العدد 393 -

السنة الرابعة والثلاثون – شوال 1440هـ – حزيران 2019م

الانتماء للإسلام… المسؤولية الكبرى وصناعة التاريخ

الانتماء للإسلام… المسؤولية الكبرى وصناعة التاريخ

يوسف محمد

إذا كان أبرز ما في التاريخ كما يرويه الناس هو علاقات البشر ببعضهم، فإن «التاريخ» كما يقصه كتاب الله إنما هو علاقات البشر بالرسالات والرسل، ومنه بالضرورة علاقتهم برب العالمين؛ لأن هذه العلاقة هي أهم ما في التاريخ، بل هي أهم ما في الوجود الإنساني برمته، إذ إنها العلاقة التي تنبني عليها السعادة في هذه الحياة الدنيا وفي ما بعد هذه الدنيا، فإن كانت حال البشر مع الرسالات هي الاستجابة وذلك بالإيمان بالله تعالى والتسليم لدينه، كان الأمن والسلم وكانت الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٩٧)، وإن كانت حالهم مع الرسالات هي الكفر بالله تعالى والجحود لدينه كان البؤس والمعيشة الضنكى وعذاب في الآخرة أشد وأبقى، كما أخبرنا الله سبحانه (وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ يُؤۡمِنۢ بِ‍َٔايَٰتِ رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰٓ ١٢٧) ، ولقد كان في قصص القرآن عن الأقوام الخالية تمثيلًا عمليًا لقوله تعالى: ( قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ ١٢٤ ) ، فكانت هذه الآية هي خط البشرية العريض للسير؛ وذلك منذ أن أهبط الله عز وجل آدم وزوجه إلى الأرض، وكانت العلاقة مع دين الله هي سر التاريخ وفلسفة النهضة الصحيحة ومفتاح السعادة.

ولقد جاء الإسلام دين الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، خاتمًا للرسالات، وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، ورحمة للعالمين، ولأن هذا الدين هو آخر الرسالات من الله للبشر، فقد كان فيه ميزات لا بد وأن تكون في آخر الرسالات:

ا – لقد قامت عقيدته على توحيد الله، وهي عقيدة قررت أن الله عز وجل هو الواحد المتفرد بالخلق وهو المتفرد بالتشريع لخلقه (أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ)، فخالق الإنسان والدنيا هو الذي يضع نظام الإنسان في هذه الدنيا، إذ لا إله غيره، وهذه العقيدة التي نفت كل إله غير الله عز وجل، نفت كذلك أن يكون للبشر منهاج صحيح غير منهاج الله ونظامه وهو العليم بخلقه والخبير (أَلَايَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ١٤) ، ومن هنا كانت عقيدة الإسلام عقيدة سياسية بطبيعتها، إذ كان من لوازمها بعد حصر الأمر والنهي والتشريع بالله تعالى، أن الله مرسل للناس نظامه وشرعه، فكان محمد رسول الله، وجاءت رسالته تفصيلًا لما يلزم البشر في حياتهم من أنظمة، وتبياناً لكل شيء.

ب – ولقد جاء الإسلام محفوظًا بحفظ الله (إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ٩)، وبالتالي كان ثابتًا لا يلحقه التغيير لأنه سيبقى حجة الله على خلقه إلى قيام الساعة، وإذا كانت حجة الله على الناس هي الرسل، ولا رسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الحجة الباقية، ولذلك فإنها لم تتبدل ولن تتبدل ولن يستطيع أحد في الدنيا تبديلها، ولا خوف عليها من هذه الناحية.

ج – ولقد جاء الإسلام مرجعًا للبشرية في كافة شأنها، ليبقى هو مرجعها، وخارطة للطريق إن ضلت الطريق وتاهت بها السبل وضل العقل وساد الشر واستحكم الفساد. فكان الإسلام هو التصور الصحيح عن هذه الحياة الدنيا وخالقها، ومن أين جاء البشر، ولماذا جاؤوا، وإلى أين سيذهبون بعد هذه الحياة الدنيا، وكان كذلك منهجًا للبشرية في نظامها وحياتها وسلوكها، وأي حيدة عن هذا المنهج تعني بداية للتنكب وانزلاقًا في الشقاء.

د – جاءت أحكام الإسلام إنسانية، أي إنها تعالج الإنسان واحتياجاته ومشكلاته بوصفه الإنساني، وجاءت عامة وليست خاصة،

(وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ) ،فكانت فوق الأقوام والأجناس والأعراق والبيئات والأزمان والأماكن.

ومن هنا نرى بأن أحكام الإسلام بوصفها – إنسانية – قد جاءت في كثير منها خطوطًا عريضة يندرج تحتها ما لا يحصى من الحالات، وكانت وقائية علاجية، وقائية من حيث إنها تمنع وقوع المشكلات، فلن تجد مثلًا وجود المشكلات الناجمة عن الربا كما هو في المجتمعات الرأسمالية؛ لأن الإسلام قد حرم الربا أصلًا، وهكذا، وإن وجدت المشكلات بسبب اختلال في تناول أحكام الشرع، أو أسباب خارجية طارئة، فإنه يوجد من الأحكام ما يعالج تلك المشكلات، فلا يوجد في الإسلام خلل بنيوي ينتج عن تطبيق النظام لأنه من بنية النظام كما هو حال الأنظمة الوضعية في المجتمعات الرأسمالية مثلًا.

لقد كانت أحكام الشرع منظومةً من الحقوق والمسؤوليات والواجبات والضوابط، وحدودًا من الحلال والحرام، ومع أنها ثابتة لا تتغير لأن الناحية الإنسانية لا تتغير، إلا أنها تستوعب تطورات الحياة للإنسان ونشاطه، بل توفر له بيئة الانطلاق وإعمار الأرض، وتنتظم كل ذلك التطور بما يخدم الإنسان الذي سخر الله له الكون، دون أن ينحدر في الظلم والفساد، وإن نظرة سريعة لبعض المعالم لأنظمة الإسلام الناظمة للمجتمع تؤكد المذكور وتعطي صورة عن هذا الشرع العظيم.

فمثلاً إذا نظرنا إلى الاقتصاد نرى أن الإسلام قد وضع الأحكام التي توزع الثروات خير توزيع بعد أن وضع الله في الأرض خيراتها وقدر فيها أقواتها، وكانت أحكامه ترمي إلى ضمان حاجات الإنسان الأساسية وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية بقدر المستطاع، ووضع للمال سياسات ليقوم المال بدوره ودورته في الاقتصاد، فحرم حبسه بالكنز، ونهى أشد النهي عن سحبه من التداول حين حرم الربا وأبطله، ووضع أنواعًا للملكيات وأحكامًا للانفاق حتى لا يكون دُولة بين فئة من الناس وحكرًا، ثم أطلق يد الناس لتنتفع بالثروة وتعمر الأرض، فإذا جاع الناس بعد ذلك فإنه بسبب من الإنسان وكفرانه وظلمه كما قال الله تعالى:

(وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ٣٤ ).

وإذا نظرنا إلى الحكم نرى أن الإسلام جعل الشرع لله وحده، فهو خالق الناس يعلم سر صلاحهم ويعلم ما يفسدهم، ويعلم حالهم ومآلهم، فكانت السيادة للشرع، ولكنه بالمقابل جعل السلطان للأمة، تنيب عنها من تشاء في تطبيق شرع الله؛ لأن الأمة بالأساس هي المكلفة بإقامة الشرع، فكانت السلطة عقدًا وبيعة بالرضا والاختيار، تنيب الأمة عنها من تراه الأجدر والأقدر ليقوم بتطبيق الشرع، وكان هذا النظام للحكم أبعد ما يكون عن الاستبداد، إذ جعل الحاكم راعيًا وهو مسؤول عن رعيته، تعينه الأمة إن أحسن وتحاسبه إن قصر، فتتكامل الأدوار ولا تتناقض.

وإذا نظرنا إلى الاجتماع نرى أن شرع الله نظم علاقة المرأة بالرجل تنظيم العليم الخبير، فشرع من الأحكام ما فيه إشباع للحاجات الغريزية، وحفظ للأعراض، وبقاء للنسل، وسكينة للأنفس، وتكوين سليم للأسر وهي الحاضنة الطبيعية السليمة لنشوء الأطفال، ووزعت الوظائف للرجل والمرأة كل بما يناسب خلقته وطبعه، وكل ذلك بتكامل لا بتنافس وتناقض، ودون كبت ورهبانية فضحت أهلها كما هو حال «الفاتيكان» والكنيسة، ودون ابتذال وانحلال وانحطاط كما هو حال غالب المجتمعات الغربية.

وأما السياسة الخارجية لدولة الإسلام وعلاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم، فهي وجه بارز لسمو هذا الدين وعظمته، وذلك أن الإسلام قد صاغ أمة فريدة مجيدة، تكونت على أساس هذا الإسلام، فشرفها به وجعلها خير أمة، وجعل فيها سجية المسؤولية عن الغير لأنها خلفت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القيام على أمر هذا الدين وحمل الرسالة، فكان المؤمنون حملة للرسالة مع أنهم ليسوا أنبياء ولا رسلًا، وهم شهداء على الناس يوم القيامة وهذا مقام كريم، ولهذا كان البذل من سمات هذه الأمة، وقد تمثل هذا البذل وهذه الطبيعة الخيرة للأمة الإسلامية أكثر ما تمثل في الجهاد، ذلك الحكم الشرعي الذي لطالما كان من أكثر الأحكام التي تمت مهاجمتها من أعداء الإسلام، مع أنه في الحقيقة ليس إلا أسمى صور المسؤولية عن الغير حين تبذل أمة من الأمم النفس والنفيس وتلقي بفلذات أكبادها لإنقاذ البشر من الشقاء في الآخرة والدنيا.

ولما كان هذا هو الإسلام، وهو رسالة للعالمين من رب العالمين لا بد وأن تصل للناس، ونظامًا يطبق عليهم لتصلح به دنياهم وأخراهم، كانت الدولة ضرورة لوجود الإسلام في هذه الحياة، بل هي الشكل الذي يوجد بها الإسلام فيؤدي دوره ويفعل فعله؛ لأن الإسلام بطبيعته سياسة وحكم، وبالضرورة حاكم ونظام حكم، وقد أمر الله عز وجل نبيه أن يحكم به (إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ١٠٥ ) (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ)، وأمر المسلمين بطاعة الحاكم الذي يحكم بالإسلام(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ).

والإسلام لا يوجد كما ينبغي له دون وجود سلطان للإسلام، أي دون دولته، فهي الإطار الذي تؤدى فيه أحكام الإسلام، فتحد حدوده، وتفرض قوانينه، وتحمل دعوته، وتحمي بيضته، وترعى الشؤون بحسبه «إِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» (صحيح مسلم)، «فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (صحيح البخاري)، وقد جمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقام النبوة ورئاسة الدولة، وجمع لخيرة صحبه من بعده شرف الصحبة ورئاسة الدولة، وكانت سنة للأمة إلى يوم الدين في ضرورة الدولة، وأنها الشكل الذي أمر الله بإقامته وجوبًا، ليطبق فيه الإسلام، وليفعل فعله وينتج أثره، وليكون الحق الذي يعلو الباطل فيزهقه.

هذه هي طبيعة الإسلام وطبيعة أحكامه، أنها لا تطبق إلا بدولة، ولا تضمن من حيث التطبيق إلا بدولة، ولا يحافظ على الإسلام وعقيدته إلا بدولة، بل لا يكون وجوده مؤثرًا في حياة البشر من حيث هو عقيدة صحيحة وشريعة عادلة ورسالة حقة إلا بدولة؛ ولذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم دولة للإسلام وسلطانًا، وجاءت سنته مفصلة لأحكام نظام الحكم في الإسلام وشكله والذي تمثل في «الخلافة» وأحكامها.

لقد كانت الدولة هي الطريقة التي قررها الإسلام نفسه ليوجد بها في واقع الحياة، وعلى ذلك اتفقت كلمة علماء المسلمين وفقهائهم حتى قال ابن حزم رحمه الله «اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل…»، ثم يبين السبب في اتفاق العلماء على وجوب إقامتها، فيقول: «لِيقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم»، ومثله ما قال ابن تيمية رحمه الله «إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها» فالدولة في الإسلام هي الكيان الحاضن والحامي لدين الله.

على أن لله سننًا ماضية، ومنها أن الأمة إذا لم تأخذ الكتاب بقوة، وتخلفت عن القيام بأمر دينها ونظام ربها؛ فإنها لا بد وأن تنتكس وتتخلف وتصل إلى أسفل دركات الانحطاط، وقد كان هذا ما حصل للأمة الإسلامية، إذ ضعفت في فهم إسلامها، واضطربت علاقتها برسالة نبيها، فقصرت في حملها، وتراخت في أخذ دينها، ولم تنتبه لتربص عدوها، فانقض عليها الكافر المستعمر، وهدم دولتها، فانفرطت هذه المنظومة التي تتكون من الرسالة والأمة والدولة، وكان الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ، عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ، تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنّ نَقْضًا الْحُكْمُ، وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ».

وقد تولى أمر الأمة من بعد ذلك حكام يمثلون الاستعمار الذي نصبهم وفرضهم، ولا يمثلون أمتهم، وإذا كان أبرز ما حصل للمسلمين بعد هدم دولتهم وتسلط الاستعمار عليهم هو غياب نظامهم الذي هو الإسلام وتقسيم بلادهم إلى أجزاء، فإن دور هؤلاء الحكام كان هو الحرص على استمرار تقسيم البلاد، والحرص على إبعاد الإسلام عن أن يكون نظامًا يحكم، فكانت هذه أبرز وظائفهم، وقد صارت ماثلة للعيان بل وحتى للعميان. وإذا كان الإمام في الإسلام إنما هو ليحكم بالشرع؛ فإنهم – أي الحكام – قد عطلوا الشرع، وإذا كان الإمام جنة لرعيته أي درعًا؛ فإن هؤلاء قد كشفوا الأمة لكل سافل، ومكنوا منها كل قاتل. وإذا كان الإمام راعيًا وهو مسؤول عن رعيته؛ فإن هؤلاء ضيعوا الناس وأفقروهم. وإذا كان الإمام من أجل أن يحكم بين الناس بالعدل ويؤدي الأمانة ويجلب الأمن؛ فإن الحكام الحاليين قد خانوا الأمانات وبالغوا في الظلم، وأرعبوا الناس حتى باتوا هم مصدر الخوف.

وهكذا فإنه ليس حكم من أحكام الله يُعطل إلا وظهر خلل في حياة الناس، وليس هناك خلل إلا وخلفه حكم من أحكام الله معطل، فكيف إذا عطل حكم الشرع برمته، ولذلك ليس غريبًا ما يعانيه المسلمون اليوم بعد هدم الخلافة من بؤس وبأساء وفقر وفساد وتشرد وضياع.

غيرأن أمةالإسلام كماوصفها ربها  عز وجل هي خير أمة أخرجت للناس (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ) فالخيرية فيها جزء منها، وخيريتها تمنعها من أن يدركها الفناء، ولذلك فإنها ما لبثت بعد مصيبتها في هدم دولتها أن استفاقت فأخذت تتحسس الطريق، وما كان عدوها بهذا اللؤم الشديد الذي فاق الوصف كما نراه الآن إلا لإدراكه لحركتها بأنها تتحسس رغم ظلمات الواقع نور إسلامها.

وفي ظل هذه الاستفاقة للأمة والتي تمثلت وظهرت من خلال ظهور حركات وتحركات، نشأ حزب التحرير كتعبير سليم أصيل عن الأمة حين تنشد خلاصها في مبدئها، وكان بما حمله من أفكار بلورة نقية للفكرة التي تحملها هذه الأمة، فقد أدرك الحزب الإسلام بعقيدته ونظمه بوضوح، فأزال عن الفكرة الإسلامية ما لحق بها من شوائب، ووضع تصورًا للحياة الإسلامية حسب أحكام الإسلام، وذلك بتفصيل أنظمة الإسلام، كأنظمة الحكم والاجتماع والاقتصاد والتعليم والسياسة الخارجية وشكل الدولة وأجهزة الحكم، وأعدَّ دستورًا إسلاميًا خالصًا لا يستند في شيء إلا إلى العقيدة الإسلامية ومصادر التشريع فيها، ثم قام يحمل الدعوة ويعيد للأمة ثقتها بإسلامها بإزالة التشويش والتشويه والشوائب عن الفكرة الإسلامية، وطرحها بقوة ووضوح ليعيد ما انفرط من عقد العلاقة بين الأمة ودولتها ورسالتها (مبدئها)، ويقيم مع الأمة الإسلامية الدولة الإسلامية، لتعود الخلافة مرة أخرى، فتستأنف الحياة الإسلامية وتحمل الدعوة الإسلامية، وتعود الأمة لوضعها اللائق بها،ومكانها الذي شرفها الله به، خير أمة أخرجت للناس.

 ولعل أبرز ما تميز به حزب التحرير إضافةإلى الوضوح والصفاء في إدراك الفكرة الإسلامية (عقيدة وأنظمة) هو فهمه للطريقة التي أقرها الإسلام وشرعها الله عز وجل لإيجاد مبدأ الإسلام في واقع الحياة، ألا وهي الدولة الإسلامية، ومثل ذلك فهمه لطريقة إيجاد هذه الدولة حسب ما أقره الإسلام أيضًا، فكان أن استنبط من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم «الطريقة الشرعية» في إقامة الدولة الإسلامية، وسار بها ملتزمًا مراحلها وأحكامها كأحكام شرعية واجبة الاتباع، مبتعدًا بذلك عن الارتجال وعفوية السير واضطراب التجارب، مع إدراك للفرق بين الشكل في الحياة المعاصرة وشكل الحياة أيام بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وما يقتضيه ذلك من أسلوب ووسيلة.

لقد كانت طريقة حزب التحرير إضافة لشرعيتها – إن صح التعبير – استراتيجية كبرى تقابل استراتيجية الغرب الكافر فيما يتعلق بالأمة الإسلامية، فبينما تقوم استراتيجية الغرب الاستعمارية على تثبيت وتأبيد التقسيم بالقطرية والوطنية، وفرض العلمانية والحكام العملاء الحاكمين بها، وضخ الفساد والأفكار الباطلة، واختطاف قوى الأمة ونهب مواردها وثرواتها… كانت أعمال الحزب في إزالة آثار سايكس بيكو من تفكير الأمة والسعي بها نحو الوحدة، والصراع مع أفكار العلمانية، وكشف الحكام العملاء ونزع الشرعية عنهم… ضدًا وندًا لما يقوم به الغرب ويمارسه على الأمة الإسلامية، والحزب إضافة لما سبق كان يعمل وما يزال على تجميع مراكز القوة المبعثرة والمختطفة في الأمة لإقامة سلطان للإسلام يستند إلى قوى الأمة الذاتية لا غير، ويستمد الحاكم فيها شرعيته من إرادة الأمة ورضاها وبيعتها الشرعية له على تطبيق الشرع.

إن حزب التحرير قد تجاوز الطوق والحصار الذي فرضه الغرب بعلمانيته وحكامه التابعين بادعاء تحريم وتجريم العمل الحزبي على أساس الإسلام، ومحاولة حصر الإسلام بالشأن الفردي فقط، وإن كان لا بد من حركات إسلامية، فبالقواعد التي قررها الغرب وتحت سقفه وفي إطاره وإطار مؤسساته وقوانينه، إن الحزب قد تجاوز ذلك كله، حين أدرك أن حمل الدعوة للإسلام يتطلب الالتزام بأوامر الله فقط، حتى وإن ضاقت بذلك قوانين العلمانية وأعرافها وأطرها ومؤسساتها، والحزب منذ أن نشأ وحتى هذه اللحظة لا يزال يعمل في الأمة حسب طريقته الشرعية ويغذ السير للوصول إلى الهدف المنشود، وكلما ازداد التفاف الناس حول تلك الدعوة التي يحملها الحزب وتحددت وجهتهم نحو الهدف، دولة الخلافة، كان رجاؤنا لنصر الله أقرب.

وأخيراً فإن الانتماء لهذا الدين العظيم هو نعمة من الله لا تعدلها نعمة، وشرف لا يدانيه شرف، ويقابل تلك النعمة العظمى، مسؤولية كبرى في العمل لهذا الدين الذي ننتمي إليه، والعمل على أن يوضع في المنزلة التي تنبغي له، دولةً وخلافةً وظهورًا على الدين كله، وكما أن العمل لدولة الإسلام مسؤولية كبرى فإنها أيضًا فرصة نادرة للمساهمة في صناعة التاريخ لهذه الحقبة الخاصة من تاريخ الإسلام، وفرصة كذلك لمن يتطلع ويرجو أن يكون من الفئة التي تستجلب نصر الله، وإننا نسأله تعالى أن يكون نصره قريبًا.ش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *