العدد الثاني -

السنة الأولى، العدد الثاني، ذو القعدة 1307 هـ، الموافق تموز 1987م

المسلمون من حقائق الجغرافيا… إلى قيادة التاريخ

ردود ومناقشات

أوردت مجلة (العربي) الكويتية في عددها الصادر في فبراير 1987 موضوعاً للكاتب فهمي هويدي تحت عنوان (العالم الإسلامي من قيادة التاريخ إلى حقائق الجغرافيا). وفي هذا المقال، يحاول الكاتب إيجاد هيئة مسؤولة تحل مشاكل العالم الإسلامي. وربما كان الكاتب حريصاً على حل مشاكل المسلمين، لكنه انتهى إلى الكثير من الأفكار الخاطئة، والتي يبطلها الإسلام من أساسها.

يبدأ الكاتب مقاله بأن ينفي عن نفسه صفة الدعوة إلى إقامة نظام الخلافة، مبرراً موقفه بأنه “من الأخطاء الشائعة بين المسلمين أن لفظ الخلافة أو الإمامة، الذي أصبح عَلَماً على نظام الحكم في الدولة الإسلامية، لا يعني مدلوله السياسي أو الدستوري أكثر من تنظيم رئاسة الدولة الإسلامية”.

ويورد الكاتب أن ثمة رأياً فقهياً يرى بأن “دار الإسلام تستوعب كل مكان يستشعر فيه المسلمون الأمن والأمان وإن لم تطبق فيه شريعة الإسلام”، وأنه يرى وَجَاهَة فيه.

ويحاول الكاتب أن يبدو واقعياً في استبعاده لفكرة الخلافة، لأن انقسام العالم الإسلامي إلى كيانات عديدة، كما يقول، “حقيقة جغرافية لا تنكر، كما أنه لا يُنكر وجود رابطة الدين بين هذه الكيانات”. أما الخلافة، فيرى فيها البعض ملاذاً وحلماً.

وينتقل الكاتب إلى سرد تاريخ الأمة الإسلامية وأسباب انقسامها حتى وصلت إلى حالتها الحاضرة. كما يورد قائمة بالهموم الإسلامية المعاصرة.

دار الإسلام ودار الكفر:

ويبدو أن الكاتب ليس لديه دقة أو حرص على أن تكون تعبيراته شرعية، أو أنه يعني فعلاً ما يقول، وهنا تكون الكارثة. فهو يريد أن يصنف الدول التي يحتل المسلمون فيها أغلبية السكان بأنها دول إسلامية، معتمداً في تصنيفه على الأخذ بالأغلبية، وعلى ذلك الرأي الفقهي الذي أورده، والذي لم يستطع أن يسنده لأي فقيه من فقهاء الإسلام في العصور الصالحة. والواقع أن عامل الأغلبية لا يلعب أي دور في كون الدار دار إسلام أو دار كفر، ولم يختلف الفقهاء في ذلك. فالأغلبية في عدد السكان أساساً لم تكن موضع بحث عند أي من الفقهاء. فقد عرّفوا دار الإسلام بأنها الدار التي تحكم بالإسلام أي بالشريعة الإسلامية، والتي أمانها من أمان المسلمين، حتى ولو كان جل أهلها من غير المسلمين. كما عرّفوا دار الكفر بأنها الدار التي تُحكم بغير ما أنزل الله، أو التي أمانها بأمان الكفّار، حتى ولو كان جل أهلها من المسلمين. ولو أن ما قاله الكاتب صحيحاً في تعريفه دار الإسلام بأنها الدار التي يستشعر فيها المسلمون بالأمن والأمان وإن لم تطبق فيها الشريعة الإسلامية، على أساس أنه إذا أقيمت الشعائر الإسلامية أو غالبيتها كانت البلاد دار إسلام، لو صح هذا لكانت فرنسا أو إنكلترا أو ألمانيا دور إسلام، لأن المسلمين يستشعرون فيها بالأمن والأمان أكثر من غالبية دول العالم الإسلامي.

واقع الدار:

والحاصل أن كون الدار دار إسلام أو دار كفر يتعلق بواقع الدار. والدار في اللغة تطلق على القبيلة، ودار الحرب أرض العدو. فنقول دار حرب ودار إسلام، ونقول دار كفر ودار إسلام وكلاهما بمعنى واحد. وذلك أن المسلمين مأمورون بالحرب أي القتال حتى يقول الناس لا إله إلا الله، أو حتى يخضعوا لأحكام الإسلام، فإن خضعوا لأحكام الإسلام رفع عنهم القتال ولو ظلوا كفاراً، وإذا لم يخضعوا فإنهم يحارَبون حتى يدخلوا تحت حكم الإسلام. فسبب حربهم أي قتالهم هو كونهم كفاراً لم يستجيبوا للدعوة، وسبب وقف القتال قبولهم الحكم بالإسلام. فإذا حُكموا بالإسلام وظلوا كفاراً، فقد وجد سبب وقف القتال ووجب إنهاء الحرب. وهذا يدل على أن احتكامهم للإسلام هو الذي حوّل بلادهم من دار حرب إلى دار إسلام، فيكون الحكم بالإسلام هو الذي يتوقف عليه دوام الحرب أو وقفها، مما يدل على أن الذي يعيّن كون الدار دار إسلام أو دار كفر هو الحكم بالإسلام.

ومعنى كونه حكماً أي سلطاناً، أن يكون الأمان الخارجي والداخلي به أي بسلطان الإسلام، وإلا فقد ميزته بوصفه حكماً. وعليه فالحكم بالإسلام والأمان الذي هو لازم من لوازمه، هما اللذان يعيّنان وصف الدار بأنها دار كفر أو دار إسلام.

مقاتلة الحكام:

والدليل على ذلك أيضاً أن الخليفة، وهو رئيس الدولة، إذا لم يحكم بالإسلام وحكم بغير ما أنزل الله، كان فرضاً على المسلمين أن يحاربوه حتى يحكم بالإسلام. أي أن المسلمين مأمورون بالحرب ما دامت دارهم لا تطبق فيها أحكام الإسلام. فعن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض: قلنا: أصلحك الله، حدِّث بحديث ينفعك الله به سمعتَه من النبي صلى الله عليه وسلم . قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايَعَنا على السمع والطاعة في منشَطنِا ومَكْرِهِنا وعُسْرنا ويُسْرنا وأُثْرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». فإذا حكم الحاكم في دار الإسلام – أي الخليفة -، بالكفر أي بغير ما أنزل الله، وجبت مقاتلته. فكيف إذا كان الحاكم الذي يحكم المسلمين كافراً، وكان المسلمون يُحكمون بالكفر، هل يجوز القعود عن مقاتلة الحاكم ومنابذته، ورب العزة يقول: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ). ويقول أيضاً: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). وإن كان الأمر كذلك، وكان القتال واجباً على المسلمين للدولة التي تحكم بغير ما أنزل الله، فهل يصح أن نسمي هذه الدولة بأنها دار إسلام؟ وهل تجوز أصلاً مقاتلة دار الإسلام؟.

ونستطرد فنقول إن تلك الأحكام تنطبق على الحاكم في دار الإسلام يحكم بغير ما أنزل الله. أما في حالنا اليوم حيث لا يوجد دولة تطبق الإسلام أو أمانها بأمان المسلمين، فإن الواجب إزاءها هو اتباع طريق الرسول  صلى الله عليه وسلم في تغييرها من دار كفر إلى دار إسلام كما فعل في مجتمعي مكة والمدينة. وهذا الطريق هو طريق الصراع الفكري والكفاح السياسي.

لذلك فإننا ندعو الكاتب إلى توخي الحرص فيما يورده من آراء فقهية والحذر في ذلك. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من أفتى بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار». أما إذا كان يرى ما يقوله فإننا نطالبه بالدليل الشرعي على مقولته.

نظام الحكم في الإسلام:

ويبرز الكاتب متجنياً على الإسلام، إذ يستبعد منه نظام الخلافة بمدلوليه السياسي والدستوري. فكلامه هذا لا ينم عن علم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالواقع الذي كانت عليه الدولة الإسلامية منذ أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم دستور هذه الدولة، فحدد علاقة المسلمين فيما بينهم داخل الدولة، وعلاقتهم بأصحاب الأديان الأخرى والذين كانوا في المدينة أيضاً، وعلاقتهم بغيرهم من القبائل، وقد جاء ذلك في الوثيقة الثابتة التي أملاها على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأيام الأولى لدخوله المدينة المنوّرة. ويمكن مراجعة السيرة النبوية بالنسبة لهذا الموضوع.

فإذا لم يكن الأمر كذلك، وكان الكاتب مدركاً فعلاً لما يقوله، فإن قوله هذا لا يأتي به حريص على الإسلام وأهله. فليس ثمة بديل لنظام الخلافة عند المسلمين في الشرع الإسلامي، فهو النظام الذي حدده الشارع والذي استنبط أحكامه الفقهاء وقالوا بها.

ولكي لا نطيل، نورد الأركان التي يقوم عليها جهاز الحكم في الدولة الإسلامي.

1- رئيس الدولة: وهو الخليفة أو الإمام.

2- الهيئة التنفيذية: وتضم المعاونين للخليفة.

3- الولاة.

4- القضاة.

5- الجهاز الإداري.

6- الجيش.

7- مجلس الشورى.

رئيس الدولة:

وهذا الجهاز أقامه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه. فقد كان يتولى شؤون الحكم وتدبير أمور الناس في شؤون الحياة كافة. قال تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ). وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل التخصيص. لذلك فإن منصب رئيس الدولة أو الإمام لا يختلف عليه اثنان، وهو ثابت في التاريخ الإسلامي.

المعاونون:

أما بالنسبة للمعاونين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من المدينة لغزوة من الغزوات أقام مكانه من يتولى أمور المسلمين نيابة عنه أثناء غيابه. فعندما خرج إلى غزوة الأبواء استعمل على المدينة سعد بن عبادة ليتولى شؤون المسلمين. كما أقام عليه الصلاة والسلام معاونين له في شؤونِ الحكم فخصّ أبا بكر وعمر بالأمور العامة، كما خص أبو بكر من بعده عمر وأبا عبيدة، وكما خص عمر من بعده عثمان وعليّاً. فكان أبو بكر وعمر هيئة تنفيذية مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان عمر وأبو عبيدة مع أبي بكر، وكما كان عثمان وعليّ مع عمر، رضي الله عنهم أجمعين.

الجهاز الإداري:

أما الأمور الإدارية ورعاية مصالح الناس، فقد عيَّن النبي صلى الله عليه وسلم من يقوم بشأنها، وكان هؤلاء يسمون كُتَّاباً. فقد عيّن زيد بن ثابت كاتبَ الوحي يكتب إلى الملوك. وعيّن معيقب بن أبي فاطمة كاتباً للغنائم، والمغيرة بن شعبة كاتباً للمداينات والمعاملات، وهكذا. فقد عيّن لكل مصلحة كاتباً، أي أنه جعل لكل إدارة مديراً.

الولاة:

وأما الولاة فقد عيّن عليه الصلاة والسلام عتّاب بن أسيد والياً على مكّة، وفرض له درهماً كل يوم. وولّى معاذ بن جبل والياً على اليمن، وزياد بن لبيد والياً على حضرموت، والعلاء بن الحضرمي على البحرين.

القضاء:

وأما القضاء، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحكم الناس ويفصل بينهم في الخصومات. كما عيّن عتّاب بن أسيد والياً على مكة وقاضياً فيها، وجعل معاذ بن جبل والياً على اليمن وقاضياً فيها. وقد سار أبو بكر على ذلك، إلى أن جاءت خلافة عمر، فخص الولاة بالولاية والحكم، وجعل القضاة منفردين عن الولاية، فولّى أبا الدرداء قاضياً في مكة، وشُرَيْحاً قاضياً بالبصرة، وأبا موسى الأشعري قاضياً بالكوفة.

الجيش:

وأما الجيش، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل جميع المسلمين جنداً، فكانوا ينفرون خفافاً وثقالاً، ويجاهدون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، فلم يكن هناك جيش مخصص. وظل الحال كذلك في أيام أبي بكر، إلى أن جاء عمر، فخصص من المسلمين جنداً جعل لهم أرزاقاً في بيت المال، وكان هؤلاء دائماً في عمل الجندية للجهاد، وكان باقي المسلمين كالجيش الاحتياطي يستنفرون كلما دعت الحاجة.

مجلس الشورى:

وأما مجلس الشورى، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستشير صحابته في الأمور العامة. وقد خص أربعة عشر رجلاً بالشورى يرجع إليهم في أخذ الرأي. ولم يختر هؤلاء من أقدر الصحابة وأعلمهم، وإنما اختارهم لأنهم نقباء عن قومهم أي ممثلين لهم. وقد اختار سبعة من المهاجرين وسبعة من الأنصار، وكانوا من النقباء فقط.

هذا هو جهاز الحكم في الإسلام، وهو الدولة، وهو الذي أوجده الرسول صلى الله عليه وسلم. فهو جهاز قائم متميز في شكله وفي أسسه التي يقوم عليها. فكيف يقال بعد ذلك أنه ليس في الشريعة الإسلامية نظام حكم معين، “لا في اسمه ولا في رسمه” كما يقول الكاتب.

إلى قيادة العالم:

وفي الختام، نتوجه إلى الكاتب، وإلى القراء معاً فنقول، إن فكرة الخلافة ليست ملاذاً أو حلماً، لأنها قد امتلأت بها جوانب التاريخ في مدى ثلاثة عشر قرناً من الزمان، فهي حقيقة. لكن الناس اليوم قد ابتعدوا عن الحياة الإسلامية، فصارت الخلافة بالنسبة إليهم حلم يصعب بل يستحيل تحقيقه. أما واقع الخلافة فهي حكم شرعي فرضه الله على المسلمين ليطبقوا الإسلام بموجبه، ولا يصح مطلقاً القول إن الإسلام لم يحددها. وإذا كان المسلمون في الماضي قد توصلوا إلى قيادة التاريخ، فإنما كان ذلك بتطبيقهم الإسلام وحملهم لواءه. وإذا وصلوا إلى ما وصلوا من التفرّق و(حقائق الجغرافيا)، فإنهم لم يصلوا إلى ذلك إلا بعد تركهم تطبيق الإسلام. وإذا ما طبق المسلمون الإسلام وحملوا رسالته، فإنهم سيصلون من جديد إلى قيادة العالم والتاريخ.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *