العدد 19 -

السنة الثانية – العدد السابع – ربيع الثاني 1409هـ، الموافق تشرين الثاني 1988م

نشأة الكيان اللبناني

وهذا كاتب آخر من نصارى لبنان الذين يؤرخون لولادة هذا الكيان. إنه شاهد من أهله يشهد أن لبنان ولد سنة 1920 من أب فرنسي هو الجنرال غورو وربا برعاية الانتداب. وقبل ذلك لم يكن إلا جزءاً من ولاية من ولايات الدولة الحاكمة في المنطقة. أي إن لبنان لم يكن في يوم من الأيام يملك مقومات الدولة. وقد أوجده الغرب لحاجة كانت موجودة ثم انتهت.

هذا المقال مأخوذ من كتاب (تاريخ لبنان السياسي الحديث) ص 153 للأستاذ ملحم قربان.

 

لا يمكن القول بأن الدولة اللبنانية قد تكونت دستورياً في سنة 1861، عندما تم اتفاق الدول الخمس مع تركيا، على منح جبل لبنان نظامه الخاص، إذ أنه لم يكن من جراء هذا النظام، إلا أن جعل للبنان إدارة ذاتية تولاها متصرف من الجنسية العثمانية، كان الباب العالي هو الذي يعينه، بمصادقة الدول الموقعة على هذا النظام. فلم يكن من أثره أو أزال سيادة الدولة العثمانية على لبنان، ولا نزع الجنسية العثمانية عن اللبنانيين، لأنه قد أبقى متصرفية جبل لبنان في الحظيرة العثمانية، كما يستدل عليه من رجعة الحكم التركي إلى الجبل، في عام 1915.

وهكذا تكون معاهدة لوزان، بتاريخ 24 تموز سنة 1923، هي المعاهدة التي نزعت سيادة تركيا عن لبنان، فمن هذا التاريخ يبدأ الإقرار الدولي بالدولة اللبنانية.

قبيل ذلك كان الدولة اللبنانية تعيش في ظل الانتداب الفرنسي.

وجاء هذا الانتداب بدوره، بعد مرحلة احتلال عسكري غربي تبع الاحتلال التركي أثناء الحرب.

ومن المجدي التذكير بأن «لبنان الكبير» الذي أصبح الجمهورية اللبنانية هو غير جبل لبنان حجماً وسكاناً.

كانت الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، حتى منتصف القرن التاسع عشر، ضم الموصل وبغداد وحلب وصيدا والشام. وكانت التالية إحصاءات سكانها: الموصل 65 ألفاً، وبغداد مئة وخمسة آلاف، وحلب مئة ألف وبيروت 40 ألفاً ودمشق مئة وثمانين ألفاً. وهكذا كان يقدر عدد السكان في المدن الرئيسية بنصف مليون.

هذا عدا عن الجزيرة العربية التي كانت تضم ولايتي الحجاز واليمن.

وبعد الحرب الأهلية التي وقعت سنة 1860 في لبنان راح الباب العالي يعيد تنظيم الإدارات في الولايات العربية، فقسمت سوريا الجغرافية إلى ولايتين: حلب والشام. ولم تعد هذه الأخيرة تشتمل على لبنان. ذلك لأن لبنان بمقتضى «بروتوكول» سنة 1861 الذي رفعه سفراء الدول الخمس: إنكلترا وروسيا وفرنسا والنمسا وبروسيا، إلى الباب العالي الذي قبله، كان قد فصله عن سوريا وجعله سنجقاً مستقلاً يحكمه متصرف.

وكان هذا «البروتوكول» يتضمن «التنظيمات الدستورية» التي صدرت في 5 حزيران، سنة 1861. وقد استعيض عنها بتنظيمات صدرت في 6 أيلول 1864. وعدلت هذه الأخيرة في 28 تموز سنة 1868.

كان المتصرف بموجب هذا البروتوكول مسيحياً وكان مجلس الإدارة يتألف من أربعة من الموارنة، وثلاثة من الدورز واثنين من الروم الأرثوذكس وواحد من الروم الكاثوليك وواحد من المسلمين السنيين وواحد من المسلمين الشيعيين.

وقسم السنجق إلى سبعة أقضية: أربعة منها في المناطق المارونية وقضاء واحد للروم والأرثوذكس وقضاء للوم الكاثوليك وقضاء الشوف للمسلمين.

وكان رئيس الشرطة مارونياً.

وكان لهذا السنجق نظام ضرائبي خاص به.

وفي سنة 1887، وبسبب أهمية مدينة القدس المتزايدة، انشأ الباب العالي وحدة إدارية مستقلة هي سنجق القدس في القسم الجنوبي من فلسطين، وقد فصل هذا السنجق عن ولاية الشام ووضع تحت إشراف الباب العالي مباشرة.

وفي هذه الأثناء كانت مدينة بيروت تزداد اتساعاً. وكان ازدهارها التجاري يتقدم بسرعة. ولذا قرر الباب العالي في سنة 1888 إنشاء ولاية بيروت الجديدة ضم إليها سنجق اللاذقية وطرابلس وعكا ونابلس.

وهكذا، ومنذ السنة 1888، أصبحت سوريا مجزأة ثلاث ولايات: حلب والشام وبيروت، وسنجقين: لبنان والقدس. ولم يتعدّل هذا الوضع دستورياً حتى 24 تموز 1923.

معاهدة لوزان مع تركيا 1923:

لهذه المعاهدة أهمية ذات أبعاد متعددة: إنها نقطة تحول في تاريخ المسألة الشرقية، وإنها بداية نهضة يقظة للأمة التركية، وإنها نقطة تحول في العقلية الحاكمة التركية إذ أصبحت تركيا لا عثمانية أي أنها تنازلت عن طموحها الإمبراطوري واكتفت بيقظتها القومية، وإنها تضمنت الإقرار من تركيا بتنازلها عن سيادتها القديمة على البلاد العربية. إذ أن سوريا بولاياتها الثلاث: بيروت ودمشق وحلبن وسنجقيها: القدس ولبنان، أي متصرفية جبل لبنان كانت قد ظلّت قبل معاهدة لوزان القانونية خاضعة للسيادة العثمانية. وذلك بالرغم من الاحتلال العسكري.

صك الانتداب أو شرعة الانتداب:

كانت المادة 22 من ميثاق جمعية الأمم قد أعلنت مبدأ الانتداب. أم صك الانتداب فهو القرار المتخذ من قبل مجلس جمعية الأمم بتاريخ 24 تموز سنة 1922 في لندن (على أن يصبح نافذاً ابتداء من 29 أيلول 1923) الذي يقضي باعتماد المشروع المقدم من قبل لجنة ملنر.

أ- المادة الأولى: يشمل هذا الصك على مقدمة وعشرين مادة. وأهمها، بالنسبة لنا ما جاء في المادة الأولى:

«يضع المنتدب، خلال ثلاث سنوات من تاريخ الانتداب، قانوناً أساسياً لسوريا ولبنان، على أن تشترك بإعداده، السلطات المحلية، وأن يأخذ هذا القانون بعين الاعتبار، حقوق ومصالح وأماني جميع الأهلين القاطنين في هذه الأقاليم، ويتضمن هذا القانون الطرق الكفيلة بتسهيل تقدم سوريا ولبنان، تدريجياً، لكي يصبحا دولتين مستقلتين، وبانتظار وضع القانون الأساسي موضع التنفيذ، فإن إدارة سوريا ولبنان ستسير، وفقاً لروح الانتداب الحاضرة.

ب- اثر هذا الصك: ومن آثار هذا الصك الاعتراف الدولي بكيان الدولة اللبنانية من جانب جمعية الأمم. ومنذ ذلك التاريخ أصبح لبنان يعتبر دولة تتصف بمقومات الدولة الأساسية. وما يضيرها بشيء فرض الانتداب عليها.

إذن يصح الاعتبار أن الدولة اللبنانية تأسست سنة 1920 بموجب قرارات الجنرال غورو ثم توطدت أسسها دولياً نتيجة الاعتراف الدولي بوجودها ـ وهذا هو بالضبط ما انطوى عليه صك الانتداب.

إعلان دولة لبنان الكبير:

كان ذلك بتاريخ الأول من أيلول 1920 وفي حفل مهيب حضرة رجال الدين وقناصل الدول وحشد كبير من الناس. أعلن هذا الحدث على الملأ الجنرال غورو باسم حكومة الجمهورية الفرنسية:

«أعلن دولة لبنان الكبير، وعاصمتها بيروت، باسم الجمهورية الفرنسية، وأحييها بقوتها من النهر الكبير إلى أبواب فلسطين ومن البحر المتوسط إلى قمم لبنان الشرقية».

ظهرت الدولة اللبنانية إلى الوجود دستورياً، سنة 1920، في ظل الانتداب. كان الجنرال غورو هو الذي رسم حدودها «استجابة لأماني الأهالي، المعبر عنها بحرية… واستعداداً لتأسيس لبنان الكبير المقبل».

أ- القرار رقم 299: ففي 3 آب سنة 1920 اتخذ القرار رقم 229 القاضي بفصل الأقضية الأربعة من ولاية دمشق، لضمها، بما يتعلق بنظامها الإداري، إلى منطقة جبل لبنان. وهذه الأقضية هي حاصبيا وراشيا والبقاع (المعلقة) وبعبلك.

ب- القرار رقم 318: وفي 31 آب سنة 1920 أصدر الجنرال غورو قرارً أساسياً.

الحيثيات: «حيث أنه لم يكن لفرنسا من غاية، بمجيئها إلى سوريا، سوى تمكين أهالي سوريا ولبنان، من تحقيق أشد ما لديهم من الأماني المشروعة بالحرية والحكم الذاتي».

«وحيث يقتضي، في سبيل ذلك، أن تعاد إلى لبنان حدوده الطبيعية، كما حددها ممثلوه وطالبت بها رغبات أهلية الإجماعية».

«وحيث أن لبنان الكبير، باستقراره وبحدوده الطبيعية هذه، سيستطيع بوصفه دولة مستقلة، ولخير مصالحه السياسية والاقتصادية، وبمعاونة فرنسا، تحقيق البرنامج الذي خططه لنفسه».

أولاً- منطقة لبنان، أي متصرفية جبل لبنان السابقة.

ثانياً- وتنفيذاً للقرار رقم 299 أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا.

ثالثاً- ما تبقى من ولاية بيروت السابقة وسنجق صيداً وسنجق طرابلس، بعد فصل ما كان ملحقاً بها من الأراضي في الجنوب (أي عكا) لضمه إلى فلسطين، وفي الشمال (اللاذقية) لضمه إلى منطقة العلويين المستحدثة».

وهكذا تصبح حدود لبنان الحدود التي نعرفها الآن، وتبني هذه الحدود ويكرسها الدستور الأول للجمهورية اللبنانية.

وفي أيلول سنة 1920 أعلن الجنرال غورو، في حرج الصنوبر، استقلال لبنان الكبير وبقي هذا اليوم (هذا التاريخ، أيلول) عيداً وطنياً للبنان طيلة 23 سنة.

ج- القرار رقم 336: وفي هذا التاريخ بالذات صدر القرار رقم 336 من أربعين مادة، أوجدت للدولة إطارها الإداري العام. فكان هذا القرار بمثابة القانون الأساسي للدولة.

تنظيم دولة لبنان الكبير أول أيلول 1920:

«إن فخامة الجنرال غورو بناء على مرسوم… وعلى القرار نمره 318 واعتماداً على أنه، إلى أن يوضع موضع الإجراء القانون الأساسي اللبناني الذي سينظم توفيقاً للمادتين 94 و96 من معاهدة سيفر، وللانتداب المنصوص عليه في المادتين المذكورتين يلزم أن تعطى دولة لبنان الكبير تنظيماً إدارياً وفقاً لرغائب الأهالي يساعدهم على أن يحققوا بمساعدة فرنسا بروغرام الاستقلال والحكم الذاتي الذي … كلمة غير معروفة… عليه».

تنظيم لبنان الإداري:

انبثق لبنان، بموجب قرارات الجنرال غورو سنة 1920 من قطاعين كانا خاضعين في عهد الدولة العثمانية، إلى تنظيمين إداريين مختلفين: أحدهما المحدد في نظام جبل لبنان الصادر سنة 1864، وهذا يتعلق بجبل لبنان القديم، والثاني تنظيم ينضوي تحت لواء التنظيم الإداري العام، وهذا كان سائداً في الدولة العثمانية، ويتعلق بالأقضية الأربعة التي انسلخت عن ولاية دمشق، وبالساحل الذي كان جزءاً من ولاية بيروت. وقام هذا التنظيم الأخير على أساس الولايات المنقسمة هي بدورها إلى سناجق أو ألوية أو متصرفيات. وكانت هذه تنقسم بدورها إلى أقضية أو قائمقاميات. كما وأن القضاء ينقسم إلى نواح أو مديريات ـ وذلك وفقاً للقانون العثماني الصادر في سنة 1864 والقانون الصادر سنة 1871.

وكانت عملية الدمج التي قام بها الجنرال غورو والتي تطلبها قيام دولة لبنان الكبير. ونتيجة لذلك ألغيت الولايات المتصرفية. غير أنها سميت بالفرنسية سنجقاً وبالعربية محافظة. وبقيت المحافظة منقسمة إلى أقضية والقضاء إلى نواح. وأنشئت بلديتان قائمتان بذاتهما: بيروت وطرابلس (القرار رقم 336).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *