العدد 383 -

السنة الثالثة والثلاثون، ذو الحجة 1439هـ،، آب 2018م

الصحابي المؤمن الشهيد المجاهد الصامت أبو عبد الرحمن زيد بن الخطاب رضي الله عنه

الصحابي المؤمن الشهيد المجاهد الصامت

أبو عبد الرحمن زيد بن الخطاب رضي الله عنه

إنه الشقيق الأكبر للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أسلم قبل أخيه عمر، وكان من السابقين الأوائل، وقد آتاه الله عز وجل بسطة في العلم والجسم؛ فكان رضي الله عنه مؤمنًا عن بصيرة، وكان طويل القامة أسمر اللون

هاجر زید بن الخطاب مع أخيه عمر من مكة إلى المدينة، وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي الأنصاري، وظلا معًا حتى استشهدا في اليمامة، وكان إيمانه بالله وبرسوله إيمانًا قويًّا، فلم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة أو مشهد، فشهد غزوة بدر وأحد والخندق، كما شهد بيعة الرضوان بالحديبية، وفي كل مرة يقابل فيها أعداء الإسلام كان يبحث عن الشهادة. ففي غزوة أحد كان يقاتل ببسالة وشجاعة، ويتصدى للمشركين بصدره، دون درع تحميه، ولما رآه أخوه عمر بن الخطاب بهذا الوضع، خلع درعه وأعطاه إياها قائلًا له: «أقسمت عليك إلا لبست درعي» فأخذها زید ولبسها، ولكنه بعد لحظة نزعها وأعادها إلى عمر قائلًا له: إني أريد لنفسي ما تريد لنفسك، أي إني أريد الشهادة مثلما تريدها أنت.

بلاء زيد في موقعة اليمامة واستشهاده

لقد تأثر زيد رضي الله عنه تأثرًا كبيرًا عندما ارتدت بعض قبائل العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي ﷺ؛ لذلك، ودون أي تردد، توجه مع جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه لحرب المرتدين، وعلى رأسهم مسيلمة الكذاب.

وكان إلى جانب مسيلمة الكذَّاب الرَّجَّال بن عنفوة، وكان لهذا الرجل قصة في إسلامه وارتداده عن الإسلام.

فالرّجّال بن عنفوة هذا، كان قد أسلم زمن الرسول ﷺ، ولما تلقّى منه الإسلام عاد إلى قومه، ولم يرجع إلى المدينة إلا إثر وفاة الرسول ﷺ واختيار الصدّيق خليفة على المسملين. ونقل إلى أبي بكر أخبار أهل اليمامة والتفافهم حول مسيلمة، واقترح على الصدّيق أن يكون مبعوثه إليهم يثبّتهم على الإسلام، فأذن له الخليفة، فلما توجّه الرّجّال إلى أهل اليمامة ورأى كثرتهم الهائلة ظنّ أنهم الغالبون، فحدّثته نفسه الغادرة أن يحتجز له من اليوم مكانًا في دولة الكذّاب التي ظنّها مقبلة وآتية، فترك الإسلام، وانضمّ لصفوف مسيلمة الذي سخا عليه بالوعود. وكان خطر الرّجّال على الإسلام أشدّ من خطر مسيلمة ذاته؛ فقد سار بين الناس يقول لهم إنه سمع رسول الله ﷺ يقول إنه أشرك مسيلمة بن حبيب في الأمر، وما دام الرسول ﷺ قد مات، فأحق الناس بحمل راية النبوّة والوحي من بعده هو مسيلمة، ولقد زادت أعين الملتفين حول مسيلمة زيادة طافحة بسبب أكاذيب الرّجّال هذا، بسبب استغلاله الماكر لعلاقاته السابقة بالإسلام وبالرسول ﷺ…

كانت أنباء الرّجّال تبلغ المدينة، فيتحرّق المسلمون تغيُّظًا من هذا المرتدّ الخطر الذي يضلّ الناس ضلالًا بعيدًا، والذي يوسّع بضلاله دائرة الحرب التي سيضطر المسلمون أن يخوضوها. وكان أكثر المسلمين تغيّظًا، وتحرّقًا للقاء الرّجّال صحابيٌّ جليلٌ تتألق ذكراه في كتب السيرة والتاريخ تحت هذا الاسم الحبيب زيد بن الخطّاب..!! ولقد أعدّ زيد نفسه ليختم حياته المؤمنة بمحق هذه الفتنة، لا في شخص مسيلمة، بل في شخص من هو أكبر منه خطرًا، وأشدّ جرمًا، هو الرّجّال بن عنفوة. وجمع خالد بن الوليد جيش المسلمين، ووزعه على مواقعه، ودفع لواء الجيش إلى زيد بن الخطّاب.

قاتل بنو حنيفة أتباعُ مسيلمة الكذَّب قتالًا مستميتًا ضاريًا، ومالت المعركة في بدايتها على المسلمين، وسقط منهم شهداء كثيرون. ورأى زيد مشاعر الفزع تراود بعض أفئدة المسلمين، فعلا ربوة هناك، وصاح في إخوانه: «أيها الناس.. عضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوّكم، وامضوا قدمًا.. والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله، أو ألقاه سبحانه فأكلمه بحجتي». ومن هنا جاءه لقب الصامت.

ونزل من فوق الربوة، عاضًّا على أضراسه، زامًّا شفتيه لا يحرّك لسانه بهمس، وتركّز مصير المعركة لديه في قتل الرّجّال، فراح يخترق الخضمّ المقتتل كالسهم، باحثًا عن الرّجّال حتى أبصره. وهناك راح يأتيه من يمين، ومن شمال، وكلما ابتلع طوفان المعركة غريمه وأخفاه، غاص زيد وراءه حتى يدفعه الموج إلى السطح من جديد، فيقترب منه زيد ويبسط إليه سيفه، ولكن الموج البشري المحتدم يبتلع الرّجّال مرّة أخرى، فيتبعه زيد ويغوص وراءه كي لا يفلت، وأخيرًا يمسك بخناقه، ويطوح بسيفه رأسه المملوء غرورًا، وكذبًا، وخسّة…

بسقوط الأكذوبة، أخذ عالمها كله يتساقط، فدبّ الرعب في نفس مسيلمة، وفي روع المحكم بن الطفيل، وهو الرجل الثاني الذي كان يعتمد عليه مسيلمة الكذَّاب، ثم في جيش مسيلمة الذي طار مقتل الرّجّال فيه كالنار في يوم عاصف.. فقد كان مسيلمة يعدهم بالنصر المحتوم، وبأنه هو والرّجّال بن عنفوة، والمحكم بن طفيل سيقومون غداة النصر بنشر دينهم وبناء دولتهم..!! ها هو ذا الرّجّال قد سقط صريعًا.. إذن فنبوّة مسيلمة كلها كاذبة.. وهكذا أحدثت ضربة زيد بن الخطاب كل هذا الدمار في صفوف مسيلمة.

أما المسلمون، فما كاد الخبر يذيع بينهم حتى تشامخت عزماتهم كالجبال، ونهض جريحهم من جديد حاملًا سيفه، وغير عابئ بجراح.. حتى الذين كانوا على شفا الموت، لا يصلهم بالحياة سوى بقية وهنانة من رمق غارب، مسَّ النبأ أسماعهم كالحلم الجميل، فودّوا لو أنّ بهم قوّة يعودون بها إلى الحياة ليقاتلوا، وليشهدوا النصر في روعة ختامه..ولكن أنّى لهم هذا، وقد تفتحت أبواب الجنّة لاستقبالهم… رفع زيد بن الخطاب ذراعيه إلى السماء مبتهلًا لربّه، شاكرًا لأنعمه، ثم عاد إلى سيفه وإلى صمته، فلقد أقسم بالله من لحظات ألا يتكلم حتى يتم النصر أو ينال الشهادة. ولقد أخذت المعركة تمضي لصالح المسلمين، وراح نصرهم المؤزَّر يقترب بسرعة… ولما رأى زيد رياح النصر مقبلة، لم يعرف لحياته ختامًا أروع من هذا الختام، فتمنّى لو يرزقه الله الشهادة في يوم اليمامة هذا… وهبّت رياح الجنة فملأت نفسه شوقًا، ومآقيه دموعًا، وعزمه إصرارًا.. وراح يضرب ضرب الباحث عن مصيره العظيم… وسقط البطل شهيدًا..بل لنقل: صعد شهيدًا.

   عاد جيش المسلمين إلى المدينة ظافرًا. وبينما كان عمر يستقبل مع الخليفة أبي بكر أولئك العائدين الظافرين، راح يرمق بعينين مشتاقتين أخاه العائد. وكان زيد طويل بائن الطول؛ لذلك كان تعرّف العين عليه أمرًا ميسورًا..ولكن قبل أن يجهد بصره، اقترب إليه من المسلمين العائدين من عزّاه في زيد، فقال عمر: «رحم الله زيدًا، سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي، واستشهد قبلي». وكان يقول: «ما هبَّت الصَّبا إلا وأنا أجد ريح زيد». رحم الله زيدًا فقد كان في بغضه النفاق والكذب، كأخيه عمر تمامًا..!.

وهكذا استشهد الصحابي الجليل زيد بن الخطاب رضي الله عنه في موقعة اليمامة التي حدثت بين المسلمين وبين المرتدين  من أتباع مسيلمة الكذاب في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وذلك في شهر ربيع الأول من السنة الثانية عشرة للهجرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *