العدد 20 -

السنة الثانية – العدد الثامن – جمادى الأولى 1409هـ، الموافق كانون الأول 1988م

ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان

بقلم: محمود عبد الكريم حسن ـ أبو ظبي

اشتهرت بين المتعلمين قواعد غير شرعية على أنها شرعية مثل «العادة محكّمة» و«لا ينكر تغير الأحكام بتغيّر الأزمان» وأباح البعض ما عمَّت به البلوى، المصلحة وتغيّر الزمان ومجاراة العصر.

فهل «لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمان» أم العكس هو الصحيح؟

من الأقوال الشائعة على السنة الكثير من المسلمين أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وأنها تتسع لتقديم الحلول والمعالجات لكل ما يطرأ من مشكلات. وهذا القول وإن كان صحيحاً ولا يتطرق إليه أي شك، فإن الاستدلال عليه لا يمكن أن يكون من خلال استقراء القواعد الأحكام الإسلامية كلها، لأن الإنسان أعجز من أن يحيط بالشريعة الإسلامية إحاطة تامة. وإن حظي بالكثير الكثير من علومها وأصولها وفروعها. فإنه أعجز أيضاً من أن يعلم ماهية وطبيعة المشكلات والعلاقات القائمة في العالم، أو التي يمكن أن تبرز من خلال تطور وتغير صور الأشياء وأشكالها أو تطور المعاملات والمخترعات. والاستدلال على قدرة الشريعة الإسلامية على استيعاب المستجدات، وعلى احتوائها على حكم شرعي لكل أمر طارئ يكون من خلال النصوص الشرعية الثابتة (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ(، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ(، (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ(. فهذه الآيات تقطع بوجود حكم شرعي لكل ما يقع.

إلا أن بعض الذين انبروا للدفاع عن الإسلام وشريعته أمام الهجمات الكثيرة التي خاضها الكفار ـ من أي فئة كانوا ـ على الإسلام، قد وقعوا في أخطاء جسيمة جعلتهم يبتعدون عن حقائق إسلامية ثابتة ويقلبون الأمور رأساً على عقب. فرددوا «أينما كانت المصلحة فثم شرع الله» ولجأوا إلى التأويل البعيد، وإلى ابتداع العلل العقلية للنصوص الشرعية تمهيداً لإلغاء عمل بعض النصوص كي لا يقعوا في تحريم ما يرونه ضرورياً حسب رأيهم. فأباح بعضهم الربا، وأباح بعضهم عقود التأمين والشركات المساهمة وأباح بعضهم أن يبيع الإنسان ما ليس عنده، وفوق هذا كله اشتهرت بين المتعلمين قواعد غير شريعة على أنها شرعية مثل «العادة محكّمة» و«لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» وأباح البعض ما عمت به البلوى، حتى فتح الباب على مصراعيه أمام من يريد الانحراف بالمسلمين تحت حجة المصلحة وتغير الزمان ومجاراة العصر.

ثم خشي بعض الذين لم يستوعبوا كيفية قدرة الشريعة الإسلامية على إعطاء المعالجات لكافة المشكلات، خشي هؤلاء ـ على فرض حسن النوايا ـ أن يظهر الإسلام عاجزاً أمام التطور المدني والعمراني وأمام التجدد والتطور في المعاملات والوسائل والأساليب فجعلوا يتمسكون بكل شبهة تقدم مصدراً جديداً إلى مصادر الشريعة الإسلامية. وبدأوا بختلقون العلل العقلية الوضعية لأحكام الشريعة وذلك كي يستبعدوا تكل الأحكام عند عدم وجود تلك العلل. على اعتبار أن الأحكام الشرعية تحرم كثيراً من المعاملات التجارية في عصرنا وبذلك فهي تشكل قيوداً على هذه المعاملات، فلا بد من حل هذه القيود عند البعض الذين يرون فيها عجزاً عن مجاراة الزمن.

والحقيقة أن هذه الطريقة في التفكير، طريقة بعيدة عن فهم الإسلام. فهي تعتبر الواقع مصدراً من مصادر الحكم. وما هو إلا واقع يحتاج إلى حكم، والمصدر هو ما ثبت شرعاً أنه مصدر. والثبوت الشرعي هو بالأدلة الشرعية من قرآن وسنة، أو ما يرشد إليه القرآن والسنة. ويمكن الاستدلال بالأدلة العقلية اليقينية إلى جانب الأدلة الشرعية اليقينية إن كان المستدّل عليه من العقيدة.

ومصادر الشريعة الإسلامية أربعة لا غير، ثبتت ثبوتاً قطعياً وهي القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس، وكل ما لم يثبت ثبوتاً قطعياً لا يمكن اعتباره مصدراً للتشريع، لأن مصادر التشريع هي الأدلة الشرعية وهي أصول الأحكام الشرعية فهي كأصول الدين أي كالعقائد. قال الشاطبي في الموافقات: «أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية. والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي». وقال الإمام جمال الدين عبد الرحيم الاسنوي في كتاب نهاية السول: «والشارع إنما أجاز الظن في المسائل العملية وهي الفروع دون العلمية كقواعد أصول الدين وكذلك قواعد أصول الفقه كما نقله الانباري شارح البرهان عن العلماء قاطبة». وقال الشيخ تقي الدين النبهاني في الجزء الثالث من كتاب الشخصية الإسلامية: «وأصول الشريعة كلها سواء أكانت أصول الدين أو أصول الأحكام وهي الأدلة الشرعية، لا بد أن تكون قطعية ولا يجوز أن تكون ظنية لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( وقوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(.

والإسلام من خلال أنظمته يقدم تصوراً معيناً لما يجب أن يكون عليه الواقع، ولكيفية المعاملات والمعالجات والعلاقات. وحين النظر في الواقع فإننا نرجع إلى أحكام الإسلام لكي نعيد بناء الواقع والمجتمع على أسس أحكام الإسلام. وأسس أحكام الإسلام هي الحق. وأحكام الإسلام هي الرحمة وهي المصلحة وهي الصلاح. فإذا ما أخذنا حكم الإسلام من مصدره وطبقناه على الواقع، بمعنى أن تكون الأشياء والأفعال الواقعة مبنية على أحكام الشريعة. فذلك هو العدل والصلاح وفيه المصلحة والرحمة. أما أن ننظر إلى الواقع على علاته ونرضى به بناء على عقليات بشرية رأت أنه مصلحة ويُسْر. ثم نلجأ إلى النصوص الشرعية فنلوي أعناقها ونضع لها قيوداً ليست من الشريعة، ونخصصها بأقوال رجال ليس لأقوالهم أي وزن شرعي لأن قولهم ليس قرآنا ولا سنة، فهذا لا يقره الإسلام ولا يرضى به. وعليه فإنه من الخطأ الفادح أن يقرر بعض العلماء ـ أو ما يُسَمَّوْن ـ اختيار الأيسر على اعتبار أن الدين يسر. بل الصحيح هو معرفة حكم الشريعة والالتزام به وبعد ذلك نقرر أن هذا الحكم هو اليسر.

وكذلك لا نلجأ المصلحة ونؤول النصوص، ونقول أن الدين يحقق المصلحة. بل نلجأ إلى الشريعة، ونعرف الحكم ونلتزمه، وذلك الحكم هو ما يحقق المصلحة وإن كانت رؤيتنا البشرية عاجزة عن إدراك وجه المصلحة في ذلك الحكم. والقاعدة الشرعية الصحيحة «أينما كان شرع الله فثمَّ المصلحة» وليس العكس. وكذلك الرحمة وكذلك الصلاح. فالمفهوم الإسلامي الصحيح أن المسلم مأمور بالالتزام بأمر الله، وعليه أن لا يحيد عنه، وأنه إذا التزمه كان عادلاً ومحسناً، وكان في ذلك الصلاح والمصلحة ويتحقق بذلك اليسر والرحمة. ولا يضير في ذلك أن يعجز الإنسان أياً كان عن إدراك المصلحة في ذلك.

والاختيار بين أمرين أو أكثر لا يكون إلا فيما ترك الشارع للمكلف أن يختار فيه. قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ(.

ويرى بعض الذين يفهمون الإسلام بالشكل المقلوب أن الشارع قد ترك في الشريعة الإسلامية منطقة عفو أو فراغ، تركها للمجتهدين ليملؤها بما هو أصلح للأمة وأليق بزمانها وحالها، وكأنما غاب عن هؤلاء حقيقة المقصود من جهد المجتهد، وكأنهم يرون أن المجتهد له التحريم والتحليل بناء على الظروف.

إن من ثوابت الإسلام وحقائقه القطعية أن الواقع الواحد له حكم واحد لا يتغير بتقدم الزمان ولا بتغير المكان. ولا يتغير الحكم إلا بتغير الواقع، لأن لكل واقع حكماً ثابتاً أبدياً. فكون الخنزير حراماً لا يتغير بتغير الزمان أو المكان، وهو حرام دائماً وإلى قيام الساعة. ووجود رخصة عند الاضطرار ليس تغييراً في الحكم، وليس مرتبطاً بزمان ولا مكان. بل تلك رخصة باقية إلى قيام الساعة، يلجأ إليها عندما يوجد الواقع الذي دلت النصوص على جواز اللجوء إليها بوجوده. وليس في الأمر أي تغيير أو تطور أو مرونة. وهكذا كل أحكام الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تتبدل. فالحرام حرام إلى قيام الساعة والحلال حلال إلى قيام الساعة، والمستجدات حكمها في الشريعة موجود وإنما يحتاج إلى النفوس النزيهة والهمم العالية والافهام المستنيرة كي تستنبطها من مصادرها.

وكيف يتصور مسلم درس عقيدة الإسلام وأطلع على بعض أصول الشريعة، أن هناك بعض المسائل ترك للمفكرين أن يقرروا حرمتها أو إباحتها، وتراه يردد أن الشريعة فيها لكل أمر حكم.

نهم إن في الشريعة لكل أمر حكماً، والمجتهد بما حازه من شروط الاجتهاد يستنبط حكم ذلك الأمر من النصوص الشرعية نفسها، وليس من ظروف الحياة والمجتمع. وربما يستدل البعض بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله حدوداً فلا تعتدوها، وفرض أشياء فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» أقول ربما استدل البعض بهذا الحديث على أن هناك منطقة فراغ تركها الشارع للمجتهدين ليحللوا ويحرفوا. وهذا فهم لا نرضاه للمسلمين فضلاً عن أن يقول به حالم. فهذا الحديث وغيره مثل: «وما سكت عنه فهو مما عفا لكم» ومثل: «وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً» كلها أخبار آحاد فلا تعارض النص القطعي (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ(. وغيره من النصوص القطعية الثبوت والدلالة.

على أن هذه الأحاديث لا تدل على أن هناك أشياء لم تبينها الشريعة، وإنما تدل على أن هناك أشياء لم يحرمها الله تعالى رحمة بنا. فموضوعها ليس السكوت عن الحكم الشرعي، بل موضوعها هو السكوت عن التحريم ويكون سكوته تشريعاً للإباحة لكل ما سكت عنه. ويكون سكوته بياناً للحكم. وليس للمجتهد أن يختار لنا حكماً بناء على ما يراه مصلحة أو حسناً، بل يستنبط الحكم من بيان الشريعة التي هي تبيان لكل شيء.

وعليه فإن القول باتساع الشريعة الإسلامية لكل أحداث العالم من جهة إعطاء الحكم الشرعي لها، وتقديم المعالجات لمشكلاتها أمر لا شك فيه. ولكن من الخطر أن يقودنا ذلك إلى الحديث عن مرونة الشريعة الإسلامية. فالشريعة ليس فيها مرونة. والمسألة الواحدة لها حكم واحد لا يتعدد ولا يتبدل باختلاف الزمان والمكان. والقاعدة الشرعية الصحيحة «ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» وليس العكس. وإذا سمعنا عن العالم النزيه الثقة والتقي، أنه قد قال في المسألة الواحدة بقولين متغايرين، فذاك مرده إلى أنه عدل عما تبين له أنه خطأ، ولا نستدل بذلك على جواز تغير حكم المسألة والواحدة حسب الزمان والمكان. فضلاً عن أن فعل العالم أو قوله ليس دليلاً شرعياً.

ومن هنا كان مما يجب أن يُتصدى له محاولة بعض محبي الإسلام أن يدافعوا عنه بأن يلصقوا فيه ما ليس منه، وبأن يتمسكوا بكل ما يظنونه صالحاً لأن يكون مصدراً للتشريع، وبأن يتحدثوا عن مقاصد الشريعة ويتحللوا من الأوامر والنواهي بحجة تحقيق المقاصد، وبأن يختلقوا العلل ليقولوا أن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فيهملون النصوص بسبب غياب العلة. والغاية عندهم هي إهمال النص. نسأل الله تعالى العفو والعافية، ونسأله السداد والرشاد.

إحياء السنّة

عن عمرو بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعه ضلالة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً».

[حديث حسن رواه الترمذي]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *