العدد 26 -

السنة الثالثة – العدد 26 – ذو القعدة 1409هـ، الموافق حزيران 1989م

اللّه واجب الوجود

إن وجود مالا بداية له أمر محتّم بالعقل وهذه الحتميّة آتية من وجود ما هو مشاهد  بالحسّ في هذا الكون. فلو افترض أنّه لا يوجد شيء – مطلقا – لا بداية له، فانّ هذا يعني أن كلّ  ما هو موجود – مطلقا – له بداية. والنتيجة الحتميّة لهذا القول انّه قد مرّ وقت لم يكن  هناك  أيّ شيء مطلقا. وبما أنّ كل عاقل يقطع بوجود نفسه وبوجود من حوله وما حوله من أشياء، وعلى فرض انّه لا يوجد شيء – مطلقا – لا بداية له، فكيف وجدت هذه الأشياء وكيف وجد ذا الكون بما فيه؟        

ليس هناك أي احتمال لأي إجابة على هذا السؤال سوى أن هذه الأشياء الموجودة – والإنسان ضمنها-

قد أوجدت نفسها بنفسها. وهذا المحال لا يقبله العقل لانّ حدوث الإيجاد دليل على وجود الموجد. والقول بانّ الأشياء قد أوجدت نفسها بنفسها مؤداه أنّ الأشياء كانت موجودة قبل حدوث وجودها. ومقتضى القول أن الأشياء كانت موجودة وغير موجودة في آن واحد. وهذا يرفضه العقل قطعا.

وهكذا فان افتراض عدم وجود شيء لا بداية له مؤدّاه أنّ الأشياء الموجودة قد أوجدت نفسها بنفسها وهو محال أو أن هذه الأشياء غير موجودة وهذا خطأ قطعا، لان كل عاقل يقطع بوجوده وبوجود الكون.

وعليه فان وجود ما لا بداية له أمر حتمي، والإنسان العاقل مرغم على الجزم بوجود ما لا بداية له، ومن هنا يأتي القول بوجوب وجود شيء لا بداية له. أو أنّ ما لا بداية له واجب الوجود.

وواجب الوجود لا يخضع لأي تغيير، ولا يحصل له أي حادث، بمعنى انّه لا ينمو ولا يصغر أو لا ينشطر أو لا يفقد جزءا من ذاته أو لا يموت الخ. فهذه الحوادث التي تحدث والمتصوّر حدوثها لأجزاء الكون غير متصور حدوثها لواجب الوجود، إذ لو حصلت لكان واجب الوجود محتاجا ولفقد صفة أنّه لا بداية له. إذ أن واجب الوجود لابدّ أن يكون مستغنيا ولو كان محتاجا لكان مستندا في وجوده إلى الشيء الذي حصلت الحاجة إليه، وهذا يقضي بانّ الشيء الذي حصلت الحاجة إليه موجود  قبل واجب الوجود. ومؤدى الكلام أنّ واجب الوجود له بداية إذ لو لم يكن له بداية لما تصور العقل وجود شيء قبله. وبما أن واجب الوجود هو الشيء الذّي لا بداية له وجب أن يكون واجب الوجود مستغنيا أو غير محتاج أي أزليا.

أما لماذا لا يلحق التغيير واجب الوجود؟ فلو افترض أن واجب الوجود تلحقه التغييرات أو تحصل له حوادث، فإننا نتناول أي تغيير اثر عليه أو أيّ حدث حصل له، ونسأل عن أسبابه ولماذا حصل في الوقت الذي حصل فيه ولم يحصل قبل ذلك؟. ربّ قائل يقول: إن الحدث أو التغير أو الانتقال من حال إلى حال  يحتاج إلى ظروف وهذه الظروف يحتاج توفرها واستيفاؤها إلى مدة زمنية معينة وعندما تكتمل يحصل التغير الذي خضع له المتغيّر. فمثلا: الماء يكون في وضع طبيعي عين، فإذا اخضع لظروف حرارة اكبر من حرارته الطبيعية، أو لضغط أكبر من الضغط الذي كان خاضعا له، فانّ حرارته تبدأ بالارتفاع  وعندما يستوفي شروطا معينة فانه يبدأ بالغليان، وهذا يحتاج إلى مدة زمنية معينة. وهكذا يكون التغير محتاجا إلى ظروف، والظروف يحتاج استيفاؤها إلى مدة زمنية وبعد انقضاء المدة يحصل التغير وهذا ينطبق على كل ما يتبدل من حال إلى حال  أو تحصل له الحوادث.

والجواب على ذلك، أن هذا القول صحيح، ومجرد حصول أي تغيير أو حدث لواجب الوجود يعني انه يحتاج إلى مدّة معيّن لاستيفاء الظروف  المطلوبة لحصول الحدث، وانه قد استوفاها عند لحظة حصول الحدث، وهذا من مقتضاه أن له بداية وأن عمره محدود، إذ لو لم يكن له بداية لكان قد استوفى المدة الزمنية المطلوبة قبل ذلك بكثير. ولو حصل له الحدث قبل تلك اللحظة بمدّة معيّنة مهما طالت أو قصرت، فان ذلك أيضا يقتضي أن له بداية وان عمره محدود. ونتيجة القول  إن واجب الوجود  لا بداية له، وانّه قد استوفى  أي  مدة زمنية  قد تخطر ببال، وأي  حدث يحصل له يدل على  انه له بداية مما يدل على أن ما لا بداية له لا يخضع للتغيير ولا تحصل له الحوادث.

وربّ  قائل يقول: إن واجب الوجود لا بداية له ولكن  الظروف التي أثرت عليه لها بداية، ولذلك كان تصور الحدث أو التغيير على واجب الوجود آتيا من كون الظروف المطلوبة لحصول الحدث لها بداية.

والجواب على ذلك، أنّ  القول بتأثير الظروف يعني أن هناك أشياء قد أثرت، لانّ الذي يؤثر لابد أن يكون موجودا ومن هنا نقول أنه شيء ما، والقول بأن هذه الظروف لها بداية يعني أن هذه الأشياء لها بداية وإذا كانت  هذه الأشياء لها بداية يأتي  السؤال كيف بدأت وكيف وجدت؟

والجواب إما أنها قد أوجدت نفسها بنفسها أو أنها قد وجدت بتأثير واجب الوجود، إما الجواب بأنّها قد وجدت نفسها بنفسها فهو باطل كما بينا في مكان سابق من هذا البحث. أما القول الثاني بأنها قد وجدت بتأثير واجب الوجود ثم أثّرت على واجب الوجود بأن جعلته خاضعا للتغيير والحوادث، فالجواب  عليه أن واجب الوجود كونه خاضع  ومتأثر بالأشياء التي أوجدها، يعني انه قد أوجدها خضوعا لظروف  تم استيفاؤها عند لحظة معيّنة، وهذا يعني أنه قد استوفى المدة الزمنية المطلوبة للتأثير بإيجاد تلك الأشياء عند تلك اللحظة وليس قبلها وهذا يعني أن واجب الوجود له بداية، وهو خطأ ( وقد سبق بيان هذا الأمر).

وهكذا نخلص إلى النتيجة بأن واجب الوجود لا يتغير ولا تحصل له الحوادث. وإذا حصل الظن بأي  شيء بأنه واجب الوجود، ثم علم أنه خاضع للتغير أو الحوادث أو متأثر بغيره، وجب اعتباره ليس واجب الوجود  وأن له بداية لم يكن موجودا قبلها.

بعد ثبوت وجود مالا بداية له وانه لا يلحقه التغيير، يأتي السؤال، ما هو هذا الشيء هل هو الكون  وما فيه من أشياء؟ أي هل هو المادة أو أنه شيء غير الكون وغير المادة؟.

إن نظرة بسيطة تؤدي بصاحبها إلى القطع بانّ هذا الكون بكل ما فيه وأي جزء منه خاضع للتغيير والحوادث  وللانتقال من حال إلى حال: فالإنسان يولد وينمو ويموت، وتتجدد فيه خلايا وتموت  أخرى وبعد موته ينتقل جسده من حال إلى حال، وكل حي فهو ينمو والحياة فيه تبدأ عند لحظة معينة فهي حادثة طارئة، ثم تنتهي وانتهاؤها حدث. وكل ما في الكون في كواكب من كواكب وأجرام هي خاضعة للحركة، فهي تنتقل من مكان إلى مكان ومن وضع إلى وضع، ويلحق التغير أشكالها وأحجامها ودرجة حرارتها.. الخ.

على أنه لا يلزم لمعرفة حدوث الكون أن ننظر في كل أجزائه فان حركة واحدة أو تغيرا بسيطا مهما دق يخضع له أيّ جزء من أجزاء هذا الكون ليدل دلالة قاطعة على حدوث الكون كله. فولادة طفل، أو سقوط ورقة عن شجرة أو جريان قطرة ماء من عين أو سقوط حبة مطر، أو تحرك موجة في بحر.. الخ، كل واحدة من هذه لتدل دلالة قطعية على أن الكون له بداية، لانّ التغير والحدث لا يحصل لم ليس له بداية أو لواجب الوجود.

وعلى هذا فالمادة أو الكون له بداية قطعا، وهو ليس أزليا، وليس واجب وجود، وواجب الوجود شيء غيره. وواجب الوجود هو الذي اوجد الأشياء التي لها بداية وهي هذا الكون بكل ما فيه ولولا أنّه أوجدها لما وجدت. وإذا كانت الأشياء لها بداية، فهذا يعني أن واجب الوجود قد أوجدها في وقت معين وليس قبل ذلك الوقت. ولا يقال هنا: انه قد لحقه تغيّر لأنه أوجدها في ذلك الوقت وليس قبله وهذا حدث. لا يقال هذا لأنه واجب الوجود ولا يمكن أن يكون له بداية. وإنما يقال: بما انّه واجب الوجود وأنّه قد أوجد الأشياء عند لحظة معيّنة فهذا يدل على أنه يملك القدرة على الإيجاد من عدم، وأنّه يملك القدرة على هذا الإيجاد في الوقت الذي يشاء أو يريد، وأنّه قد أوجد الأشياء بمشيئته وليس خضوعا لأشياء. واجب الوجود هذا الذي أوجد الأشياء من عدم أي خلقها هو الخالق وهو الله سبحانه وتعالى وعلى هذا نقطع بأنّ الله واجب الوجود. وأنّ واجب الوجود هو الله.

محمود عبد الكريم حسن

                                                               طرابلس

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *