العدد 389 -

السنة الثالثة والثلاثون، جمادى الآخرة 1440هـ، شباط/فبراير 2019م

كتاب الدولة المستحيلة: نظرة نقدية لطرح استشراقي

 كتاب الدولة المستحيلة: نظرة نقدية لطرح استشراقي

لطفي بن محمدماليزيا

على كثرة الكتب والدراسات التي تناولت التراث السياسي الإسلامي وعلاقته بالدولة، وفي ظل المتغيرات الدولية والإقليمية، فإن الكتاب الذي صدر سنة 2014م تحت عنوان الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” يعتبر توجهًا جديدًا في نقد الطرح الإسلامي المنادي بعودة الإسلام فكرة وطريقة، واستئناف الحياة الإسلامية من خلال دولة تؤمن به وتطبقه. وتدور فكرة الكتاب حول نقطة محورية وهي أن الدولة المستحيلة والمقصودة بها هنا هي ذلك النموذج الإسلامي للحكم، وأن أخلاقياته التشريعية تتنافى مع واقع الدولة الحديثة، والتي وصفها بأنها تعيش تعاسة أخلاقية. فهما على طرفي النقيض، ولا يمكن للمشروع الإسلامي أن ينصهر في بنية الدولة الحديثة. ويقدم تحليلًا لذلك من خلال عقد مقارنات بين النموذجين تركزت في إبراز البعد التاريخي والأيديولوجي لكل من السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية. وبناءً على ذلك، فإن الكاتب يصل إلى فكرة مفادها أن المسلمين، والقول هنا موجه إلى أصحاب المشروع الإسلامي، جماعات وأفرادًا، ملزمون بتبني تصور جديد للحكم يضع ضمن رهاناته المنظومة الأخلاقية، وإن كان في الأمر استحالة، خاصة في ظل تفشي النموذج الغربي وسطوته الفكرية والسياسية وحتى العسكرية. فالكاتب يريد أن يقنع القارئ أن مثالية الإسلام و تشريعاته هي عقبة في سبيل إيجاده في واقع مليء بمفاهيم الحداثة. وبطريقة مبطنة، فهو يريد القول إن الدعوة إلى الدولة الإسلامية، والتي يحاول تجنب استخدام مصطلحها، هي تشتيت للجهود في فكر مثالي، لأن الواقع أمر آخر تستحيل المثالية الإسلامية أن تصلحه، أو أن تجد له مخرجًا.

ولأجل إثبات دعوته، فقد اتخذ منهجًا ذكيًا في طرحه، اعتمد على نقد المنتوج الحضاري الغربي وإبراز انحطاطه. وفي المقابل تطرق إلى ما يسميه نظام الحكم الإسلامي بشكله العام، وأنه أفكار وأحكام وجدت في الماضي، ولكن فكرة استجلابها قد لا تتكرر لاختلاف السياقات الحضارية. فهو يرى أن الدولة الحديثة، بما لها وما عليها، أمر واقع ومحتم، ولا يمكن القفز عليه أو تجاهله، وبالتالي فإن الهدف العملي المثمر هو توجيه النقد البناء للفكر الحداثي من أجل إصلاحه من خلال الاستعانة ببعض التشكيلات الأخلاقية التي يتميز بها النموذج الإسلامي. وهكذا نجد أنفسنا أمام مقاربة ترمي إلى نسف المشروع الإسلامي وتقزيمه وإضفاء الصفة المثالية حوله، وتجعل من دعاته في قفص الاتهام، وأن دعوتهم غير واقعية بل خيالية.

 إن هكذا ادعاء يندرج ضمن ادعاء قديم في ثوب جديد تتغير ملامحه كلما اضطر إلى ذلك، وهي معركة فكرية وجودية سارع في إبرازها وجود تيار كبير في الأمة ينادي بعودة الإسلام إلى الحكم والدولة والمجتمع، والتصارع الدائم بين المبادئ، ومحاولة فرض منطق الغالب على المغلوب. وفي ظل الحملات الفكرية المتتالية على الإسلام ومنهجه فإنه يحتم علينا إبراز خبث وزيف هذه الادعاءات، ورسم الخط المستقيم بجانب الخط المعوج حتى يتضح نقاء الطرح الإسلامي وتبيان تكامله وواقعيته. ومن أجل ذلك، فإن هذا المقال يهدف إلى مناقشة الكتاب الآنف الذكر.

تُعرَّف الدولة على أنها ذلك الكيان التنفيذي لمفاهيم وقناعات الناس. وبما أنها تنفيذية، فهي تحتاج إلى فكر؛ لأن التنفيذ دون فكر هو عبث، والدولة غير السلطة. فالأخيرة وإن كانت داخلة ضمن إطار الدولة، فانه يمكن حصرها في ما يسميه الباحثون بقوة القانون المستمدة من الشرعية الإلهية كالإسلام، أو العقلية كما في غيره. وتختلف الدول باختلاف الأفكار الأساسية المتبناة في النظر إلى حقيقة الكون والإنسان والحياة، والتي تنعكس في شكل المؤسسات التي تجسدها الفكرة وتنبثق منها أحكام سيرها. فالدولة في الإسلام نشأت مع أول خطوة خطاها الرسول الكريم باتجاه استلامه الحكم وتوقيعه لميثاق المدينة وتأسيسه لمفهوم الأمة. وتعتبر الدولة في الإسلام أمرًا واجب الوجود لارتباطها الوثيق بوجود الإسلام حيًا في المجتمع، وإن كان الفقهاء لم يستخدموا مصطلح الدولة، ولكنهم عبروا عن ذلك الكيان السياسي بالخلافة، ولم يدخروا جهدًا في توضيح معالمها حتى يتسنى للأمة ممارسة صلاحياتها على الوجه الصحيح. واستمر الحكم الإسلامي “الخلافة” على مدى 14 قرنًا، انتهى بسقوط الدولة العثمانية سنة 1924م وإقامة الدولة التركية العلمانية “الحديثة” على أنقاضها. والأمر نفسه حصل مع بقية المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية، فقد تم تفتيتها إلى مزق من قبل الدول الأوروبية الحديثة.

إن الفكر الغربي لم يعرِّف الدولة بمفهومها الذي عرَّفه الإسلام إلا بعد أن حسم صراعه الدامي بين الكنيسة والمفكرين وانهيار النظام الإقطاعي، وبذلك برز تيار في المجتمع يتصدره المفكرون والأدباء ينادون بفصل الدين عن الدولة، وقد تُوج ذلك بإنشاء الجمهورية الفرنسية التي ما لبثت أن بدأت بثورة فكرية أسست لما أطلق عليه فيما بعد بالدولة الحديثة. وكان أن بدأ البحث الجدي في شكل وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، واعتبر جون جاك روسو أن “الدولة شر لا بد منه“، فهم قد اعتادوا على منطق الغاب؛ ولهذا فإن فكرة التنظيم في شكل مؤسسات لم يتم قبولها في البداية، ولكن مع الزمن نضجت الفكرة وأصبحت الدولة كما يصفها الكاتب بأنها ذات سلطة غير محدودة واستبدادية. وعليه فالسياق التاريخي يمكن الاحتجاج به في إثبات أن المقصود بالدول الحديثة هي وجهة النظر الغربية للدولة. وقاعدتها الفكرية فيها هي فصل الدين عن الدولة والحياة.

إنه لمن الطبيعي أن يفرض الغرب أسلوبه وفكره ومنهجه، ويسعى إلى نشره وإبراز مفاتنه وإخفاء عيوبه. ولعله من البديهي أيضًا أن ندرك أن الدول التي أنشأها الاستعمار أو كان سببًا في وجودها هي مجرد امتداد مسخ له ولحضارته. فهو قد أنشأ دولًا، أي مؤسسات، من قضاء وتعليم ومؤسسات عسكرية ووسط سياسي، ويذكر الكاتب ذلك: “كما أنّ النخب القومية في الدول العربية حافظت على السياسة الاستعمارية المستبدّ ة ذاتها )ص32) ولكن كل هذا ضمن سياقه الحضاري الذي تم فرضه بالحديد والنار؛ لأن المجتمع الذي طبق عليه النموذج يحمل مفاهيم وقناعات مختلفة؛ مما جعله في تصادم دائم وانعدام للانسجام. وبقي التصادم قائمًا ومن أوجه، أولًا: إيجاد مناخ فكري مليء بالتشوهات يحاول إيجاد عقلية لا ترى إلا بمنظار ما يراه الغرب، واعتبر ذلك هو المنهج العلمي الصحيح والموضوعي. ثانيًا: تلويث أفكار الناس فيما يتعلق بالإسلام ونظام حكمه، وكانت الانطلاقة بكتاب علي عبد الرازق الذي يفتقر التأصيل العلمي، ويدل على عدم استقراء للمادة العلمية وجهل مطبق بها، هذا فضلًا عما تدور حوله من الشبهات من أن كاتبه هو اليهودي مارجيلوث، ومدققه اللغوي طه حسين، وما علي عبد الرازق إلا عميل فكري. ومن أجل استمرار عملية التلويث، فقد تم تغيير مناهج الأزهر والزيتونة من خلال الإصلاحات التي سعت إلى تغييب تام للنظام السياسي في الإسلام، واعتباره مجرد خطوط عريضة وقواعد إنسانية عامة؛ وبهذا تفقد كنهها وتميزها. ويمكننا إدراك قلة المتاع الفكري والفقهي لدى الكاتب “وائل حلاق” فيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي بشكل واضح وجلي عند تطرقه لنموذج الحكم الإسلامي. فهو في البداية يحاول إبعاد ذهن القارئ عن مصطلح الخلافة واستبداله بالحكم الإسلامي، واعتبار أن الإسلام لم ينتج دولة بالمفهوم الحديث “لأنها تحتوي مدلولًا يشير إلى أنّ الوحدات الإسلامية الناظمة للسياسي والاجتماعي لم تكن متداخلة بصورة وثيقة في إطار منتظم” وهذا يدل على محاولة لإعطاء تفسيرات غير منطقية لوقائع تاريخية وتشريعية غير مبررة. ومما يستدل به كذلك هو قوله إن الحاكم في الفكر الإسلامي هو مستأجر “يمكننا توصيف السلطة التنفيذية في الحكم الإسلامي بأنها طبقة مستأجرة ملتزمة بتأدية وظائف معينة، تحافظ على تطبيق الشريع (التي قّننها الفقهاء) بالنيابة عن الأمّة، وتخضع لنظامها لقاء إيجار تفرضه على الناس” وهذا منطق رأسمالي بعيد كل البعد عن الفقه السياسي الذي اعتبر أن الحاكم في الإسلام هو شخص يخلف الأمة في تطبيق ما أمروا به، ويتم تعيينه وفق نظام محدد يسمى بالبيعة. و يستمد شرعيته، أي الحاكم، من كونه ممثلًا للأمة، والتي وجب عليها طاعته مادام أنه قائم على حدود الله. فالسلطان للأمة، فهي التي تعين الحاكم الذي يرتبط بعقد معها، وإن أخلَّ ببنود العقد، فإن للأمة الصلاحية في خلعه. وفي سياق آخر، فإن الكاتب وصف نظام الحكم الإسلامي بأنه قاصر عن إيجاد ما يطلق عليه البيروقراطية، أو بمصطلح آخر، الأجهزة الإدارية. ومرة أخرى يقع في فخ جهله الذي هو غير معذور به، خاصة وأنه أراد إضفاء الصفة الأكاديمية على كتابه، وعمل على حشوه بكثير من كلام الفلاسفة الغربيين ونظرياتهم. وبهذا يتضح أن المؤلف لم يعتمد على الأسلوب العلمي الدقيق في تناوله للموضوع الرئيسي، وبهذا فإن نقاش تفاصيل ما بني عليه غير نافع.

أما انتقاده للحضاره الغربية والحداثة في ثوبها الحالي فهو لم يأتِ بجديد، فقد سبقه الكثير من الكتاب الغربيين من أمثال جان زيغلر في كتابه “سادة العالم الجدد” ونعوم شومسكي “من يحكم العالم” ومايلز كوبلاند “لعبة الأمم” والكثير الكثير… فالغاية التي أرادها الكاتب من تناوله لإفلاس النموذج الغربي هو من أجل إبراز أنه كاتب حيادي ينتقد الطرفين ويحاول الأخذ بأفضل ما فيهما، ولكنه يغلِّب النموذج الغربي باعتباره القائم والأكثر واقعية على خلاف النموذج الإسلامي الذي يفتقد لمفهوم الدولة الحديثة، وتشوبه الكثير من المثالية، ولكن يمكن الاستفادة منه في تقويم ماأفسده الدهر. إن الإشكالية في المنهج الغربي هي قاعدته الفكرية، والتي انبثقت عنها معالجاته التي تسيِّر الحياة. فهي قاعدة أعطت للعقل المتقلب صلاحية التشريع، وخالفت بذلك فطرته التي تقر بعجزه وأنه مجرد مخلوق لخالق مدبِّر حكيم، ولعل عدم إدراكه لهذه الحقيقة هو أنه شخص مسيحي. إن متلازمة القتل والفقر والفساد بالنسبة للدولة الحديثة أمر لا يمكن الانفكاك منه، وهو أمر غير مخفي على كل مطلع على التاريخ الإجرامي للثورة الفرنسية، والجرائم الوحشية التي مارسها المستعمرون الأوروبيون تجاه الهنود الحمر، والحروب التي قامت بها بريطانيا على الصين فيما يسمى بحروب الأفيون، وحرب العراق وأفغانستان وهيروشيما وغيرها الكثير. فما ذكره الكاتب من إفلاس وحياد هو في حقيقته أصل من أصول النموذج الغربي الذي لم يحد عنه، وإنما ازاداد شراسة ونهمًا، وتسبَّب في كوارث بشرية وطبيعية. وحتى التكنولوجيا التي يتغنى بها فهي ممنوعة على الأمم الفقيرة لتبقى على ما عليه من الاستعباد والنهش… إذًا، الغرب لم يحد، وإنما استمر فيما كان عليه، وإن زيَّنه ببعض البهرجة الإعلامية والفكرية هنا وهناك.

وأخيرًا، فإن الكتاب لم يقدم طرحًا علميًا كما يدعيه، وعدم تمكنه من المادة العلمية غير مخفي على كل ذي بصيرة. وأما تمسكه بقشة نقد النموذج الغربي فهي حيلة لن تنطوي على من أدرك ألاعيب مفكري الغرب ومستشرقيه، ووجب على الأمة إدراك خطط أعدائها وأساليبهم التي لن تتوقف مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ . إن على الأمة ومثقفيها المخلصين هو السعي الحثيث لإعادة الثقة بأحكام الإسلام ومعالجاته، وأن التنازل عن أي جزئية تعتبر بداية للانهزام الذي يتلوه غضب رباني، قال تعالى: ﴿وَلَوۡلَآ أَن ثَبَّتۡنَٰكَ لَقَدۡ كِدتَّ تَرۡكَنُ إِلَيۡهِمۡ شَيۡ‍ٔٗا قَلِيلًا ٧٤ إِذٗا لَّأَذَقۡنَٰكَ ضِعۡفَ ٱلۡحَيَوٰةِ وَضِعۡفَ ٱلۡمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيۡنَا نَصِيرٗا ٧٥ .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *