العدد 22 -

السنة الثانية – العدد العاشر – رجب 1409هـ، الموافق شباط 1989م

مع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (سورة: النساء).

يقول القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر. (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ) أي غلبة على اليهود وغنيمة (قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي أعطونا من الغنيمة. (وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ) أي ظفر. (قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم… (وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم…

أما بالنسبة لقوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فيقول القرطبي: فيه ثلاث مسائل: الأولى ـ قوله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) للعلماء فيه تأويلات خمس:

أحدها – ما وري عن يُسَيْع الحضرميّ قال: كنت عند علي )بن أبي طالب رضي الله عنه( فقال له رجل يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله. (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً! فقال علي رضي الله عنه: معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم. وكذا قال ابن عباس: ذاك يوم القيامة. قال ابن عطية: وبهذا قال جميع أهل التأويل. قال ابن العربيّ: وهذا ضعيف: لقدم فائدة الخير فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه؛ لقوله تعالى: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فأخّر الحكم إلى يوم القيامة، وجعل الأمر في الدنيا دُولاً تغلب الكفار تارة وتُغلب أخرى، بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة. ثم قال: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكراراً.

الثاني ـ إن الله لا يجعل لهم سبيلاً يمحوا به دولة المؤمنين، ويذِهب آثارهم ويستبيح بيضتهم؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي قال: «وإني سألت ربي ألا يلكها بسَنَة عامة وألاّ يُسلِّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُزَد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً».

الثالث ـ إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً )منه( إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم؛ كما قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ). قال ابن العربي: وهذا نفيس جداً

قلت، والقول للقرطبي: ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثَوْبَان: «حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً» وذلك أن «حتى» غاية؛ فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه.

الرابع ـ إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً شرعاً؛ فإن وجد فبخلاف الشرع.

الخامس ـ (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) أي حجة عقلية أو شرعية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضها.

هذا بالنسبة للمسألة الأولى في هذه الآية والتي سنقتصر عليها في هذا البحث لأهميتها ولن نتعداها لبحث المسألة الثانية والثالثة (راجع تفسير القرطبي).

وفي تفسير آية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) يقول الطبرسي أن المراد لن يجعل الله لليهود على المؤمنين نصيراً ولا ظهوراً… عن ابن عباس، وقيل لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً بالحجة وإن جاز أن يغلبوهم بالقوة لكن المؤمنين منصورون بالدلالة والحجة.

ويقول الشوكاني في تفسيره «فتح القدير» هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة.

ونقول إنه يمكننا أن نستخلص حكماً شرعياً من هذه الآية مفاده أنه لا يصح شرعاً أن يتولى الحكم على المسلمين إلا مسلم، إذ أن الله تعالى نهى نهياً جازماً عن أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين فقال جل من قائل: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وجعل الكافر حاكماً على المسلم هو جعل سبيل له عليه، وقد نفى الله ذلك نفياً قاطعاً باستعماله حرف (لن) وهو قرينة على أن النهي عن أن يكون للكافر سبيل على المسلمين، أي عن أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين هو نهي جازم، فهو يفيد التحريم، وما يدعم ذلك أدلة أخرى نسوقها لتبيان هذا الأمر منها أن الله اشترط في الشاهد على الرجعة أن يكون مسلماً قال تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ). ومفهومة لا من غيركم، واشترط في الشاهد في الدَّيْن أن يكون مسلماً قال تعالى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) أي لا يمن رجال غيركم. فإذا كان مثل هذا الشاهد في هذين الأمرين اشترط الشرع فيه أن يكون مسلماً، فمن باب أولى أنه يشترط في الحاكم أن يكون مسلماً، وأيضاً فإن الحكم هو تنفيذ أحكام الشرع، وتنفيذ أحكام القضاة، وهم مأمورون أن يحكموا بالشرع، وهو يقتضي أن يكون المنفذ  مسلماً، لأنه يؤمن بما ينفذ، والكافر لا يؤتمن على تنفيذ الإسلام، ولذلك اشترط أن يكون مسلماً، وأيضاً فإن الحكام هم أولو الأمر والله تعالى حين أمر بالطاعة لأولي الأمر، وحين أمر برد الأمر من الأمن أو الخوف إلى أولي الأمر، وحين أمر برد الأمر من الأمن أو الخوف إلى أولي الأمر، اشترط أن يكون ولي الأمر مسلماً. فقال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) وقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي لأَمْرِ مِنْهُمْ). فقال «منكم» أي لا من غيركم وقال: «منهم» أي لا من غيرهم. مما يدل على أن ولي الأمر يشترط فيه أن يكو مسلماً. ولم ترد في القرآن كملة ولي الأمر إلا مقرونة بأن يكون من المسلمين، مما يؤكد اشتراط أن يكون الحاكم مسلماً، كما أن الحاكم له على المسلمين كافة الطاعة، والمسلم غير مكلف بطاعة الكافر، لأن تكليفه إنما ورد بطاعة ولي الأمر المسلم قال تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ منكم) فأمر بطاعة أولي الأمر من المسلمين، ولم يأمر بطاعة غيرهم مما يدل على عدم وجوب طاعة ولي الأمر الكافر، ولا حاكم دون طاعة، فيتبين لنا من الآية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وما سقناه من أدلة أخرى أ،ه لا يجوز للمسلمين أن يرضوا أو يسكتوا عن حكم الكافر لهم كما هو حاصل في كثير من البلاد الإسلامية كلبنان مثلاً الذي يحكم فيه النصارى أبناء المسلمين.

موعظة

دخل رجل على الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: عطني يا إمام، فقال له: «إن كان الله قد تكفل بالرزق فخوفك على الرزق لماذا؟ وإن كان الرزق مقسوماً فالحرص لماذا؟ وإن كان الخلف على الله فالبخل لماذا؟ وإن كانت الجنة حقاً فالراحة لماذا؟ وإن كانت النار حقاً فالمعصية لماذا؟ وإن كانت الدنيا فانية فالطمأنينة لماذا؟ وإن كان الحساب حقاً فالجمع لماذا؟ وإن كان كل شيء بقضاء الله وقدره فالخوف لماذا؟» فخرج الرجل من عند الإمام وعاهد نفسه أن يرضي بقضاء الله وقدره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *