العدد 17 -

العدد الخامس – السنة الثانية – صفر 1409هـ، الموافق أيلول 1988م

الحياد وعدم الانحياز

بقلم: عايد شعراوي

الحياد اصطلاح سياسي دولي حيث البروز، وهو يعني اتخاذ موقف سياسي طوعي تجاه حرب قائمة، ويقضي هذا الموقف بعدم التدخل في تلك الحرب، وتنتهي حالة الحياد بانتهاء الحرب، ويشمل ذلك الحرب الفعلية وما يمسونه بالحرب الباردة. وهذا النوع من الحياد يطلق عليه الحياد التقليدي أو الحياد السلبي وذلك تمييزاً له عن الحياد الإيجابي والذي يعني أن لا تقف الدولة المحايدة موقف المتفرج إزاء حدث أو أحداث دولية، بل تحاول تخفيف حدة التوتر والنزاع.

ولقد برز هذا المصطلح بعد مؤتمر باندونج المنعقد عام 1955، ويبدو أن وراء هذه الفكرة أكبر دولة استعمارية وهي أميركا، وذلك لحشد أكبر عدد ممكن من الدولة في كتل وأحلاف خارج إطار حلف وارسوا وحلف الأطلسي، وذلك للوقوف في وجه بريطانيا وروسيا وغيرهما من الدولة الكبرى في تلك الحقبة التي شهدت صراعاً حاداً على النفوذ وعلى اقتسام العالم.

ولكن هذا الاصطلاح اختفى وبرز مكانه اصطلاح عدم الانحياز الذي برز بعد مؤتمر بلغراد عام 1961، وظهرت بعده مجموعة دول عدم الانحياز، تلك الدول التي كانت لأميركا هيمنة كاملة عليها، سواء أكانت تلك الهيمنة سرية أم علنية. وفي مؤتمر بلغراد المذكور كان عددُ المشاركين فيه 21 دولة، وارتفع في العام الذي يليه أي عام 1962 إلى 47 دولة في المؤتمر الذي عُقد في القاهرة وشارك فيه ما يقارب العشرة دولة من دول أميركا الجنوبية الدائرة في فلك أميركا.

وقد اتفقت الدول المدعية لعدم الانحياز على:

(…معارضة الأحلاف والقواعد العسكرية الأجنبية، والقضاء على التمييز والتفرقة العنصرية، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، والمحافظة على السلام وتخفيف التوتر الدولي، واستنكار سياسية القوة والعمل على نزع السلاح وتحريم الأسلحة الذرية واحترام سيادة الدولة وسلامة أرضيها، والعمل على تحرير البلاد غير المستقلة والقضاء على الاستعمار والإمبريالية الجديدة).

والمدقق في هذه الأمنيات التي توصلت إليها الدول التي شاركت في مؤتمرات عدم الانحياز يرى أن تلك الدولة تكذب على شعوبها أولاً، ثم تكذب على باقي شعوب العالم ثانياً، وذلك لأن تلك الدولة لا تملك من أمرها شيئاً فهي دولة مرتبطة بعجلة المستعمر، ولا تملك القرار، ولا تجرؤ على السير خطوة نحو الحرب أو اللاحرب بدون علم المستعمر وأخذ إذنه.

ولعبة الحياد بكافة أشكاله الإيجابية والسلبية أصبحت مكشوفة، وكذلك فإن عدم الانحياز هو كذبة كبيرة، إن لم نقل إنها كذبة القرن الحالي، ولا يوجد في العالم شيء اسمه حياد أو عدم انحياز، لأن الدولتين الكبيرتين تتقاسمان العالم كمناطق نفوذ لهما بعد سياسة الوفاق الدولي التي بدأت في مطلق الستينات والتي لا زالت تتوطد، وإذا زاحمتها الدول المستعمرة (دول الاستعمار القديم كفرنسا وإنجلترا) فإنهما تشعلان الحروب والحرائق من أجل اقتلاع ما تبقى من نفوذ للاستعمار القديم وللحيلولة دون عودته كمنازع لهما على الهيمنة على بقاع الأرض.

والدول الفقيرة الموزعة بين جنوب آسيا وقارة أفريقيا وأميركا الجنوبية والتي يطلقون عليها دول العالم الثالث أو الدول المتخلفة أو يتهمونها بأنها دول نامية، تلك الدول هي الأهداف الجديدة للاستعمار الجديد، والذي اتخذ أسلوباً جديداً للاستعمار يختلف فيه عن سلفه، ويكتفي بالتحكم بمستعمراته عن بعد ويكثف السفراء المتجولين والمبعوثين وذلك في مهمات استطلاعية لرصد أنفاس الشعوب المقهورة والإبقاء عليها مطواعة وسلسة الانقياد والتبعية. ويتشدقون بالحياد وصفقاتُ السلاح تبدأ في سلسلة لا تنتهي والحرائق تشتعل من كابول إلى تشاد إلى الصحراء الغربية إلى دول أميركا الجنوبية، ومُشْعلوها معروفون بوضوح وهم الدول المستعمرة وعلى رأسها الدول الأربع الكبرى ذات الأطماع الاستعمارية في الماضي والحاضر والمستقبل. وهل يصدق عاقل أن أميركا وبريطانيا وروسيا وفرنسا انكفأت داخل حدودها وقررت عدم التدخل في شؤون دول العالم الثالث، وتحول الذئب إلى آكل الحشائش مخافة أن تنقرض الحملان؟!

التلاعب بالرأي العام العالمي والأعراف الدولية

لا شك أن الدعاية الهائلة التي رافقت نشوء الحياد في البداية وعدم الانحياز فيما بعد هي من صنع الدول تلك وذلك ذرّاً للرماد في العيون، وإمعاناً في تضليل الرأي العام العالمي، وإذا كان الانضمام إلى حلف وارسوا أو الأطلسي يعتبر في نظرهم انحيازاً فإن التستر وراء فكرة عدم الانحياز هو في حد ذاته أشد انحيازاً لأنه خداع للشعوب دون علمها، وهو في حقيقته حلفٌ مستتر يعمل لخدمة الحلف المعلن.

ولا يقتصر التلاعب بالرأي العام العالمي على هذه الفكرة وحدها بل يشمل الكثير من الأفكار التي تحولت بعد العراقة والتركيز إلى أعراف دولية أصبح لها قداسة لدى الشعوب وتحدي مشاعرها وكسب عدائها، ومن تلك الأوصاف وصف الدكتاتورية والنازية والفاشية والتي يصفون بها كل حاكم أو دولة أو شعب لا ينسجم مع مخططاتهم ولا يسير ضمن الخطوط التي رسموها لخريطة العالم، أو وصف التطرف والتعصب لكل شخص أو كتلة لا تؤمن بالنظم القائمة ومن هم وراءها أو لأن الكتلة أو الحركة تحاول تغيير الأوضاع القائمة نحو الأصلح من مقياس شرعي.

ويلاحظ أن خطورة التفاف الرأي العام العالمي حول فكرة معينة واعتناقها بحيث تصبح عرفاً دولياً يصعب مخالفته تكمن في أن من يحاول كسر هذا العرف فسوف يتعرض لنقمة شعوب العالم ودوله ولتكتلهم ضده ومحاربته بكافة الوسائل الممكنة. ولقد نجحت أميركا وبريطانيا وفرنسا في تشويه صورة ألمانية وحكامها قبل قهرها وتقسيمها حتى أن اسم (هتلر) أصبح مضرب المثل وكذلك كلمة (النازية) أصبحت وصفاً لكل من يقوم بعمل عسكري أو أمني لا يُعجب غريمه. وكذلك كلما (الفاشية) و(موسيليني). والأغرب من ذلك أن مروجي هذه الأوصاف ليسوا بأحسن حالاً من هتلر أو موسيليني، لكن تحقيقهم للغلبة عليه جعلهم يتحكمون في الرأي العام ويؤثرون في قناعاته لكونهم المنتصرين وبذلك يتقبل منهم الرأي العام الأوصاف والنعوت التي يدمغون بها أعداءهم المهزومين، وجعل الرأي العام يصدق بأن الحلفاء كانوا على حق وأنهم الحمل الوديع، وأنهم عملوا على تخليص العالم من شرور هتلر وأطماعه، وبسط (السلام) على ربوع القارة الأوروبية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأعوام قليلة بدأت فكرة الحياد وعدم الانحياز ترى النور بفعل الدول نفسها التي خاضت الحرب الثانية والجهد الأبرز كان لأميركا. ولكنها طُرحت بخبث ودهاء حتى يخيّل للشعوب بأن الدول غير المنحازة هي فريق ثالث قد رفض الانضمام إلى حلف وارسوا أو إلى الحلف الأطلسي، فهو بذلك لم ينخرط في الأحلاف القائمة في العالم، كما يريدون أن يوهموا الشعوب أن هنالك دولاً تملك قراراً ذاتياً طوعياً تحدد فيه متى تحارب ومتى تسالم ومتى تقف على الحياد دون التعرض لضغوط دولية من هذه الدولة أو تلك. وما حصل لألمانيا من تمزيق ومن تشويه لخطها في سياستها الخارجية قد يتكرر مع أية دولة لا تعجب أميركا أو روسيا أو فرنسا أو إنجلترا، وقد يحصل أشد نه حينما تقوم الدولة الإسلامية الشاملة بإذن الله، ومن المتوقع أن يصفوا الدولة الإسلامية بالدكتاتورية والنازية والفاشية والإرهاب والتطرف ومخالفة الأعراف الدولية، وعدم التقيد بشرعة الأمم المتحدة وما انبثق عنها من مؤسسات، وأنها خارجة عن الإجماع الدولي، إلى آخر ما في جعبتهم من أوصاف تليق بهم، وهنا يتطلب الموقف من المسلمين أن يكونوا في قمة الوعي والحذر حتى لا يصدقوا سحرهم ويخيل إليهم أن العصا (حية تسعى)، أو يقعوا تحت تأثير ضغط الإعلام والرأي العام فيقفوا في صف الناعقين والمتربصين، متبنين بذلك آراء الكفار وأفكارهم، بل عليهم أن ينطلقوا ليوجدوا أعرافاً دولية جديدة من صنعهم وتنسجم مع عقيدتهم وما انبثق عنها من نظم ومعالجات، محاولين إيجادها وتركيزها عند كل شعوب الأرض حتى يكون ذلك تمهيداً لبسط النور في بلاد الظلمات ونشر الهداية حتى تعم الأرض ومن عليها. فتحطيم الأعراف الدولية القائمة حالياً وغرس أعراف جديدة ورعايتها من شأنه أن يسهل حمل الدعوة الإسلامية إلى الآخرين ويذلل العقبات الكثيرة أمام نشر الإسلام.

المسلم لا يمكن إلا أن يكون منحازاً ولا يجوز له أن يكون حيادياً

ومن الأمور التي يجب أن تحطَّم فكرة الحياد أو فكرة عدم الانحياز. فالمسلم لا يمكن أن يكون منحازاً ولا يجوز له أن يكون حيادياً، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى طلب منه القيام بأعمال وأوجب عليه القيام بها وإلا فأنه يأثم، ومنها الجهاد لنشر الإسلام، ومنها منابذة الحاكم الذي يأمر بمعصية بالسيف، أي قتاله حتى يتخلى عن المعصية أو يُعزل، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها الاهتمام بأمر بالمسلمين جميعاً «ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»، ومنها الإصلاح بين الطائفتين من المسلمين حين ينشب بينهما قتال، وإذا لم ترتدعا طلب منه مقاتلة الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. فكيف يكون المسلم حيادياً في تلك القضايا وما شابهها؟! فالحياد غير وارد إطلاقاً في حياة المسلمين لا على صعيد الأفراد ولا على صعيد دولتهم الواحدة، لأن دولتهم أيضاً تمثلهم في كل الأحكام والفروض التي جاءت بلفظ الجماعة مثل (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، ومثل (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ). ولا يجوز لها أن تكون حيادية في شؤون طلب منها الشارع أن تتخذ منها موقفاً لأنها بذلك تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما عن عدم الانحياز فإن المسلم لا بد أن ينحاز إلى دينه وإلى إمام المسلمين وجماعتهم وأن ينحاز إلى الحق ويحارب الباطل، وأن ينحاز إلى العدل ويجابه الظلم، وأن ينحاز إلى المعروف وأن يتصدى للمنكر لتغييره، فهو صاحب موقف، وصاحب فعل وليس إمّعه ولا ينتظر الإذن من جهات أو سلطات حتى يقوم بواجباته الشرعية.

أما انضمام الدولة الإسلامية إلى معسكر دول عدم الانحياز فإنه لا يجوز شرعاً لأنه انضمام إلى أحلاف الكفر التي تجعل المسلم يقاتل تحت راية الكفر من أهل المحافظة على الكيانات الكافرة وتكريسها، قال صلى الله عليه وسلم : «لا تستضيئوا بنار المشركين». والنار كناية عن الحرب، والحديث يكنى عن الحرب مع المشركين وأخذ رأيهم، ولأن الانضمام إلى ذلك المعسكر هو اتخاذ لموقف موحد مع الكيانات الكافرة بأن يقاتل معهم إذا قاتلوا وبسالم معهم وقت يسالمون، عدا عن كون الانضمام إلى كتلة عدم الانحياز فيه تعهد ضمني بعدم القيام بفريضة الجهاد لنشر الإسلام، لأنه لا يُعقل أن يكون في كتلة دول غير منحازة ويعلن الجهاد على إحداها. هذا مع ملاحظة أن الانحياز هو موقف في السياسة الخارجية كما أن عدم الانحياز هو موقف في تلك السياسة، والمواقف التي تتخذها الدولة الإسلامية في كل الأمور ومنها الشأن الخارجي لا يكون إلا وفقاً للمبدأ الذي تعتنقه، ولخدمة هذا المبدأ وتسهيل نشره وتطبيقه، والانضمام إلى أحلاف ومعسكرات يعيق ذلك بل يمنعه. ولا نظن أن الدولة الكافرة المشاركة في تلك الأحلاف من السذاجة بحيث تقبل بأية خطوة فيها فائدة للإسلام والمسلمين، أو تدفع عنهم ضرراً، بل العكس هو الصحيح.

خصال ست

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «خصال ست، ما من مسلم يموت في واحدة إلا كان ضامناً على الله أن يدخله الجنة: رجل خرج مجاهداً، فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله. ورجل تبع جنازة، فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله، ورجل توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لصلاة، فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله، ورجل في بيته لا يغتاب المسلمين ولا يجر إليه سخطاً ولا تبعة، فإن مات في وجهه كان ضامناً على الله» [حديث حسن رواه الطبراني في الأوسط].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *