العدد 34 -

العدد 34 – السنة الثالثة – رجب 1410هـ الموافق شباط 1990م

الحكم بما أنزل الله مطلب لا يرضى المسلمون به بديلاً

الأمة الإسلامية أمة عريقة أعزها الله بالإسلام، وأنار لها سبيل الرشاد وهيأ لها أسباب النجاح حتى علا شأنها، وارتفعت مكانتها، فسادت الأرض، وقادت البشرية بجدارة لا نظير لها. ولربما اضطرب سيرها أحياناً، وتعثرت في خطواتها ولكنها ظلت على مدى تاريخها الطويل تعتز بنظامها، وتستنير بهديه وهو بالنسبة لها دم يجري في شرايينها، وهواء نقي يتردد في أنفاسها، والآن وبعد أن انفرط عقد نظامها، ونحيت عن مكانة القيادة للعالم، بدأ العدو عن دراسة وخبرة يوحي لها بالبديل، ويطرح حديثه في كل مناسبة، بل أن هذا البديل قد فرض عليها بالفعل، ولكنها لم تقبل في يوم من الأيام بنظامها بديلاً ولم تستكن للقيود إلى كبلتها.

فلماذا لا يرضى المسلمون بهذا المطلب بديلاً؟ ولماذا يصرون هذا الإصرار على إعادة مكانتهم، واستئناف الحياة الإسلامية؟

الحكم بما أنزل الله من لوازم الإيمان، والأمة هي مجموعة من الناس ربطت بين أفرادها عقيدة ينبثق عنها نظامها، فأي بعدٍ عن حكم الشرع هو في الحقيقة بعد عن دائرة الإيمان، وقد بين الله ذلك في كتابه فقال: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا[.

وقال تعالى: ]فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[.

وفي القرآن الكريم مئات الآيات تتحدث عن ربط الأحكام الشرعية بالإيمان، فتتحدث عن حكم شرعي ثم تختم بأن الله عزيز حكيم أو سميع بصير، أو تذكر المؤمنين بالتقوى.

وقد وعى المسلمون هذه الحقيقة والتزموا بها.

والمسلمون لا يرضون بدينهم بديلاً لأن الدين عند الله هو الإسلام ولأنه منهج الله، ومنهج الله ليس كمنهج البشر، فالله الذي خلق الكون على هذا النظام البديع أراد أن يسير الإنسان حياته بنظام بديع أيضاً أوحاه للإنسان عن طريق رسله.

لقد رسم الله لهذه البشرية منهجاً، ورسم البشر لأنفسهم مناهج متعددة، وشتان ما بين المنهجين. فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو عليم بالذي يصلحه والذي يضع نظاماً يجب أن به عليماً، والله هو العليم والخبير خلق الإنسان خلية صغيرة، ثم نطفة، ثم جنيناً، جعله بشراً سوياً فمن ضرورات العقل أن يكون حكم الله هو الحكم الصالح الوحيد لهذا الإنسان.

إن الناس قد اضطربوا قديماً في فهم العقيدة، وتعثروا في سن القوانين، واختلاف فلاسفة الإغريق حول تفسير الكون، واختلاف تشريعات الرومان أكبر دليل على ما نقول، ولا يزال المتشرعون إلى الآن يستبدلون في كل يوم دستوراً جديداً بدستور، وقانوناً حادثاً بقانون، وهم مضطربون في ذلك أشد الاضطراب، متناقضون ومختلفون ومتفاوتون أشد التناقض والاختلاف والتفاوت لأن العقل البشري عرضة للتناقض والاختلاف والتفاوت وصدق الله العظيم إذ يقول: ]أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا[.

والمسلمون لا يرضون بدينهم بديلاً، لأن الإسلام مبدؤهم، وفي المبدأ تتحد شخصية الأمة، وتتضح معالم تلك الشخصية، فحقيقة كيان الأمة بالتمسك بالنظام، والالتزام بما أنزل الله، لأن عقيدة الأمة هي التي حددت السلوك لأفرادها، فكانت جسداً واحداً، وحياته واحدة إذا اضطربت وظائف هذا الجسد، أو بتر عضو من أعضائه اضطرب وتشوه وانهارت شخصية الأمة، وانحطت مكانتها، ومع ذلك فالبديل في حقيقة الأمر غير ممكن إلا إذا تغيرت الأمة، وتبدلت شخصيتها، وذلك بتغير عقليتها ونفسيتها تغييراً أساسياً شاملاً.

والمسلمون لا يرضون بالإسلام بديلاً، لأنهم يرون أن الإسلام هو قضيتهم المصيرية، وهو الذي تتميز به عن بقية الأمم وهو عندهم يجب أن يكون، قضية حياة أو موت.

والمسلمون لا يرضون بدينهم بديلاً لأنه هو الصالح وهو وحده الصحيح، ويتسع لكل جديد.

أما ما يقوله المضللون من أنه عصري، وأنه متطور وأنه مرن، وأنه يتلاءم مع الحضارة الغربية، القصد من هذه الأقوال هو انحراف في المفاهيم حتى يبعد الإسلام عن حقيقته ومنهجه، وحتى يبعد المسلمون عن الفهم الصحيح لحقيقة المبدأ الإسلامي الذي وحده يحقق النهضة الصحيحة.

والمسلمون لا يرضون بدينهم بديلاً لأن العدو الذي تمكن منهم لم يحقق هذا النجاح حتى أبعدهم عن هذا النظام العلوي الخالد.

كان آخر المطاف لما رسمه الغرب لتهديم صرح هذه الأمة، وتمزيق كيانها، إلغاء الخلافة، وبذلك تم للكافر المستعمر ما أراد، وحقق ما سعى إليه قروناً من الزمن. وبعد ذلك أصبح للمسلمين عشرات الكيانات المجزأة هزيلة ضعيفة، مضطربة السير، مظلمة المفاهيم، مختلفة السبل، وقد نتساءل، ويتساءل معنا العالم لماذا ألغيت أحكام الشرع وفرضت أنظمة الكفر على المسلمين؟ قد يقول المضللون أو أنظمة الغرب التي سادت العالم الإسلامي هي أصلح من الإسلام، لذلك إزالته وحلت مكانه.

ولكننا نقول: أن المسلمين لم يقبلوا تلك الأنظمة ولكنها فرضت عليهم فرضاً، ولم يتخلوا عن دينهم ونظامهم ولكنهم ضلوا سبيل الهداية، وقصروا في فهمه، وخدعوا بما وفد إليهم، من بريق حضارة الغرب. ألغيت أحكام الشرع، وفرضت عليهم أنظمة الكفر، لأن المسلمين لم يروا ذلك قضية مصيرية كما كانوا يرون في السابق ولو كان المسلمون واعين هذه الحقيقة لما ألغيت الخلافة حتى لو احتل العدو كل شبر من أرض المسلمين، ويمض أهل التضليل فيقولون: إن في القومية أو الوطنية أو الديمقراطية أو الاشتراكية بديلاً عن الإسلام… إلى غير ذلك من الشعارات المضللة التي تجعل الأمة تسير في متاهات تمزق شملها، وتفرق كلمتها، وتوصلها إلى المهالك التي لا نجاة منها ولا خلاص.

وقد يقول المضللون وما أكثر ما يقولون: إن عودة النظام الإسلامي بخلق معسكراً جديداً، فيسود التوتر العلاقات الدولية، وفي وقت من الأوقات قال زعيم عربي مشهور إننا لا نضع النظام الإسلامي. ولا ندعو إلى دولة إسلامية لأننا إذا فعلنا ذلك يدعو الغرب إلى معسكر مسيحي.

وهذا الكلام ظاهر الزيف، ظاهر التضليل، فالعقيدة النصرانية وهي عقيدة باطلة يرصد لها مئات البلايين حتى تقوم بما يدعونه بالتبشير لا إيماناً وإنما خدمة لأهداف الاستعمار وتحقيقاً لغاياته.

والغرب هو الذي بدأ بتأسيس هذا المعسكر الحاقد من الغزو الصليبي حتى الاستعمار الحديث، وهو الذي انقض على المسلمين في ديارهم في غفلة منهم، وسخر العملاء والأجراء وهدم نظام الأمة ومزق حدودها.

الغرب هو الذي زرع اليهود في قلب بلاد المسلمين وأمدهم بالسلاح ودعمهم، وما ذلك إلا ليحول بين المسلمين وبين عودتهم إلى الإسلام.

والمسلمون اليوم هم أكثر وعياً، وأصلب عزيمة مما كانوا عليه في السابق، وما كان الخداع ليستمر، وما كان التضليل ليطمس معالم الطريق، ولكننا نجزم أشد الجزم بأن العدو سيستمر في طريقه التي رسمها، وسيواجه المسلمين بكل أسلوب حتى يقصيهم عن إسلامهم الذي بدأ بهدمه منذ البلاصين الخلافة.

والمسلمون قد جربوا السير على هذه الأشواك التي أدمت أقدامهم وذاقوا مرارة الذل والمهانة والهزيمة التي حطت من عزتهم، وقضت على آمالهم، حتى أنهم عجزوا عن تطهير أرضهم من رجس اليهود، وهم حفنة من الأقزام، وكيانهم هزيل مصنوع بأيدي الغرب، حتى قوتهم التي يلوحون بها وهم من الأوهام، حتى السلام الذي يطرحونه الآن خداعاً وتضليلاً يخفي وراءه أنياباً مسمومة، ومخالب حاقدة تتربص بالمسلمين لتنقض عليهم في الساعة المناسبة.

إن الله قد أعز هذه الأمة فتربعت على عرش التاريخ، وقادت العالم على طريق النور، وهذا أكبر دليل على أن نجاحها في السير على منهج الله والتمسك بشرع الله، وهو سر نجاحها، واستمرار بقائها، لأن شخصية الأمة في إيمانها الذي اعتقدته، وفي نظامها الذي طبقته، وهي تريد النهضة الصحيحة، ولا تتحقق هذه النهضة إلا بالإسلام ولا نجاح ولا فلاح إلا بالسير على صراطه المستقيم، وهو المطلب الوحيد الذي لا تتخلى عنه مهما اشتدت ضراوة الباطل، ومهما لقيت من الصعاب، حتى تعيد خلافة الإسلام، ونور الله إلى الأرض يبدد ظلماتها، وزيل شقاءها، والحياة جهاد وكفاح حتى يتحقق للأمة النصر، ولجر عنها ذل الهزيمة، وهي بالغة ذلك بعون الله وتأييده والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والباطل مهزوم لا محالة، وكيد الشيطان وأولياؤه ضعيف. ]يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *