العدد 384 -

السنة الثالثة والثلاثون – محرم 1440هـ – أيلول / سبتمبر 2018م

مع القرآن الكريم

( وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٤٠ وَلِلۡمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٤١ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٢٤٢ ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

في هذه الآيات يبين الله سبحانه:

  1. أن على الأزواج أن يوصوا عند وفاتهم أن يُنفق على زوجاتهم وتوفر لهم السكنى حولًا كاملًا، ولا يصلح للأولياء أن يجبروهن على ترك مسكنهن، والنفقة تستمر لهن إلى نهاية الحول، إلا إذا تركن المسكن باختيارهن، وعندها تنتهي النفقة عليهن، ولا يكون بعدها إثم على الأولياء ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من قطع الحداد ولبس الجميل من الثياب أو الطيب ونحوهما، حسب المعروف لأمثالهن ضمن الأحكام الشرعية المتعلقة بحياتهن العامة والخاصة.

ويختم الله سبحانه الآية بأنَّه غالب على أمره يعاقب من خالف أمره، لا يأمر إلا بما يصلح أمر عباده (وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ).

( وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم ) أي ليوصوا وصية، وهو طلب من الله سبحانه للذين أشرفوا على الموت أن يوصوا لأزواجهم من بعدهم.

وهذا الطلب جازم بدلالة ذكره سبحانه (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ) وهذا المنطوق فيه دلالة إشارة أن هذه الوصية مترتبة عليهم وهم أموات، أي في ذمتهم إن ماتوا دون أن يفعلوها؛ وذلك لأن الله سبحانه لم يقل (إذا حضرتهم الوفاة) بل قال (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ) وهو وإن كان المقصود من المنطوق (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ) الذين يشارفون على الوفاة على سبيل المجاز، إلا أن استعمالها فيه دلالة إشارة كما قلنا على ترتب هذه الوصية في ذمتهم لو توفوا ولم يفعلوها.

( مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ ) أي النفقة عليهن والسكنى مدة الحول. وقد كان في أول الإسلام أن الرجل يجب عليه أن يوصي عند وفاته لزوجته من بعده النفقة والسكنى مدة سنة، وكانت النفقة والسكنى واجب عليه مدة سنة إلى نزول قوله تعالى: ( وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ) فأوجب الله فيها على النساء بعد أزواجهن عدة مقدارها أربعة أشهر وعشرًا، وهي التي يجب على الزوج فيها النفقة والسكنى لأنها العدة.

ولم يتركها الله سبحانه لوصية الأزواج، فلم يسند تحديد العدة إلى الأزواج بالوصية كما في (وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ) بل حدد الله سبحانه العدة، وجعل النفقة والسكنى واجبة فيها وليس أكثر منها.

ومن ثم نَسَخَتْ آية (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ) آية ( وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ) وصارت العدة للمرأة التي يجب فيها النفقة والسكنى للمرأة وهي أربعة أشهر وعشرًا، وبعد ذلك فلا سكنى ولا نفقة للمرأة المتوفى عنها زوجها إلا نصيبها من ميراثه الربع إن لم يكن له ولد، والثمن إن كان له ولد كما جاء في سورة النساء (وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ مِمَّا تَرَكۡتُمۚ مِّنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ تُوصُونَ بِهَآ أَوۡ دَيۡنٖۗ) النساء/آية12.

ولا يقال كيف تنسخ آية البقرة السابقة في التلاوة الآية اللاحقة في التلاوة؟ لا يقال ذلك لأنها وإن كانت قبلها في التلاوة إلا أنها بعدها في النزول، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في التلاوة في هذا المكان لأن ترتيب الآيات في السور توقيفي لحكمة يعلمها الله.

وهي مثل الآية (۞سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيۡهَاۚ ) البقرة/آية142 في التلاوة تسبق آية (قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبۡلَةٗ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥۗ )البقرة/آية144 علمًا بأنها في النزول بعدها كما هو ثابت في معناها وكما بيناه سابقًا في موضعها.

أخرج ابن جرير عن ابن عباس: “قال: (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم مَّتَٰعًا إِلَى ٱلۡحَوۡلِ غَيۡرَ إِخۡرَاجٖۚ) فكان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته وينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ) فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملًا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: (وَلَهُنَّ ٱلرُّبُعُ مِمَّا تَرَكۡتُمۡ إِن لَّمۡ يَكُن لَّكُمۡ وَلَدٞۚ فَإِن كَانَ لَكُمۡ وَلَدٞ فَلَهُنَّ ٱلثُّمُنُ ) فبين الله ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة” (الدر المنثور، تفسير الطبري، البيهقي).

ولذلك نقول إن هذه الآية كانت في أول الإسلام وكانت ترتب على الأزواج وجوب النفقة والسكنى لأزواجهم اللاتي يتوفون عنهن مدة حول كامل، وكان يحرم على الورثة أن يخرجوهن من السكنى أو يمنعوهن النفقة طيلة الحول ما دمن لم يخرجن من المسكن.

فإن خرجن باختيارهن وتركن المسكن المعين فقد انتهى وجوب النفقة لهن، وعندها لا جناح ولا إثم لا على الأولياء ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من لباس أو طيب أو نحوه في حدود الشرع ( فَإِنۡ خَرَجۡنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِي مَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعۡرُوفٖۗ). وقد استمر ذلك إلى أن نزلت الآية (وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ) فنسخت وجوب النفقة والسكن السابقة وحصرتها فقط في العدة (أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ)، وجعلت النفقة والسكنى واجبة للمرأة خلال عدتها فقط.

أخرج مالك في الموطأ أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ؛ فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ. قَالَتْ: فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فِي بَنِي خُدْرَةَ؛ فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةٍ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قَالَتْ: فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي. فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ” (الموطأ) قال الترمذي عن هذا الحديث حسن صحيح.

ثم يختم الله سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه (وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ) أي أن الله غالب على أمره يعاقب من خالف أمره، وأنَّه يقضي بما هو خير لعباده وما فيه مصلحتهم الحقة فليمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه يفوزوا في الدنيا والآخرة.

  1. يؤكد الله سبحانه في الآية الثانية وجوب المتاع للمطلقات غير المدخول بهن وغير المسمى لهن مهر، ففي الآية السابقة (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِينَ٢٣٦ ) فقال أحد المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أحسن لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية لبيان أن متعة هذا النوع من المطلقات فرض (حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ ٢٤١ ) وقد بينا ذلك في تفسير تلك الآية.

وهذه الآية والآية السـابقـة متصـلتان في آيـات الطـلاق قبـلـهـا، فالآيـة السـابقة (وَصِيَّةٗ لِّأَزۡوَٰجِهِم) منسوخة بالآية قبلها (يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ) والآية هذه (وَلِلۡمُطَلَّقَٰتِ مَتَٰعُۢ) لإزالة الالتباس في الآية (وَمَتِّعُوهُنَّ) وبيان أن هذه المتعة على الوجوب.

  1. ويبين الله سبحانه في الآية الأخيرة أنه أنزل هذه الأحكام لتعقلوها وتتدبروها وتنفذوها، ففيها خيركم في الدنيا والآخرة فهي التي تحقق لكم حياة طيبة مع أزواجكم وأبنائكم وسائر أموركم (كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٢٤٢ )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *