العدد 21 -

السنة الثانية – العدد التاسع – جمادى الآخرة 1409هـ، الموافق كانون الثاني 1989م

تقرير تحقيق حلم هيرتزل

 سنة 1895 ألّف هيرتزل كتابه (دولة اليهود). وفي سنة 1897 حاول شراء قطعة أرض من السلطان عبد الحميد. وفي سنة 1917 حصلوا على وعد بلفور. وفي 1948 أقاموا دولة اليهود. وفي سنة 1988 تنازل المجلس الفلسطيني في الجزائر عن فلسطين واعترف بشرعية اغتصاب اليهود لها.

السلطان عبد الحميد قال: «إنها ملك شعبي، ولن أتخلى عن أي جزء منها، فليوفر اليهود ملايينهم. لن أسمح أبداً بتشريحنا أحياء».

هذا هو السلطان عبد الحميد الذي يقولون عنه أنه كان مستعمراً. فماذا فعل عرفات ومجلسه ومنظمته الذين يزعمون أنهم أهل البلد!

فيما يلي بحث منقول من كتاب (تاريخ الشرق الأوسط الحديث) لدزموند ستيورت، مما يشير إلى أن ما ينفذ الآن كان مرسوماً قبل عشرات السنين، وأن الدول التي خططت في السابق هي التي تختار الأدوات المناسبة للتنفيذ وتصنعها على عين بصيرة.

في طريقه الغرب صادف نفلنسكي (رجل علاقات عامة، بولوني الأصل، كان السلطان كلفه بعض الأمور السياسية) صحافياً وكاتباً مسرحياً شاباً يدعى هيرتزل، نصب نفسه ناطقاً باسم أقليه أخرى، وكان آخر ما نشر باللغة الألمانية كتاباً عنوانه «دولة اليهود» حاول أن يبرهن فيه أن اليهود ليسوا طائفة دينية بقدر ما هم شعب مشتت في العالم، وقال أن اليهود يستحقون وطناً يؤسسون لهم فيه دولة يعيشون فيها أحراراً محترمين. لم يحدد المؤلف منطقة معينة لهذه الدولة ولكن المنطقة التي أوحى بها الكاتب وطالب بها قراءه الذين لم يعتبروه قصة خيالية تكوّن جزءاً من أملاك السلطان عبد الحميد.

شرح هيرتزل لوكيل السلطان مشروعة الخيالي، وأطلعه على رغبته في مقابلة عبد الحميد كي يعرض عليه مساعدة اليهود مقابل قطعة أرض يقيمون عليها وطنهم القومي، وقال أن عشرين مليوناً من الجنيهات قد خصصت لتنظيم المالية التركية. ثم طلب إلى نفلنسكي أن يساعده ويرافقه في رحلته.

شمّ نفلنسكي رائحة الفائدة، وقد خلق لمثل ذلك، فادعى أنه لم يقرأ كتاب «دولة اليهود» فحسب بل اطلع عليه السلطان أيضاً. ومما شجعه على الاهتمام بالعميل الحالم الجديد أنه لم يكن متسولاً ولا طالب معروف، بل ابن موظف بنك وصحافياً مشهوراً، ولا كأحد أولئك النفعيين الذين يحومون حول قصر يلدز. ثم أن نفلنسكي نفسه كان مقامراً تعباً يحن إلى صفقة أخيرة كبيرة تمكنه من التقاعد والراحة. يضاف إلى هذا أن بولونيا، وطن نفلنسكي، من أشد بلاد أوروبا تعصباً. ومهما أصبحت لا سامية نفلنسكي ضعيفة فلا بدّ من أن تكون فكرة خروج اليهود من أوروبا قد راقت له.

لكنه تردد… أن السلطان لا يمكن أن يتخلى عن القدس المدينة المقدسة في نظر المسلمين التي عرج منها النبي إلى السماء. ثم أن السلطان لا يفهم المال تماماً كالخديوي إسماعيل الذي مات قبل سنة. وفوق كل هذا كان مشغولاً بمشكلة الأرمن وبالأكثرية اليونانية في جزيرة كريت التي بدأت تشاغب على حكمه. كل ما كان يهم السلطان هو المحافظة على إمبراطوريته. وتذكر نفلنسكي أن بالمرستون كان قد عرض على السفير البريطاني في القسطنطينية اقتراحاً كهذا فقوبل بالرفض، وأنه إنما جاء إلى أوروبا لمهمة أخرى هي مقابلة زعماء الأرمن والتفاوض معهم.

لاحظ هيرتزل تردده وسأله: «ما الذي يدور في خلدك؟» فأطلعه نفلنسكي على مهمته. قال هيرتزل أن اليهود يستطيعون المساعدة في هذه القضية أيضاً. بنفوذهم قد يتوصلون إلى تسوية، وعلى كل حال تستطيع صحفهم أن تحسن سمعة السلطان كثيراً. أجاب نفلنسكي بأن معظم زعماء الأرمن أصدقاء شخصيون له، وأنهم يريدون أن يضربوا ضربتهم في يوليو فإذا أمكن تأخيرها شهراً قد يتوصل إلى إقناع زعماء الأرمن بالدخول في مفاوضات مع السلطان فيعود عليه ذلك بربح. فهم هيرتزل قوله وقال له: «ولكن القضية اليهودية ستعود عليك بربح أكثر كثيراً من القضية الأرمنية. لا علاقة لي شخصياً بالمال ولكن سأوصي بك، طبعاً، رجالنا الأغنياء».

هنا تذكر نفلنسكي ثروة روتشيلد الهائلة التي تمول الثورة الصناعة كما كان آل دي مديشي وآل فوجير يمولون النهضة الأوروبية، وتخيل أكوام الذهب أمامه، فوافق على مرافقته إلى القسطنطينية بعد عودته من لندن في شهر يونيو.

عاد نفلنسكي إلى فيينا دون أن يتوصل إلى اتفاق مع زعماء الأرمن، وقابل هيرتزل في 9 يونيو 1896، فاتفق الاثنان على الالتقاء في محطة بودابست في القطار الذاهب إلى القسطنطينية.

بعد رحلة دامت يومين وصل القطار إلى محطة اسطنبول، فطلب نفلنسكي عربة اخترقت بهما شوارع المدينة إلى فندق رويال المطل على مياه القرن الذهبي اللألاءة.

أول راعٍ فكر هيرتزل في اختياره هو السلطان العثماني الذي كان يسيطر على البلد الذي أراده الصهيونيون. عرض عليه ما اعتبره صفقة ملائمة وهي أن اليهود سيصبحون، مقابل فلسطين، حلفاءه، وكحلفاء سيقدمون له العون في ثلاثة مجالات: الماليون اليهود كسير صمويل مونتاج يساعدون بالمال. لقد وجدت دون الإمبراطورية العثمانية في 1881 بمبلغ 106 ملايين جنيه، ووضعت إدارتها في أيدي هيئة تمثل الدائنين الذين احتكروا الملح والتبغ في الإمبراطورية، واليهود هم الوحيدون القادرون على تحرير السلطان من هذا الوضع المهين. ثم أن الصحافة اليهودية ستحسن سمعة العثمانيين التي شوّهتها القضية الأرمنية والصراع الطويل في البلقان. وإذا استقر في فلسطين المستوطنون اليهود الموالون للسلطان أمكنهم أن يساعدوه في حال الخلاف المحتمل مع العرب.

سارت الأمور في القسطنطينية على عكس ما يشتهي هيرتزل. أقام فيها أسبوعين حصل له نفلنسكي خلالهما على وسام عثماني لا أكثر. كان السلطان متعباً دبلوماسياً فلم يقابله، وفي اليوم الثالث جاءه نفلنسكي برد عبد الحميد على مشروعه: «إذا كان الهر هيرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصحه ألاّ يتقدم خطوة واحدة أخرى في هذا الشأن. لا أستطيع أن أبيع قدماً واحدة من البلد لأنه ليس ملكي بل ملك شعبي. لقد ربح هذه الإمبراطورية وغذاها بدمه، وسَنُغَذّيها مرة أخرى بدمنا قبل أن نسمح بتمزيقها اثنتان من فرقي جاءنا من سوريا وفلسطين قتلتا في «بليفنا» حتى آخر رجل. لم يخضع رجالهما، بل سقطوا جميعاً في الميدان صرعى. إن شعبي هو مالك هذه الإمبراطورية لا أنا. لا أستطيع التخلي عن أي جزء منها. يستطيع اليهود أن يوفروا ملايينهم. حين تقسم الإمبراطورية قد يأخذون فلسطين مقابل لا شيء. لكن لن تقسم إلا جثثنا لأنني لن أسمح أبداً بتشريحنا أحياء».

أدهش نفلنسكي هدوء هيرتزل وهو يستمع إلى ردّ السلطان. ادعى هيرتزل أنه «تأثر بكلمات السلطان السامية حقاً. إن هناك جمالاً مفجعاً في هذا الإيمان بالقدر الذي يتوقع الموت وتقطيع الأوصال ومع ذلك يحارب حتى آخر نفس» على أن هدوءه قد يفسر بتقديره لقوة الإمبراطورية العثمانية، فقد كانت أضعف من عزم اليهود على أخذ فلسطين. ومع أن هيرتزل عاد إلى القسطنطينية إلاّ أنه أخذ الآن يتصور تماماً ما تكهن به عبد الحميد: أن تملك فلسطين يتمّ عن طريق انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقطيع أوصالها.

اتصل هيرتزل بالسلطات الألمانية حالما اقترحت زيارة القيصر للأرض المقدسة ونشرت في الصحف اليهودية مقالات تدعو إلى تأسيس مستعمرة يهودية في الشرق الأوسط تحت الرعاية الألمانية، أرسلت نسخ منها إلى الحكومة الألمانية وإلى القيصر.

ساعد هيرتزل اثنان من الحلفاء الألمان، أولهما غراندون بادن. قال له هيرتزل: «نحتاج إلى حام، والحماية الألمانية يرحب بها أكثر من غيرها». والثاني هو السفير يولنبرج. قال له: «إن حركتنا موجودة، وإني لأتوقع أن تؤيده إحدى الدول الكبرى. فكرت أولاً في إنجلترا، وذلك أمر طبيعي، ولكنني أكون أكثر سروراً لو كانت ألمانيا».

كان الرجلان من أصحاب النفوذ. فالغراندوق قريب القيصر، بينما يولنبرج يعرف جميع المسؤولين الألمان، فقد رتب لهيرتزل في أواخر سبتمبر مقابلة مع فون بولو، وزير الخارجية. أحرج هيرتزل بمقابلة وزير الخارجية، وما دار بينهما كان حديثاً عادياً أكثر منه بحثاً جاداً، ولكنه ذكر ناحية في الصهيونية قد تسرّ فون بولو المحافظ وهي الناحية المضادة للاشتراكية. حاول أن يبرهن بصورة فيها من الوقاحة أكثر من الحقيقة وهي أن مصر التي استعبدت اليهود كانت دولة اشتراكية. وقال: «أن وصايا موسى العشر خلقت مجتمعاً فردياً».

قابل فون بولو هيرتزل مرة أخرى، وقد تمت المقابلة هذه المرة في برلين، وحضرها المستشار الألماني الأمير هوهنلو. كان الجوّ قد تغير. شعر هيرتزل، من أسئلة المستشار، أنه ضد السامية. سأل: «هل سيترك يهود برلين الأغنياء البورصة ويتبعوه؟ كم من أرض السلطان يريد؟ حتى بيروت في الشمال أم أبعد من ذلك؟» أجاب هيرتزل: «سنطلب ما نحتاج إليه. كلما زاد المهاجرون زاد طلب الأرض. طبعاً ستحترم حقوق الملكية الخاصة، وستشتري الأرض من أصحابها الحاليين».

– «من أولئك؟»

– «العرب، اليونان، خليط كبير من الشرق».

حاول هيرتزل المراوغة حين سأله المستشار عن موقف السلطان، وأنكر فون بولو أن يكون السفير الألماني في القسطنطينية قد ذكر أن الموقف العثماني ملائم. وأخيراً اتفق على أن يقدم هيرتزل مذكرة في القسطنطينية، ولكن برود فون بولو أفسد تفاؤله.

حصل هيرتزل في القسطنطينية على موعد لمقابلة القيصر سراً، وكان هذا الأخير مقيماً في يلدز. وقد ارتفعت معنويات هيرتزل حين وافق القيصر على مقابلته في فلسطين على رأس وفد صهيوني رسمي، فاشترى في الحال تذكرة سفر إلى الإسكندرية على ظهر الباخرة الروسية «الإمبراطور نيقولا الثاني». لا بدّ أن يعلن القيصر شيئاً لمصلحة الصهيونية عرف هيرتزل ما يقدمه له مقابل ذلك: لن يلوح له بالمعونة المالية كما لوّح للسلطان، بل بشيء يلائم ذوق  إمبراطور حاسد لبريطانيا. أن نواة من اليهود الذين يتكلمون الألمانية ستقوي نفوذ ألمانيا في الشرق الأوسط. وستكون أيضاً حاجزاً في وجه الجموع الآسيوية التي كان القيصر _مخترع عبارة «الخط الأصفر») يخشاها كثيراً.

وصل هيرتزل والقيصر إلى فلسطين.

كانت مدينة يافا العربية متحمسة. أطلقت المدافع ترحيباً بالعاهل الأوروبي الوحيد الذي كانت سياسته المحافظة على الإمبراطورية الإسلامية لا تحطيمها. كان الناس متحمسين، مستطلعين، متخوفين. جاء القيصر الظاهر لتكريس كنيسة بروتستنية جديدة ف يالقدس. إن العرب حساسون فيما يتعلق بالدوافع الخفية حتى لو لم يكن لها وجود، وقد شعروا الآن بحق أن الحاكم الألماني إنما جاء لأسباب سياسية. لقد أبّد السلطان في متاعبه في كريت قبل عامين وحضر لأخذ المكافأة، أراد أن يكون لألمانيا حق الشرق الأوسط. أن الترحيب الفريد الذي قوبل به في القسطنطينية أبهجه كثيراً فقبّل وجنة السلطان الذي كان راضياً ومذهولاً في آن واحد.

إن هيرتزل، كالقيصر، لم يحضر إلى فلسطين لأسباب سياحية، لزيارة الآثار القديمة ورؤية الأهالي (الذين كان عددهم نصف مليون، أو نحو سكان قبرص في سنة 1970، معظمهم من العرب المسلمين)، وإنما حضر لمهمة مستعجلة.

أراد أن يزور «ميكفا إسرائيل» أول مدرسة زراعية أنشئت بأموال روتشيلد، ومستعمرة ريشون زيون (عيون قارة)، فقد كان في فلسطين ثماني عشرة مستعمرة زراعية يسكنها نحو 4500 يهودي، ولكنه لم يجد عربة تنقله إليهما. كان مستعداً على الرغم من الحرّ الشديد أن يذهب على ظهر جواد. ولكن طبيباً روسياً صهيونياً قدم له العربة اللازمة لذلك.

قطع هرتزل هذه المسافة ليقابل القيصر في مهمة رسمية. لقد أصبحت الصهيونية قوة بعد نشر كتاب «دولة اليهود»، وعقد في بازل سنة 1897 أول مؤتمر صهيوني نظم الحركة، ثم عقد المؤتمر الثاني سنة 1898 فأسس الأمانة الاستعمارية والصندوق الوطني لشراء الأرض في فلسطين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *