي من أجلها خلق الإنسان، وكيف له أن يحقق هذه الغاية؛ فيجلب لنفسه ولغيره النفع ويزيل عنها الضرر.

5-كما إنه بهذا العلم، يعبد هذا العالم الله، والأمة من ورائه؛ فينال رضاه؛ فلا يعبده على جهل، ومن ثم يكون له الجزاء خير جزاء، فلا ينال سخطه؛ وبذلك  يتقرب من كل طاعة ويبتعد عن كل معصية. فتفكُّر وتفقُّه ساعة خير من قيام ليلة، فالعبادة تتبع العلم وليس العكس. 

 7-إن العالم يعمُر الدنيا بمفاهيم الإسلام الصادقة وأفكاره السديدة والقويمة، والتي تصبح في الواقع قوانين تطبق في الواقع وتلحق تغييرًا جذريًا ينجم عنه إعمار اقتصادي وسياسي وقضائي وغيره من شؤون الحياة.

8-إن العالم ينقذ العالم وينقله من جهل الكفر إلى نور الإسلام، فهو الذي يبين الرسالة العظيمة التي خلقنا الله عز وجل من أجلها، قال تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ ) وقال جلَّ ثناؤه: ( وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ )؛ لذلك كان هذا العلم هو للبشر كافة، ولا يختصُّ به أحد من دون الناس؛ ولكن نظرًا  للفروق الفردية التي بين البشر من ذكاء وسرعة بديهة وقوة في الحفظ وقوة في الربط بين أحكام الإسلام والواقع وغيرها من الصفات التي يتميز بها فرد دون آخر كان لهذا العلم حظ وافر ونصيب لهؤلاء الثلة من العلماء، مع عدم حكر التعليم عليهم بل هو للجميع؛ لذلك كان لهؤلاء الكوكبة من العلماء صفات يتحلَّون بها:

1-  الورع والتقوى والخشية من الله عز وجل.

2-  الجرأة في قول الحق ولو كانت عند سلطان جائر.

3-  المحبة والمودة للمسلمين والعفو عند المقدرة.

4-  عدم المداهنة والمجاملة والمحاباة.

5-  كثرة التقرب إلى الله بالطاعات والصدقة والصلاة والصيام وقراءة القرآن.

6-  الاجتهاد في الحصول على العلم والتعليم والبحث عن المسائل وأدلتها؛ وذلك ابتغاء استنباط الحكم الشرعي من الأدلة التفصيلية.

لهذه الأسباب الآنفة الذكر، كان للعلم الذي به تعمر الدنيا وتقوم ولا تقعد ويختص به العلماء من دون الناس دور في إحياء الكون. فهو أمانة ومسؤولية عظيمة أبت الجبال أن تحملها وأشفقت منها وحملها الإنسان الظَّلوم الجَهول، وكان لهؤلاء العلماء ورثة الأنبياء دور بشكل خاص. فمهمتهم جليلة ومسؤوليتهم عظيمة تكمن في تقويم أي اعوجاج في الأمة، سواء أكان صادرًا من الحكَّام أم من غيرهم، وتقويم أي فكر خاطئ سقيم أو شهوة ونزوة عابرة وراءها شيطان رجيم. نعم، تنهض الأمة بحق بهؤلاء العلماء نهضة فكرية شاملة تُحدث في الكون انقلابًا جذريًا شاملًا كاملًا، وثورة عظيمة ناهضة؛ وذلك باتخاذ عقيدة الإسلام وأحكامه مبدأً ينفذ في واقع الحياة ويفضي إلى إعمار هذا الكون أرقى إعمار. نعم، إن واجبهم عظيم ومسؤوليتهم جليلة في نبذ وتفنيد كل عقيدة باطلة، وكل فكرة منبثقة عن هذه العقيدة الفاسدة؛ وذلك ببيان فسادها وزيفها، ومن ثم هدمها وخلعها من جذورها، وغرس عقيدة الإسلام الصحيحة التي تنبثق منها أحكام الإسلام في كل نواحي الحياة. ومواقف العلماء وتقويمهم لاعوجاج الخلفاء والحكَّام ونصحهم لهم كثيرة كموقف سعيد بن جبير والحجاج، وموقف علماء هارون الرشيد معه، والتي لايتسع المقام لذكرها؛ إلا أننا سنسوق مواقف لعدد من العلماء كان لهم أثر عظيم في إنقاذ الأمة وردها عن غيِّها:

الموقف الأول: شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) مُجيِّش الجيوش في معركة شقحب:

في شهر رجب من سنة 702هـ، شاعت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جدًا كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخَّر مجيء العساكر المصرية؛ فاشتد لذلك الخوف.

ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وقلِق الناس قلقًا عظيمًا لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفًا شديدًا، وبدأت الأراجيف تنتشر، وشرع المثبِّطون يوهنون من عزائم المقاتلين ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ لقلة المسلمين وكثرة التتار، نعم راحوا يُشيعون الحرب النفسية التي تفتُّ من بأس الأمة، وزيَّنوا للناس التراجع والتأخر؛ ولكن قوة تأثير العلماء وقوة عقيدتهم وقفت حائلًا  دون السماح بتمرير هذه الحرب النفسية الخبيثة التي تهدف إلى قتل الأمة وهي لم تبدأ بعد بخوض غمار المعركة. نعم، وقف العلماء موقف  الضراغم حينما تزأر  ليشهد العالم قوة بأسها، وقاموا بذلك ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) الذي تصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يُقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال. واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو، وشجَّعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد؛ فسكن الناس وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يشجعون الناس على القتال، وتوقَّدت الحماسة الشعبية وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس حتى أوجد الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش.

ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، ثم توجَّه بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم وأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يَحلِف للأمراء والناس: «إنكم في هذه المرة منصورون» فيقول له الأمراء: «قل إن شاء الله» فيقول: «إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا» وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قول الله تعالى: ( ۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ
مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ٦٠). اللهَ اللهَ أيها العلماء، ما أروعكم حينما تقومون بدوركم فتُنهضون الأمة وتُحيونها حكامًا وجيشًا وشعبًا.

هذا وقد ظهرت عند بعضهم شُبهاتٌ تَفُتُّ في عضد المحاربين للتتار،من نحو قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه؟!

فردَّ شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) هذه الشبهة قائلًا: «هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأَوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظلم»؛ فانجلى الموقف وزالت الشبهة، وتفطَّن العلماء والناس لذلك، ومضى الإمام يؤكد لهم هذا الموقف قائلًا: «إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدو- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني»، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم، وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ ابن تيمية (رحمه الله) من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة؛ ليشهد القتال بنفسه وبمن معه. وهنا يكمن أهمية دور العلماء حين قيام الخلافة الراشدة الثانية باذن الله تعالى، فإن المؤامرات ستستمر وستتجدد مثل هذه المواقف المعادية والمؤامرات، وأكثر من ذلك من تثبيط وإثارة شبهات؛ فلا نذهب بعيدًا فهي ماثلة في واقعنا، فما بالنا حين قيامها!؛ لذلك كان للعلماء مسؤولية عظيمة قبل قيامها وبعد قيامها، كما سبق في تشجيع الأمة وإلهاب حماسها في القتال ونشر الإسلام وكشف الدسائس وتقوية النفسية وشحنها بعقيدة التوكل على الله. رحمك الله يا بن تيمية لما أسديت للأمة من معروف تناله في الآخرة خير الجزاء، فكيف أنك ردَّيت الشبهات التي كانت تستهوي وتستهدف الأمة، فلولا علمك لسقطت الأمة في هاوية الشبهات؛ فليتعظ علماؤنا وليحاذروا من الشبهات وأثرها في إلحاق الهزيمة، وكيف يتصدَّون لها بالعلم  الشرعي.

الموقف الثاني: الإمام أحمد ابن حنبل الثابت في زمن الفتنة:

الإمام أحمد وقف وقفة شجاعة أمام المأمون، ومن بعد المأمون، أمام حرب الاعتزال، أمام تضليل الأمة في عقيدتها وفي كتاب ربها، وقف هذا العالم البطل وقفة كلها شجاعة وكلها إباء، ويأتيه بعض العلماء يشد من أزره ويؤيده؛ ولذلك ذكر العلماء عن قضية من حدثه ومن وقف معه من الأمة، حتى إنه جاءه بعض طلابه وقالوا له: ألا تتأوَّل يا إمامنا؟ قال: كيف أتأوَّل والناس خلف الباب يكتبون ما أقول؟ وصمد سنوات عدة في السجن والأغلال والتعذيب، لم يثنه ذلك عن ذكر الله جلَّ وعلا. ومن هذه المواقف حقق الإمام مكانته. يقول لإمام أحمد عن نصح أحد العلماء له: ما رأيت أحدًا على حداثة سنِّه وقلة علمه أقوَمُ بأمر الله من محمد بن نوح، وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير، قال لي ذات يوم، وأنا معه خاويين: يا أبا عبد الله، الله، الله إنك لست مثلي، أنت رجل يُقتدى به، وقد مدَّ الخلق أعناقهم إليك لِما يكون منك، فاتقِ الله، واثبُت لأمر الله… أو نحو هذا الكلام. يقول أحمد: فعجبت من تقويته لي وموعظته إيايَّ.

كان في السجن، وعندما كان يراد أن يجلد، جاءه رجل قد سجن معه فقال له: يا أحمد: إنني رجل أسرق، وكلما أسرق يؤتى بي وأجلد، ومع ذلك أخرج وأسرق مرة أخرى، فلم يؤثر بي الضرب، وأنت تقوم من أجل حماية عقيدتك، فإياك إياك أن أكون أنا أشد عزيمة منك، فاصمد للضرب. الله الله، سبحان الله كيف يأتي التثبيت؟ ومِنْ مَنْ؟!! مِنْ سارق! والله إن المـُقَل لتذرف العبرات من هذه المواقف العظيمة، فلتتعظوا أيها العلماء من هذه المواقف، نعم، هكذا يجب أن يكون علماؤنا بهذه السمات، يقولون الحق ويستشعرون المسؤولية فلا تأخذهم حب الأنا والذات، فهي رخيصة أمام إنقاذ أمة الإسلام ودولته .

الموقف الثالث: لأموتنَّ في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم:

الإمام البويطي هو العلامة سيد الفقهاء يوسف أبو يعقوب بن يحيى المصري البويطي، صاحبَ الشافعي ولازمه مدة وفاق الأقران، وكان إمامًا في العلم، قدوة في العمل، زاهدًا ربانيًا متهجدًا، دائم الذكر.

سعى به أصحاب ابن أبي دُؤاد حتى كتب فيه ابن أبي دُؤاد، رأس المعتزلة، إلى والي مصر فامتحنه، أي في محنة خلق القرآن، فلم يُجب، وكان الوالي حسن الرأي فيه، فقال له: قل فيما بيني وبينك، قال: إنه يقتدي بي مئة ألف، ولا يدرون المعنى! فأمر به أن يُحمل إلى بغداد.

قال الربيع بن سليمان: رأيته على بغل في عنقه غلٌ، وفي رجليه قيدٌ، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لَبِنَةٌ طوبة وزنها أربعون رطلًا، وهو يقول: «إنما خلق الله الخلق بِكُن، فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقًا خُلق بمخلوق، ولئن دخلت عليه لأصْدُقَنّه -يعني الواثق- ولأموتنَّ في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم». وتوفي رحمه الله في قيده مسجونًا بالعراق في سنة إحدى وثلاثين ومئتين من الهجرة.

الموقف الرابع: إمام الأزهر الذي نزل بكفنه إلى السوق لمواجهة تغريب المرأة:

وهو موقف حدث حديثًا في عصرنا، فعندما قامت الثورة في مصر عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين، قام محمد نجيب رئيس مصر في ذلك الوقت متغطرسًا وقال: سنساوي المرأة بالرجل في جميع الحقوق، وخرجت الصحف من الغد فيها أن الرئيس محمد نجيب ذكر في خطابه أنه سيساوي المرأة بالرجل، كان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الخضر حسين رحمه الله وهو تونسي، فعندما علم بالخبر اتصل بالرئيس محمد نجيب، وقال له: إما أن تكذب الخبر، وإما سأنزل غدًا بكفني إلى السوق، وأدعو الناس إلى مواجهتك، فجاءه أعضاء مجلس الثورة، جاؤوا جميعًا إليه في مكتبه، في مشيخة الأزهر، وقالوا له: يا شيخنا، هذا الأمر صعب، ولكننا نقول لك: هذا غير صحيح.

قال: لا ينفع هذا الكلام، أريد كما أعلنتَ أمام الملأ أن تكذب أمام الملأ، وإلا سأنزل غدًا وأنا ألبس كفني، والله لن أقف حتى أنتصر في هذه المعركة أو تذهب روحي، قال له: يا مولانا أأنت مصرٌّ على موقفك؟ قال: نعم، فقام محمد نجيب وأعلن تكذيب الخبر وأنه مزيف، كيف يجوز لي أن أقول بهذا القول وهو يخالف الكتاب والسنة، وبدأ يتكلم في موقف هذا العالم الجليل رحمه الله. فلننظر في هذا الموقف العظيم كيف يفدي هذا العالم الجليل نفسه أمام مخالفة حكم شرعي واحد يراد به ضياع الأمة ونسائها، ومن ثم فلذات أكبادها. فما بالنا في أحكام الإسلام وليس حكم واحد،  فياليت علماؤنا اليوم يلتمسون هذا الطريق ولا يحيدون عنه، فهو المنجي والمنقذ، ولنتدبر كيف أن لكلمة العالم صدىً وأثرًا عظيمًا في الأمة؛ فالجموع الغفيرة من الأمة تسير خلف العلماء الربانيين… إن كلمة العالم تقود الأمة للتغيير، فأكثر ما تخشاه الدول الرأي العام وجماهير الأمة، فهو بحق سلاح لو استغله العلماء خير استغلال لقادوا الأمة إلى التغيير الصحيح.                                       [يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *