العدد 27 -

السنة الثالثة – العدد 27 – ذو الحجة 1409هـ، الموافق تموز 1989م

سؤال وجواب؟؟

السؤال: عند ظهور الكفر البواح تُشْرَعُ منابذة الحاكم بالسلاح. ما المقصود بالكفر البواح؟ وكيف تكون المنابذة، هل لها من شروط أو ضوابط في الشرع؟

الجواب:

نورد أولاً بعضاً من النصوص التي وردت في هذا الموضوع، فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: «سمعت رسول الله r يقول: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قال: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة. أَلاَ من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزِعَنّ يداً من طاعة» رواه أحمد ومسلم.

وعن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، عسرنا ويسرنا وأثَرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: إلاّ أن تَروْا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» متفق عليه.

قال الشوكاني: (قوله بواحاً يعني ظاهراً بادياً… ومن رواه بالراء «براحاً» فهو قريب من هذا المعنى… وعند الطبراني: «كفراً صراحاً»… وفي رواية: «إلا أن تكون معصية الله بواحاً» وفي رواية لأحمد: «ما لم يأمرك بإثم بواحاً»).

وقد وقع خلاف في تفسير كلمة «كُفْر»: هل المقصود بها كفر الحاكم، أي ارتداده عن الإسلام، أو المقصود بها إدخال قوانين الكفر وإفشاء المعاصي وارتكاب المحرمات علناً؟

ولا خلاف عند علماء المسلمين أن ولاية الحكم لا يجوز أن تعقد لكافر، ولا خلاف عندهم أيضاً أن الحاكم إذا ارتد عن الإسلام فإن ولايته تسقط فوراً: فلا تجوز طاعته ولا تنفذ أوامره ويجب عزله حالاً ولو بالسلاح. وهذا المعنى المتفق عليه دلت عليه نصوص كثيرة.

أما «الكفر البواح» الوارد في حديث ابن الصامت فالمقصود به المعاصي كما فسرت ذلك الروايات الأخرى مثل: «إلا أن تكون معصية الله بواحاً» ومثل: «ما لم يأمرك بإثم بواحاً». وقد قال النووي في شرح مسلم ج12/ ص229: (والمراد بالكفر هنا المعاصي، ومعنى عندكم من الله فيه برهان، أي تعلمونه من دين الله تعالى. ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام).

ولا شك أن تعطيل أحكام الإسلام وأنظمته وإدخال القوانين والتشريعات والأنظمة غير الإسلامية هو من الكفر البواح حتى لو ظل الحاكم يصلي ويصوم ويحج ويزعم أنه مسلم. قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[ فإباحة الربا وإباحة الخمور وإباحة كشف العورات وإباحة الارتداد عن الإسلام، وتعطيل الحدود وإدخال الحضارة الغربية وهجر الحضارة الإسلامية، وكل ذلك من الكفر البواح الذي قام عليه البرهان لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة.

أما عبارة «ما أقاموا فيكم الصلاة» فليس المقصود بها إقامة الصلاة وحدها بل المقصود إقامة أحكام الإسلام، فالصلاة هنا كناية عن الإسلام، وذلك من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه. ونظير ذلك ما جاء في الحديث: «الصلاة عماد الدين من أقامها أقام الدين ومن هدمها هدم الدين».

وهذه الأحاديث تدل على أن الحاكم الذي يحول دار الإسلام إلى دار كفر يجب على المسلمين أن يمنعوه ويردوه إلى الحق، فإن عاند وأصرّ وجب عليهم منابذته (أي أن يثوروا عليه) بالسلاح. وهذا هو أيضاً معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كلا والله لتأمُرنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر ولتأخُذنَّ على يد الظالم ولتأطرنهُ على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً».

أمّا كيف تكون المنابذة، فالأمر يحتاج إلى رؤية. أهل العلم كلهم متفقون على أن الحاكم إذا فسق وجب إرجاعه إلى الحق أو عزله (إمّا التغيير عليه وإما تغييره). هذا من الناحية النظرية. ولكن من الناحية الواقعية إذا فسق الحاكم وهو على رأس السلطة فليس من السهل إرجاعه إلى الحق وليس من السهل عزله، ومحاولة ذلك قد تنتج عنها سفك الدماء ونشوب الفتن. وحقاً للدماء ومنعاً للفتن رأى كثير من الفقهاء عدم التعرض للحاكم الفاسق وذلك على قاعدة أهون الشرين.

في نظام الحكم الإسلامي هناك جهاز هو (محكمة المظالم). وجود هذا الجهاز هو صمام أمان في هذا الموضوع. وإيجاد هذا الجهاز أمرت به الآية الكريمة: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[. فعند حصول أي نزاع يجب رده إلى كتبا الله وسنة رسوله. والنزاع بين الحاكم وقسم من الناس يجب رده إلى كتاب الله وسنة رسوله، أي بجب أن تكون هناك محكمة ذات صلاحية، القضاة فيها من أبرز الناس في الفقه والاجتهاد والتقوى. وهذه المحكمة كلمتها نافذة على الخليفة ومعاونيه ولاته وعلى سائر الناس.

رُبَّ قائل يقول: مثل هذه المحكمة تكون لعبة بيد الحاكم. ونقول: إذا كانت الأمة لا تهتم بدينها، ولا تكترث بمن يحكمها ولا بما يحكمها، إذا كانت لا تعتبر أنها صاحبة السلطان وأنها مسؤولة في الدنيا والآخرة، عند ئدٍ تكون المحكمة لعبة وتكون الأمة كلها لعبة.

ولماذا يكون للشعب الأميركي هيبة على الحاكم وتستطيع المحكمة عزل نيكسون وهز العصا لريغان، ولا يكون للأمة الإسلامية هيبة على الخليفة، ولماذا تحافظ الشعوب الغربية على أنظمة وضعية ولا تحافظ الأمة الإسلامية على نظام إلهي؟ ليس من الصعب أن تصبح الأمة الإسلامية ذات هيبة ومحكمتها ذات فاعلية وشريعتها أغلى عليها من الحياة.

قبل البحث في كيفية المنابذة وضوابطها يجب التفريق بين حالة الحاكم الذي يحكم في دار الكفر تغلب عليها قوانين الكفر وأفكار الكفر وأخلاق الكفر ومقاييس الكفر وأذواق الكفر، وحالة الحاكم الذي يحكم دار إسلام ويريد تحويلها إلى دار كفر.

في الحالة الأولى الوضع ليس وضع منابذة بالسيف بل هو وضع حمل دعوة فكرية لتهيئة المجتمع من أجل هدم الأفكار والمقاييس والقوانين والأخلاق والأذواق المأخوذة من الكفر ووضع الإسلام مكانها وبعد تهيئة المجتمع بالدعوة الفكرية تطلب النصرة من أهل القوة لأخذ السلطة. وهذا الوضع هو حال غالبية البلاد الإسلامية هذه الأيام.

أما الحالة الثانية، وهي كانت تنطبق على مصطفى كمال أتاتورك حين هدم الخلافة وحول البلاد إلى جمهورية علمانية. فقد كان الواجب عندها الثورة عليه بالسلاح. والثورة بالسلاح تكون أيضاً بطلب النصرة من أهل القوة.

فالمجتمع إما أن يكون مستعداً لتطبيق الإسلام دون حاجة إلى دعوة فكرية وفي هذه الحال يُبدأ بطلب النصرة من أهل القوة فوراً (هذا عندما تكون الدار دار إسلام ويبدأ الحاكم إظهار أحكام الكفر لتحويلها إلى دار كفر) وذلك من أجل إسقاط هذا الحاكم وأخذ السلطة منه للمحافظة على دار الإسلام.

وإما أن يكون المجتمع غير مستعد لتطبيق الإسلام بأن كانت أفكار الكفر وأنظمة الكفر ومشاعر الكفر متغلغلة فيه، فهذا تُحمل الدعوة الإسلامية فيه، أولاً بالطريقة الفكرية حتى إذا أصبح ناضجاً ومستعداً لاحتضان الإسلام وتطبيقه يُبدأ بطلب النصرة من أهل القوة لأخذ السلطة من الحاكم الذي يحكم بالكفر ووضعها بيد الحاكم الذي يحكم بما أنزل الله.

ونخلص إلى نتيجة هي أن «المنابذة بالسيف» كما وردت في حديث عوف بن مالك، و«منازعة الأمر أهله» كما وردت في حديث عبادة بن الصامت هي شئ واحد وهو نفسه «طلب النصرة» من أهل القوة من أجل أخذ سلطة الحكم.

ولنأخذ مثلاً ما فعله الإمام الحسين السبط رضي الله عنه حين خرج على يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. ففي سنة 60هـ توفي معاوية وبويع لابنه يزيد بالخلافة؟ فكتب إلى أمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان: (أما بعدُ فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذ شديداً ليس ففيه رخصة حتى يبايعوا) ولم يكن ابن عمر بالمدينة بل كان في مكة. وأما ابن الزبير والحسين فأظهرا الموافقة على البيعة واستمهلا حتى يبايعا في المسجد مع الناس وقد خرجا في الليل من المدينة إلى مكة، فلقيهما ابن عباس وابن عمر جائيين من مكة فسألاهما ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد. فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين. وذهب ابن عمر وابن عباس إلى المدينة وبايعا ليزيد. ودخل الحسين وابن الزبير مكة عائذين بالبيت فلم يتعرض لهما أمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص. وحصلت مكاتبات بين الحسين وشيعته في الكوفة واستعدوا لنصرته فقرر المسير إليهم. فأتاه عبد الله بن عباس فقال يا ابن عَمّ إنك قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق فبيّنْ لي ما أَنت صانع، قال إني قد أجمعت المسير إن شاء الله تعالى. فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك. أخبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم، فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم. وإن كانوا إنما دَعَوْكَ إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك ويخالفوك ويخذلوك. فاقل له حسين: وإني استخير الله وانظر ما يكون. [ملخص من تاريخ الطبري].

وقد كان الحسين وابن الزبير يريان أن يزيد فاسق ولا تجوز بيعته ولا بقاؤه في الخلافة. وأما ابن عمر وابن عباس فأخذا بقاعدة أهون الشرين.

الحسين وابن الزبير تهربا من البيعة وصارا يبحثان عن النصرة. وكان هذا البحث سرياً. الحسين وجد أنصاراً في الكوفة. جاء ابن عباس يعطيه نصيحته. ومن نصيحة ابن عباس هذه نفهم أن منابذة الحاكم بالسيف ليست ثورة فوضوية، وليست عملاً فردياً، وليست عملاً لمجرد إزعاج الحاكم وإيجاد المشاكل له.

إنها منازعة الحاكم في الولاية «ننازع الأمر أهله» لأخذ السلطة منه. إنها منابذة الحاكم بالسيف ليس من أجل قتله والإتيان بحاكم من جنسه، بل يقاتل من أجل «إقامة الصلاة» أي إقامة أحكام الدين.

ولذلك فإن الإمام الحسين رضي الله عنه أراد أن يتأكد من ولائهم وقدرتهم. وكتب إليهم؛ (فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالةُ جُلِّكم أنه ليس علينا إمامٌ فأقبلْ لعلَّ الله أن يجمعنا بل على الهدى والحق. وقد بعثت إليكم أخي وابن عمر وثقتي من أهلي بيتي «يقصد مسلم بن عقيل» وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليّ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمَتْ عليَّ به رسلكم وقرأتُ في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله).

وقد أرسل إليه مسلم بن عقيل أنه أخذ له البيعة من عشرين ألفاً أو يزيدون وحثه على القدوم إلى الكوفة.

إذاً المنابذة هي طلب النصرة. وحين طلب رسول الله r النصرة من وفد المدينة وبايعوه بيعة العقبة، فقد بايعوه على تسليمه السلطة وكانوا مستعدين للقتال دونه ليمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم.

فإذا وُجد الناصر فقد وجب الخروج على الحاكم الذي يظهر الكفر البواح. وهذا ما تفيده كلمة الإمام علي رضي الله عنه: (أما والذي فلق الحبة وبرأ النَسَمَةَ لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر… لألقيتُ حبلها على غارِبها).

الحسين اعتبر أن النصرة التي تنتظره كافية فخرج. ابن عباس اعتبر أن هذه النصرة غير كافية لأنه لم يكن مطمئناً إلى وفائهم ببيعتهم، وكان رأي ابن عباس في محله.

ويشترط فيمن يخرجون على الحاكم أن يكون لهم أمير مطاع، لأنه لا يتم هذا الواجب إلا به. ولما اجتمع عدد من رؤوس الشيعة وكان بينهم سليمان بن صُرَد الخزاعي وكانت له صحبة مع النبي r وأرادوا الثأر للحسين وأخذ السلطة من بني أمية، خطب فيهم سليمان هذا وكان مما قال: (أيها القوم وَلّوا عليكم رجلاً منكم فإنه لا بدم لكم من أمير تفزعون إليه وراية تحفون بها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *