العدد 394 -

السنة الرابعة والثلاثون – ذو القعدة 1440 هـ – تموز 2019م

ما الذي يعنيه عودة الإسلام إلى الحياة؟ وما الطريقة الشرعية لعودته؟

ما الذي يعنيه عودة الإسلام إلى الحياة؟

وما الطريقة الشرعية لعودته؟

عبدالله القاضي – اليمن

 

وصلت الأمة الإسلامية إلى حال يلزم معه إعادة النظر في واقعها. ولابد أن نسأل أخيرًا: هل نحن نعيش الحياة التي يرتضيها لنا الله ورسوله؟

إن الأمة الإسلامية لا تعيش عمليًا الحياة التي ارتضاها الله تعالى لها وأمرها بأن تحياها. فالله عزّ وجلّ أمر المسلمين أن لا يقبلوا بغير الإسلام دينًا، وبغير الشريعة المحمدية منهاجًا وسبيلًا، وهكذا كانوا في الماضي ممتثلين لأمر الله تعالى، تاركين لنهيه، يجاهدون في سبيله ولا يخافون في الحق لومة لائم؛ ولكن عندما تركوا ذلك الامتثال لأمره، ونهيه والجهاد في سبيله أدى إلى تخلفهم، فما سبب تخلف المسلمين إلى هذا الحد؟

إن سبب تدهور حالة المسلمين إلى هذا الحد الخطير هو نجاح أعداء الأمة في فصل الإسلام عن حياة المسلمين، بحيث صوَّروا لهم وأقنعوا السواد الأعظم منهم أن الإسلام شيء والحياة بكل ما فيها من نظم سياسية واقتصادية واجتماعية… شيء آخر، وأنه لا علاقة للإسلام بأي من مجالات الحياة، وأن الحياة يمكن أن تكون سعيدة رغيدة إذا تخلى المسلمون عن دينهم. فغاب العلاج وسر السعادة، ودبَّت الفوضى وتأزمت الأحوال، وبات المسلمون في وضع لا يحسدون عليه على الإطلاق.

ومما لا شك فيه أن من واجب المسلمين أن يعيدوا النظر في واقعهم هذا، فهو واقع سوء بكل ما في الكلمة من معنى. وهو واقع لا يرضي الله تعالى ولا رسوله ولا جماعة المؤمنين. وإعادة النظر هذه تعني فهم الواقع تمام الفهم، ووضع اليد على العلة، وهي معروفة الأوصاف والعوارض، وبالتالي العمل بجد ودأب لاستئصال المرض وإعادة الوضع إلى ما كان عليه في عهود الإسلام الزاهرة.

 قد يسأل سائل ويقول، ما حكم الله في أنظمة الحكم القائمة اليوم «على» المسلمين؟ هل هي من حكم الله تبارك وتعالى الذي ارتضاها لعباده، أم أن تلك الأنظمة لا تمت لدين الله في شيء؟

إن من الواجب على كل عاقل ألا ينسى أن الأرض لله وحده، وأن الخلق كلهم عباده، وأنه لا خيار للعبد في أن يعبد الخالق أو أن لا يعبده، بل طاعة الخالق واجبة على المخلوق. يقول تعالى(وَمَا خَلَقۡتُ
ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ). وإذا كان الإنسان لا يقبل ولا يرضى أن ينفذ في بيته غير أمره، ولا في معمله أو محله التجاري غير تعليماته وتوجيهاته، ويغضب بل ويعاقب كل من يخالف أوامره، فكيف بالخالق العظيم الذي له تعالى الخلق والأمر، هل يصح أن يطيع عباده أوامر غيره؟ هل يجوز وهو الرازق لهم أن يشكروا سواه ويكفروه؟ إنما الملك له وحده، والخلق له وحده، وكذلك الأمر والنهي في كل صغير وكبير.

نقول هذا لنصل إلى نتيجة واحدة هي: إن كل نظام غير شرع الله تعالى يطبق على عباد الله في أرضه هو مرفوض، ويجب على المسلمين أن يحاربوه ويكافحوه حتى تكون كلمة الله دائمًا هي العليا.

وأما بالنسبة للأنظمة التي تتحكم بعلاقات المسلمين: الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وغيرها، فعندما نقول «أنظمة الحكم» فإننا نعني كل الأنظمة بجميع وجوهها، السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية وسواها، فكل ما ليس من الإسلام فليس من الله في شيء. وإذا كان الوضع كذلك، فلابد أن يتوجب على المسلمين أن يعملوا على تغيير هذا الواقع السيئ الذي هم فيه، وهذا واجب شرعًا عليهم، فهو من باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وطريقهم إلى هذا الهدف يبدأ من فقه المسلم في أمور دينه، ومعرفة أحكامه، ثم التوجه نحو المجتمع بالتوعية والإفهام، والسير في خطى ثابتة حتى الوصول إلى الغاية المنشودة، الآيلة في النهاية إلى أن يكون الحكم والأمر والنهي لله تعالى وحده في عباده فعلًا وتطبيقًا.

نسمع كثيرًا أن حل مشاكل المسلمين يكمن في العودة إلى الإسلام. لكن كثيرًا من المسلمين لا يدركون أبعاد هذه الكلمة، وبالتالي لا تحدد لهم هدفًا محددًا أو معالم سير واضحة؛ لذلك لابد من توضيح ذلك. إن العودة إلى الإسلام عبارة واسعة المعنى، فهي تعني أولًا أن المسلمين بعامتهم ليسوا في وضع يرضاه الله ورسوله، أي أنهم حادوا عن السبيل القويم فضعفوا وهانوا. وثانيًا تعني أن الإسلام هو الحل والعلاج.

فالعودة إلى الإسلام تعني لجوء الحيران والمرتبك والمريض إلى من عنده الحل والدواء. وحديث الناس اليوم عن «العودة إلى الإسلام» وتساؤلهم عن كيفية تلك العودة، كل هذا نابع من هذا الإحساس الكامن في نفوسهم، لأن كل مسلم، ولو كان عاصيًا، لا يرى في غير الإسلام حلًا لمشكلة ولا علاجًا لمعضلة؛ لكن أي إسلام يجب أن نعود إليه، هل هو إسلام الدروشة؟ أو إسلام الحلول الجزئية والتدرج في تطبيق الإسلام؟… فهذا ليس توجهًا صحيحًا، وليس هو المطلوب شرعًا، بل المطلوب هو الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بخلفائه الراشدين المهديين الذين أسسوا مجتمعًا بجهدهم، وأقاموا للإسلام دولة بجهادهم، مستعينين بالله، ومتوكلين عليه. إن الحديث عن الحياة الإسلامية لا يكفي لإعطاء الصورة الصحيحة عن الإسلام؛ لأن الإسلام ارتضاه الله ليكون دينًا، أي للعمل، فمن ذاق عرف، ولن يعرف الناس قدر الإسلام حتى يروه مطبقًا تطبيقًا سليمًا صحيحًا. فالإسلام نظام فريد من نوعه، وكيف لا، وهو شرع الله تعالى، وما سواه فمن وضع البشر، وشتان ما بين هذا وذاك. فما الطريقة التي توصل إلى ذلك اليوم؟

إنه عند النظر إلى موضوع الطريقة في الإسلام، فلا بد أن يقرن بالفكرة، فيقال إن الإسلام فكرة وطريقة، وإن هناك أحكامًا شرعيةً تتعلق بالفكرة، وأحكامًا شرعيةً أخرى تتعلق بالطريقة، ومن مجموعهما يتكون الإسلام. وهذا البحث تم تناوله من هذه الزاوية فقط لتبيين أن الإسلام مبدأ عالمي، ولتوضيح ما يجعل الإسلام مطبقًا في الحياة، وليس أن يكون مجرد تعاليم موجودة في بطون الكتب ليس لها واقع يمثلها كجمهورية أفلاطون. وإذا كانت أحكام الفكرة في الإسلام شاملة تتناول الأفكار التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من الناس، وهي أفكار العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والمطعومات وأنظمة الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… فإن أحكام الطريقة تتناول الأحكام الشرعية العملية التي تحافظ على أحكام الفكرة وتنشرها وتجعلها مطبقة في الحياة.

 وعليه، فإن أحكام الطريقة هي أحكام شرعية عملية وجدت لغيرها من أحكام الفكرة. وهي تتناول تحديدًا الأحكام الشرعية المتعلقة بالدولة الإسلامية والأحكام الشرعية التي توجد الدولة الإسلامية، والأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات، والأحكام الشرعية المتعلقة بالجهاد… فهذه الأحكام التي تجعل أحكام الفكرة التي تنظم كل نواحي الحياة في الاسلام مطبقة ومنفذة ومنتشرة بين الناس ؛كون الإسلام مبدأ عالميًا يجب أن يصل إلى العالمين هي أحكام الطريقة. ومن هنا يقال إن الدولة هي الطريقة لتطبيق الإسلام ونشره والمحافظة على العقيدة ونشرها، ويقال إن العقوبات الشرعية هي الطريقة لجعل أحكام الإسلام مطبقة في الحياة.

وبما أن الخلافة قد أصبحت رأيًا عامًا عند عامة المسلمين، وباتت أملهم في الخلاص من الوضع المزري الذي يعيشونه، كما أنها أضحت هدفًا عند بعض الحركات الإسلامية، فقد صار لزامًا على المسلمين الآن، وأكثر من أي وقت مضى، معرفة طريقة إقامتها، كما دلت عليها الأدلة الشرعية.

إن المسلم إذا أراد معرفة كيف يصلي فإنه يدرس أدلة الصلاة، وإذا أراد أن يجاهد فهو يدرس أدلة الجهاد، وإذا أراد أن يزكي ماله أو يحج فإنه يدرس الأدلة المتعلقة بكل مسألة بعينها، فهو لا يبحث عن أحكام الصلاة في أدلة الحج، ولا عن أحكام الزكاة في أدلة الصوم، وهكذا. وكذلك إذا أراد أن يقيم الدولة؛ فإن الواجب عليه أن يدرس أدلة قيامها من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، وحيث إنه لم يرد عنه صلى الله عليه وسلم طريقة لإقامة الدولة إلا الطريقة المبينة في سيرته صلى الله عليه وسلم فإنه قد جانب الصواب أولئك الذين ذهبوا للبحث عن طريقة إقامة الدولة في أحكام الجهاد، وتبنَّوا القتال طريقة لإقامتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بالقتال مطلقًا قبل إقامة الدولة، أي إنه لم يتخذ من القتال طريقة لإقامتها، بل إنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك وشدد عليه، فقد جاء في صحيح البخاري ‏عَنْ ‏خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ ‏قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ ‏الْكَعْبَةِ ‏قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ‏: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ‏ ‏صَنْعَاءَ ‏إِلَى ‏حَضْرَمَوْتَ ‏لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ؛ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». كما جاء في تفسير ابن كثير عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَأَصْحَابه أَتَوْا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّة فَقَالُوا: يَا نَبِيّ اللَّه، كُنَّا فِي عِزَّة وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّة قَالَ: «إِنِّي أُمِرْت بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْم» وفي الحادثتين كأن بعض الصحابة رضوان الله عليهم قد استبطؤوا إقامة الدولة، فأرادوا أن يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى القتال في إقامتها، وفي هاتين الحادثتين وفي غيرهما أصر صلى الله عليه وسلم على المضي في طريقته، بل وغضب ممن أراد أن يثنيه عنها. وإصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على القيام بأي أمر رغم تحمله الأذى في سبيله دليل على أن هذا الأمر فرض كما في الأصول.

إن إقامة الخلافة تحتاج إلى قوة عسكرية تمكن لها، هذا صحيح، لكن هذه القوة ليس مطلوبًا أن تتوفر في الجماعة التي تعمل لإقامتها، بل لا يجوز أن تكون هذه الجماعة إلا سياسية، والأدلة السابقة وغيرها واضحة في ذلك، أما القوة العسكرية فواجب توفرها في الذين سيعطون النصرة للجماعة لتمكينها من استلام الحكم وإقامة الخلافة، وهم من يطلق عليهم أهل القوة والمنعة.

وهذا ما سار عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته للدولة الإسلامية الأولى، فإنه صلى الله عليه وسلم قد طلب النصرة من أصحاب القوة والمنعة الذين كانوا يشكلون مقومات دولة حسب واقع المنطقة حولهم؛ ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو القبائل القوية إلى الإسلام ويطلب منها النصرة، فقبيلة تدمي قدميه الشريفتين، وقبيلة تصده، وقبيلة تشترط عليه، ومع ذلك يستمر صلى الله عليه وسلم ثابتًا على ما أوحى الله إليه دون أن يغير تلك الطريقة إلى طريقة أخرى، كأن يأمر أصحابه بقتال أهل مكة، أو قتال بعض القبائل ليقيم الدولة بين ظهرانيهم، وصحابته كانوا أبطالًا لا يخشون أحدًا إلا الله، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك، بل استمر في طلب النصرة من أهل القوة والمنعة حتى يسَّر الله سبحانه الأنصار إليه فبايعوه بيعة العقبة الثانية، بعد أن كان مصعب رضي الله عنه قد نجح في مهمته التي كلفه بها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. فبالإضافة إلى توفيق الله سبحانه له برجال من أهل القوة ينصرونه، فإنه رضي الله عنه قد أدخل بإذن الله الإسلامَ إلى بيوت المدينة وأوجد فيها رأيًا عامًا للإسلام، فتعانق الرأيُ العام مع بيعة الأنصار، ومن ثم أقام الرسول صلى الله عليه وسلم الدولة في المدينة ببيعةٍ نقية صافية.

فكما تعرَّض الرسول (صلى الله عليه وسلم) في طريقه لإقامة الدولة إلى محاولات كثيرة لحرفه عن مساره القويم من قبل الحكام في مكة وخارجها. ففي مكة ساومه كفار قريش على دعوته بالملك، وعرضوا عليه حكمًا توافقيًا يتبادلون معه الآلهة بالعبادة، فرفض التنازل عن مبدئه رفضًا قاطعًا، وفي خارج مكة اشترطت إحدى القبائل لنصرته، الرئاسة من بعده، فرفض قائلًا: «إنَّ الأمر لله يضعه حيث يشاء»، وعرضت أخرى عليه حكمًا منقوصًا، فرفض قائلًا: «إنَّ هذا الأمر لا يصلح له إلا من أحاطه من جميع جوانبه».

والآن، وقد دارت السنون والأيام، وانفصل السلطان عن القرآن، وعاد مجتمعنا بعلاقاته الجديدة مجتمعًا غير إسلامي، فقد هدم الكافر المستعمر الخلافة منذ عقود، وجعلها دولًا متفرِّقة، تستند في سلطانها إلى عقيدته الباطلة، وترزح تحت وطأة جوره وجور حكامه؛ فقُطعت معهم حياتنا الإسلاميَّة وتوقَّفت مسيرتنا العالميَّة.

وكان أن قصَّر حينها المسلمون عن مجابهة من أظهر في ديارهم الكفر البواح بهدمها، وانقطع حكم الإسلام في البلاد من يومها، فبات حالنا كحال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته في مكة قبل الهجرة، وعدنا من حيث بدأنا، عدنا ملزمين بالسير على نفس طريقته، ولتحقيق نفس غايته. عدنا للسير على طريقته لإقامة الخلافة من جديد، ولنحقق نفس غايته الأولى؛ لنستأنف ما انقطع من حياتنا الإسلاميَّة، ونصل ما توقَّف من مسيرتنا العالميَّة، فما أشبه اليوم بالبارحة.

هذا هو واجب الأمَّة اليوم، فهي المخاطبة بالإسلام، وعليها تقع مسؤوليَّة حفظه وتطبيقه، وهي لذلك صاحبة السلطان، وعن طريقها فقط يتم الوصول إلى الحكم أو الخلافة. ونظرًا لتخلُّف الأمَّة في الآونة الأخيرة عن مكانتها المرموقة بين الأمم، وتراجع دولتها عن مركزها القيادي في العالم، لطروء عوامل ضعف داخليَّة وخارجيَّة عديدة، فقد شتَّ العقل وقلَّ البصر بالإسلام لدى الكثير من الحركات الإسلاميَّة عن الطريقة الإسلاميَّة الوحيدة لإقامة الخلافة، فكانوا طرائق قددًا، وظلَّ سيرهم بعيدًا عنها يراوح مكانه بلا تغيير أو تقدُّم.

كما قد تكاثرت رؤى المسلمين ومواصفات الدول لديهم حدًا مستهجنًا في الأمَّة الشاهدة على الأمم، فقد أساؤوا في رؤاهم إلى درجة استبدال شرع الله تعالى، كمن يستبدل بتحرير فلسطين المفاوضة أو المقاومة، كما أساؤوا في مواصفات الدولة التي يريدونها إلى درجة أن تجد لديهم دولًا لا تزال تستند إلى إدارة عدوها الكافر المستعمر، كما تجد دويلات تستند إلى حكومة تخضع لسطوة أذل الخلق يهود كالسلطة الفلسطينيَّة أو سلطة غزَّة، كما أننا نجد كتائب تقاتل مغتصب سلطة الأمَّة بالشام، وتغتصب هي ذات سلطتها، وتدَّعي أنَّها أقامت خلافة الإسلام للأمَّة وهي تقطع رؤوس أبنائها، وأخرى تجعل من تنظيمها العسكريّ إمارةً سياسيَّة. ونجد آخرين يسعون إلى إقامة دولة الخلافة داخل نفوس أصحابها متوهِّمين أنهم إن فعلوا ذلك أقاموها في واقع الحياة!! وهكذا حتى أصبحنا أضيع من الأيتام على مائدة اللئام.

كان المؤمَّل من الحركات الإسلامية بعدما عسعس ليلها وقارب أن يتنفس صبحها، بعد حالة الحراك الواعدة التي اشتدت في ثورات بلادها؛ كان المؤمل أن تتدارك ما فاتها وأن تبصر قضيتها الرئيسيَّة وتستكمل وعيها على طريقة رسولها لإقامة دولة الخلافة بصورة سريعة لافتة للنظر؛ خاصة وأنَّ القرآن العظيم لا يزال يتلى غضًا طريًا بين أظهرها، والكافر المستعمر ينكِّل بأبنائها، وينكشف معه فساد أحوالها وفداحة أخطائها وعقم مناهجها، الأمر الذي يقتضيها أن تنكبَّ على إسلامها بالدراسة والتدقيق والتمحيص لتلتقط طوق النجاة الذي يخلِّص الأمَّة الإسلاميَّة من القبضة الغربيَّة المستحكمة، ويعيد لها خلافتها الموعودة، وفردوس حياتها الإسلاميَّة المفقودة، فتستجمع قواها وتنهض من كبوتها، وتبلور مشروعها وتتولى زمام أمرها وتستنقذ أمَّتها، بل والعالم من حولها.

ومن الغرابة بمكان كيف لم تهتدِ تلك الحركات إلى طوق نجاتها بعد؟!، كيف لم تهتدِ إلى طريقة إقامة خلافتها الشرعيَّة المحددة والتي انتهجها رسولهم العظيم من قبل؟! وهي تعلم يقينًا أنَّ من أراد أن يقوم بالصلاة؛ فإنَّ عليه أن يدرس أدلة الصلاة وأحكامها، وأنَّ من أراد أن يجاهد فعليه أن يدرس أدلة وأحكام الجهاد، وأنَّ من أراد أن يتاجر فعليه أن يدرس أدلة البيوع والشركات والإجارة وكل ما يلزمه من الإسلام لتجارته، وكذلك الشأن مع الجماعة التي تريد إقامة الخلافة. كما وتعلم يقينًا أنَّ الصلاة لا تؤدى إلا بكامل مقوِّماتها الشرعيَّة التي قرَّرتها الأدلة الشرعيَّة من أقوالٍ وأفعالٍ وهيئاتٍ مخصوصة؛ وكذلك الشأن مع إقامة الخلافة. كما وتعلم يقينًا أنَّ تقصُّد الإخلال بأحد أركان العمل موجبٌ للفشل ومحبطٌ للأجر، كحال ذلك الأعرابيّ الذي صلَّى أمام النبيّ وأساء في صلاته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ» فكان حكم المسيء صلاته كحكم غير المصلِّي سواءً بسواء؛ لأنَّ المسيء لم يقم بصلاته على الوجه الشرعيّ المطلوب، فكان فعله كالمعدوم، لم يقع ولم يترتَّب عليه أثر؛ وكذلك المسيء في إقامة الخلافة.

وإذا تتبعنا ما قرَّره الرسول صلى الله عليه وسلم في دولة الإسلام الأولى التي أقامها في المدينة بوصفه الرسول الأسوة، نلحظ ما يلي:

أولًا: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم سلطان دولته سلطانًا ذاتيًّا يستند إلى قوة المسلمين من قبيلتيّ الأوس والخزرج المالكتين لزمام الأمور في المدينة مقر دولته، وذلك ظاهرٌ من اشتراطه عليهما في بيعة العقبة الثانيَّة أن يُخرجا من بينهما اثني عشر نقيبًا منهم، ليكونوا عليهم وعلى من وراءهم من أهل المدينة كفلاء؛ ليضمن رضاهم وعدم منازعة أحدٍ من أهل البلاد للدولة الجديدة، واشترطوا من جهتهم عليه القدوم إلى المدينة. وبذلك ضمن الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيق السلطان الذاتي لدولته واجتماع الكلمة له فيها بلا منازع.

ثانيًا: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمان دولته بأمان المسلمين أنفسهم، فبقوة المسلمين العسكريَّة وحدها تحققت حماية الدولة والأمَّة من المعتدين، أي تحقق فيها الأمن الداخليَّ والخارجي، وطبيعيٌّ أنَّ الأمان الذاتيَّ يتحقق بالسلطان الذاتي. فبعد أن حقق الرسول صلى الله عليه وسلم السلطان الذاتيَّ ببيعة العقبة الثانيَّة قال لأصحابه: «قد جعل الله لكم دار هجرةٍ تأمنون فيها» وفعلًا فقد تحقق الأمان الذاتي بالهجرة للرسول وللمهاجرين، وظهر ذلك بحفاوة الاستقبال الجماهيري، وإذعان عبد الله بن أُبي ومشركي ويهود المدينة لسلطان الإسلام.

ثالثًا: باشر الرسول صلى الله عليه وسلم تطبيق الإسلام في دولته الناشئة تطبيقًا كاملًا وفوريًّا من ساعة دخوله المدينة المنوَّرة؛ إذ بنى المسجد ليكون دار عبادةٍ ودار حكم، وأعلن الدستور للنَّاس ليحدد علاقاتهم وليبيِّن لهم حقيقة دولتهم وأنظمتهم التي يحكمون بها، وآخى بين المهاجرين والأنصار ليحقِّق الأخوَّة العمليَّة بين المسلمين والتوازن الاقتصاديّ في مجتمعهم. وبذلك باشر الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم كاملًا من خلال أجهزةٍ ومؤسساتٍ مستقرةٍ تقوم بمهمة إدارة البلاد ورعاية الشؤون في جميع جوانب الحياة، كما هو الشأن في الدولة بوصفها كيانًا تنفيذيًّا كاملًا.

رابعًا: عقد الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار عقدًا أقام بموجبه الدولة الإسلاميَّة في المدينة، عقد معهم عقد الخلافة بكامل أركان العقد وشروطه الشرعيَّة؛ فكان عقدًا صحيحًا منتجًا أي مبرئًا ومترتِّبًا عليه آثاره الشرعيَّة. ووجود المتعاقدَين بأوصافهما الشرعيَّة أول أركان العقد الشرعي الذي يجسِّد رضا طرفيْ العقد المخوَّليْن بإبرامه؛ فالأمَّة اليوم أو من يجسِّد رضاها المعروفون بأهل الحل والعقد هم المتعاقدون (المبايعون)، وطالب الخلافة في الجانب الآخر هو المتَعاقَد معه (المبايَع)، ولا يصحُّ عقد الخلافة شرعًا إلا بهما إذا استوفى شروطه الشرعيَّة المحددة. أمَّا طالب الخلافة أي (المبايَع)؛ فيجب أن تتوفَّر فيه شروطٌ عديدة، وهي على الأقل المعروفة بشروط الانعقاد. وأمَّا المبايِعون لطالب الخلافة؛ فيشترط أن يكونوا من أهل البلاد المالكين لها القادرين على تجسيد رضا النَّاس وجمع كلمتهم فيها له، كما كان نقباء الأنصار من أهل المدينة المالكين لزمامها القادرين على تجسيد رضا وكلمة أهلها، فقد كانوا فعلًا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم على من فيهم وعلى قومهم كفلاء، وكانوا يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم حقَّ المعرفة؛ ولذلك صحَّت البيعة من قبلهم.

وأمَّا عن المعقود عليه؛ وهو نظام الحكم الذي يبرم العقد بين المتعاقدين على العمل به، فإنَّه يجب أن تتَّفق إرادة المتعاقدين أو المتبايعين في عقد الخلافة على تحديد دستور الدولة وأنظمتها تحديدًا واضحًا يعكس رضاهما التَّام، ولا يكفي في عقد الخلافة العموم؛ وذلك لأمرين اثنين:

أحدهما: لوقاية الدولة والقضاء من الفوضى والتناقض في الأحكام بتعدد الاجتهادات، التي تنجم عن جهالة مصادر التشريع وجهالة طريقة الاجتهاد.

وثانيهما: لتمكين الأمَّة من القيام بواجبها تجاه الدولة بالمراقبة والمحاسبة، ممَّا يضمن حسن تطبيقها للإسلام وحسن سيرها في الحياة.

وقد أدرك الأنصار على ما يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم إدراكًا محدَّدًا في بيعة العقبة قبل أن يبرموا معه عقد الحكم. كما أظهر الصَّحابة فيما بعد حرصهم على وضوح المتعاقَد عليه، حينما اشترطوا على عثمان وعلي رضي الله عنهما ضرورة الالتزام بمنهج الشيخين قبلهما في الحكم حتى تُجري العقد لأحدهما. وذلك لأنَّ الجهالة بأساسيّات نظام الحكم الضروريَّة للنَّاس يضر بالدولة والمجتمع والأمَّة، وعليه فلا تنعقد الخلافة شرعًا لمن جُهل دستوره ومنهاجه وطريقة اجتهاده.

إنَّ الجماعة التي تسعى لإقامة الخلافة الإسلاميَّة يجب أن تتَّبع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامتها، ويتحتَّم عليها أن تتلبَّس بالأعمال المباشرة المحدَّدة لإقامتها، ويحرم عليها أن تخالفها، كما أنَّ دولة الإسلام لا تقام بغير طريقتها الشرعيَّة.

ويمكن إجمال طريقة الإسلام في إقامة الدولة بالأمور الآتية:

أولًا: أن تحمل الجماعة الدعوة إلى الأمَّة الإسلاميَّة حملًا مؤثرًا؛ حتى يوجد لديها الرأي العام المنبثق عن وعيٍ عامٍ على دولة الإسلام ودستورها وتشريعاتها؛ لتصبح مطلبًا ملحًّا للأمَّة. كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، إذ أرسل مصعب بن عمير إلى أهلها وهو يحمل لهم مشروعًا نهضويًّا إسلاميًّا محدَّدًا، فقد دعا إليه أهل المدينة ليقتنعوا به ولينقادوا له ولدعوته.

فيتبيَّن من ذلك أنَّه لا يكفي أن تقدِّم الجماعة إلى النَّاس شعاراتٍ فضفاضةً أو أفكارًا جزئيَّة غير مترابطةٍ، ولا تغطّي احتياجات الأمَّة في الدولة والمجتمع والحياة؛ وذلك لأنَّ السلطان للأمَّة، فهي المسؤولة في الأساس عن حفظ الإسلام وتطبيقه في الحياة، والخليفة نائبٌ عنها في الحكم، فلا بد أن تعرف على ما تنيبه، وأن ترضى بدعوته لتختاره؛ ومن يأتي بغير اختيار الأمَّة ورضاها عنه وعن مشروعه فسلطانه غير شرعيٍّ، ويحرم عليه أن يمارس الحكم بلا سلطانٍ منها حتى وإن حكم بالإسلام، بل يجب منعه من الحكم لقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه»، وعدم الركون إليه لقوله تعالى: (وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ ).

ثانيًا: أن تبحث الجماعة عن أهل النصرة في مراكز القوة والمنعة في البلاد كقادة جيوش الأمَّة لاسترجاع سلطانها المغتصب من حكام الضرار في بلادها. فقد بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبائل العرب القويَّة، ولم يقهر أهل مكَّة ولا غيرها من القبائل الصغيرة رغم قدرته على ذلك، واستمر في طلب النصرة من أصحابها رغم ما لقيه من صعوبات حتَّى وافاه الأنصار، فثبت بذلك أنَّ التزام هذا الطريق واجبٌ حتميٌّ على كلِّ جماعة إسلاميَّةٍ تعمل لإقامة الخلافة.

ثالثًا: أن تعمل الجماعة في وجهاء النَّاس وقادة الفكر في الأمَّة لجذبهم إليها وإلى مشروعها الإسلامي الذي تحمله، فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء مكَّة إلى الإسلام، وخاطب صغار القبائل به من غير أن يطلب النصرة منهم.

رابعًا: بعد تمكن الجماعة من الحكم تعلن على الأمَّة عن البيعة التي أخذت، وعن الخليفة الذي بويع، وعن العاملين الذين انعقدت بهم البيعة، وتستدعي أولئك الوجهاء والقادة، وتطلب منهم مبايعة خليفة المسلمين؛ لترسِّخ البيعة وتضمن مناصرة الدولة. وبذلك تكون الأمَّة ومن يمثلها؛ هم الذين أقاموا الخلافة بعد استرجاع سلطانها المغتصب، وتكون الجماعة المظفَّرة هي التي حقَّقت الرجوع إلى الأمَّة وأخذ مشورتها ورضاها عمَّن ينوب عنها، وعمَّا تنيبه فيه حسب الأصول الشرعيَّة المقرَّرة.

وأخيرًا نقول لكلِّ من يسعى لإقامة الخلافة على منهاج النبوة؛ هذه هي طريقة إقامتها فسيروا بها واقتفوا بها أثر رسولنا الكريم، ولا يلفتنكم عنها صعوبة الطريق وكثرة التضحيات، ولتعلموا أن الخلافة عصية على التشويه مهما حاول البعض تشويهها؛ فقد خابوا وخاب مسعاهم، فالخلافة الراشدة المرتقبة تتأبَّى على التشويه، وتتعالى على التزييف، ولن يعيقها كيد الكائدين ولا بطش الباطشين أبدًا؛ لأنَّها تجذَّرت في قلوب الأمَّة المؤمنة، ويحمل لواءها رجال ربانيون نذروا أنفسهم لله، وهم بإذن الله تعالى ماضون حتى إقامتها؛ راشدة على منهاج النبوَّة.

هذه هي الطريقة الشرعية لإقامة الخلافة، والتي يجب أن تُتَّبع؛ لأن الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، كما أن سلوك غير هذه الطريقة يؤدي إلى تضييع جهود المسلمين، بل قد يؤدي إلى تركيز نفوذ الكفار المستعمِرين وعملائهم في بلاد المسلمين. هذا هو الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، ولمثل هذا فليعمل العاملون.

(وَيَوۡمَئِذٖ يَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٤ بِنَصۡرِ ٱللَّهِۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ٥). 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *