العدد 105 -

السنة العاشرة – شعبان 1416هـ – كانون الثاني 1996م

في رحاب الوحي: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

في رحاب الوحي

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾

التكليف هو الأمر بما يشق عليه، وتكلفت الأمر تجشمته حكاه الجوهري، والوسع: الطاقة والجدة. وهذا خبر واضح من الله نص على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية أي عمل من أعمالهم أو أمر من أمور عقائدهم إلا وهو في وسع المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته. وفي معنى هذه الآية ما حكاه أبو هريرة رضي الله عنه قال: ما وددت أن أحدا ولدتني أمه إلا جعفر بن أبي طالب، فأني تبعته يوما وأنا جائع، فما بلغ منزله لم يجد فيه سوى نحر سمن قد بقي فيه أثارة, فشقه بيننا فجعلنا نلعق ما فيه من السمن والرُب وهو يقول:

              ما كلف الله نفسا فوق طاقتها

                                               ولا تجود يد إلا بما تجد  

وفي هذا السياق نشير إلى قضيتين:

الأولى: إن الله سبحان وتعالى حين كلف العباد لم يكلفهم إلا بما في دائرة استطاعتهم، فكل أمر اعتقادي طلب منهم الإيمان به كان بمستوى عقولهم أن يصدقوه وكل فعل طلب منهم القيام به أو طلب منهم تركه كان هذا الفعل أو الترك ضمن قدرات البشر، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾.

الثانية: إن الله تبارك وتعالى لا يعذب الإنسان على عدم قيامه بما طلب منه إن كان ذلك بسبب عجز فعلي عنده حال بينه وبين القيام بالعمل.    

وهنا ترد الأسئلة التالية:     

1-  هل أحكام الإسلام موافقة لفطرة الإنسان أم لا؟

2-   هل الالتزام بالأحكام الشرعية هو ضمن طاقة البشر؟

3-   ما هو واقع أفعال الإنسان؟

معروف أن الإنسان يعيش في دائرتين: أولاهما تسيطر على الإنسان، وهذه هي التي يعيش فيها الإنسان مسيَّراً يقوم فيها بالأفعال وتقع عليه الأفعال ولا يملك فيها جلب نفع أو دفع ضر، وبالتالي فلا تكليف في هذه الدائرة، إذ لو كان فيها تكليف لكان تكليفاً بما لا يطاق وعليه فلا يقال على القتل الخطأ بأنه حرام ولا يقال عمن سقط عن حائط فقتل آخر بأنه فعل فعلاً محرماً، فلا يوصف الفعل الذي يقع جبرا عن الإنسان بأي وصف شرعي يتحدد عليه موقف الإقدام أو الإحجام.

  وأما الدائرة الثانية التي يعيش فيها الإنسان وهي التي يقوم فيها بأفعاله مختاراً، وهذه الدائرة هي دائرة التكليف إذا التكليف فيها هو تكليف بما يطاق، وفيها يوصف الفعل بالحل والحرمة وعليها يكون الحساب ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ  @ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.

أما من زاوية القيام بالأفعال الاختيارية فإن الإنسان بطبيعته البشرية حين يقوم بأفعاله إنما يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية، وهو أي الإنسان إذا استبعد تأثير الأفكار والمفاهيم أيا كانت على سلوكه، فإنه في هذه الحالة يحرص على إشباع حاجاته وغرائزه على نحو ما يرى فيه إشباعا يحقق رغباته بأي أسلوب، فإذا أراد التملك فإنه لا يهمه إن كان ذلك بالتجارة أم بالربا أم بالسرقة، وإذا أراد إشباع غريزة النوع فالزواج والزنا والاغتصاب عنده سيان، وكل الأطعمة تشبع عنده جوعة المعدة سواء كان لحم ضأن أم لحم خنزير.

وإذا نظرنا إلى التشريع فإننا نلاحظ أن الأحكام الشرعية المنزلة هي على ثلاثة أحوال:

1 – أفعال يقوم بها البشر فطريا وطبيعيا وأتى الشرع ومنع القيام بها.

2 –  أفعال يقوم بها البشر، أقر الشرع وجودها ونظمها بأحكام شرعية.

3 – أفعال ليس من طبيعة البشر القيام بها، استحدثها الشرع وطلب القيام بها. 

والالتزامات في الإسلام منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي، فالالتزامات السلبية هي المكروهات والمحرمات وهي الأشياء التي نهى الإسلام عنها، والالتزامات الإيجابية هي الفروض والمندوبات وهي الأشياء التي أمر الإسلام بها، أما الالتزامات السلبية في الإسلام فهي الأفعال التي يقوم بها الإنسان طبيعا، أما الالتزامات الإيجابية فيه إما أفعال يقوم بها البشر طبيعيا وأقر الإسلام وجودها ونظمها بأحكام شرعية كالصدق والزواج، وإما أفعال ليس من طبيعة البشر أن يقوموا بها، بل استحدثها الشرع وطلب القيام بها كالصلاة والصوم والزكاة.

مما سبق نلاحظ أن الشارع منع القيام بأفعال يقوم بها الإنسان فطريا وطبيعيا، وأمر بأمور مستحدثة ليس من طبيعة البشر القيام بها، فهو منع الزنا وشرب الخمر والسرقة وأكل لحم الخنزير في الوقت الذي طلب فيه الصلاة والزكاة والصوم والحج وكلها أمور مستحدثة.

ولا يقال هنا إن مثل هذه الأفعال كان العرب يقومون بها، لا يقال ذلك لأنهم إنما كانوا يقومون بها بناء على ما عندهم من أفكار ومعتقدات ومفاهيم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى وهو المقصود هنا فهذه الأفعال بمفهومها الشرعي لم تكن واردة عند العرب ولا عند غيرهم وهي أمور مستحدثة عليهم، ولهذا فإنه لا يجوز البحث في مسألة أن الأحكام الشرعية موافقة لفطرة الإنسان أو مخالفة لها، إذ البحث فقط هو في الالتزام بهذه الأحكام، وإلا فإن الأحكام الشرعية الجزئية وكذلك الكلية لا ضرورة لأن تكون موافقة لفطرة الإنسان ولا هو مطلوب توفر ذلك منها، بل المطلوب هو أن تكون مأخوذة من العقيدة أي آتية من عند الله، ولا يهم ذلك أن تكون موافقة للفطرة أو مخالفة لها.

فكثير من الأحكام الشرعية تخالف ما تمليه غريزة من الغرائز أو حاجة من الحاجات العضوية ومع ذلك فقد شرعها الإسلام، ولذلك كانت التكاليف ثقيلة لأنها قد تخالف فطرة الإنسان، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ فالذي يجب أن يوافق الفطرة هو العقيدة فقط، والعقائد التي جاءت بها جميع الشرائع التي جاء بها الأنبياء قبلنا هي عقيدة التوحيد أي عقائد توافق فطرة الإنسان، وبالتالي تحقق السعادة، فالإسلام وجميع شرائع من قبلنا مما نزل على الأنبياء المراد من موافقتها للفطرة عقيدتها فقط، وعقيدتها كلها هي التوحيد ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ والمراد به عقيدة التوحيد، وعليه فإنه من الخطأ الفادح أن نبحث في الحكم الشرعي موافق هو للفطرة أو مخالف لها لأننا سنوقع أنفسنا في معرض الدفاع العقلي المنطقي عن الحكم الشرعي الذي أخذناه من الدليل النقلي وسلمنا به، وإلا فماذا سنقول عن الحكم المنسوخ إذا كان الناسخ موافقاً لفطرة الإنسان.

وعليه نقول إن الالتزام بالأحكام الشرعية ليس بالأمر السهل الميسور، بل فيه مشقة وعناء إذ الالتزام يعني القيام بما ليس من الطبيعي القيام به، وعدم القيام بما من الطبيعي القيام به، ومن هنا تأتي المشقة والعناء، وعدم الالتزام بأحكام الشرع هو السهل الميسور، قال صلى الله عليه وسلم: «حُفَت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» إلا أن هذا الالتزام مع ما يلحقه بالإنسان من المشقة إنما هو في مقدور الإنسان وضمن طاقاته وإمكاناته حتى لو تفاوت البشر في القوى والخاصيات.

بقيت مسألة واحدة وهي: ما هي الحدود التي يعذر فيها الإنسان إذا خالف الحكم الشرعي؟.

والجواب على ذلك أننا إذا استثنينا الإكراه الذي رفع بسببه إثم المخالفة الشرعية فإننا نقول إن الإنسان مهما أوتي من القوى والخاصيات والإمكانيات فإنه يستطيع قطعاً أن لا يفعل الحرام، أي يستطيع ترك الأفعال المطلوب تركها شرعاً، وعليه فلا يعذر الإنسان إذا فعل حراما، أما في دائرة الإيجاب، أي الأفعال المطلوب القيام بها فإن تفاوت البشر في القوى والخاصيات يجعل من الطبيعي أن يعجز البعض عن تنفيذ بعض الأوامر الشرعية وهنا يحصل العذر مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَمْرٍ فَاجْتَنِبُوهُ» فإذا وجد عذر لإنسان في عدم استطاعته العمل لإقامة حكم الإسلام فإنه لا عذر له في أن يشارك في حكم الطاغوت وينافق له، ولذلك فقد رأى الأصوليون هذه المسألة حين عرفوا الواجب والحرام، فاعتبروا أن تارك الواجب مذموم شرعاً في حالة تركه الواجب عن قصد مطلق حين قالوا بأن الواجب هو ما يذم شرعا تاركه قصداً مطلقاً في حين عرّفوا الحرام بأنه ما يذم شرعاً فاعله ولم يراعوا أفعل الفعل عن قصد أم عن غير قصد.

بقلم: أسامة الكردي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *