العدد 16 -

السنة الثانية – العدد الرابع – محرم 1409هـ، الموافق أيلول 1988م

النبي الأمي صلى الله عليه وسلم

بقلم: وليّ الدين السّراجي

تمر الأمة في هذه الظروف بمحن شديدة، ومصائب عديدة، وكان أعظمها الغزو الفكري الذي استحوذ على عقول الكثير من المسلمين الذين لم يتعمق الإيمان الكامل في قلوبهم، فتتبعوا أهداف المستشرقين دون روية، بقصد وبغير قصد.

ومما يثار في هذه الأيام مسألة أمية النبي صلى الله عليه وسلم ، وهل كان أمياً لا يعلم القراءة والكتابة أم كان عالماً خبيراً بالقراءة وفنونها.

تلامذة الاستشراق يقولون ـ وإن أساتذتهم قد سبقوهم بهذا الادعاء بأن النبي كان يعلم القراءة والكتابة، ولم يكن أمياً بالمعنى المعروف، فهم يضعون تعريفاً آخر له سيأتي معنا، ويحاولون إيهامنا بأن هذا لا ينقص من قدر النبي ورفعته، بل يدل على عظمته ورفعته. فإذا تحقق لهم ما زعموا، عادوا يقولون إن هذا التشريع العظيم والقرآن البليغ من وضع عبقرية محمد وذكائه، وربما غاب عن أذهانهم أن هذه الشريعة الغراء لا يمكن أن يأتي بها محمد ولا غيره، عالماً كان أو أمياً لا يعلم القراءة والكتابة.

ولا مجال الآن لتثبيت أن هذا القرآن لم يكن من عند محمد عليه الصلاة والسلام، ولنعرض الآن مسألة: هل كان النبي أمياً لا يعلم القراءة والكتابة أم كان عالماً بالكتابة خبيراً بفنونها؟

كما قلنا، تلامذة المستشرقين يزعمون أن النبي كان متعلماً، ويستدلون بما يلي:

أولاً: إن كلمة (أمي) لا تدل على عدم العلم بالكتابة والقراءة، بل هي بمعنى غير الكتابي، فيكون كل من عدا النصارى واليهود أميين، وتفسر أيضاً بمعنى المبعوث إلى جميع الأمم.

ثانياً: إن كلمة (اقرأ) التي خاطب جبريل بها النبي صلى الله عليه وسلم  لا يخاطب بها في اللغة إلا عليم بالكتابة متقن لقراءتها، وعند ئد يكون النبي خبيراً بالكتابة والقراءة.

ثالثاً: ما جاء في صحيح البخاري الذي يستفاد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم  كتب بيده يوم عقد معاهدة الحديبية مع مندوب قريش سهيل بن عمرو سنة ست للهجرة، وهذا ما جاء في صحيح البخاري:

(حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بن أبي اسحق عن البراء رضي الله عنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم  في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: لا يُقَرُّ بها، فلو نعلم أنك رسول الله ما منعناك، لكن أنت محمد بن عبد الله، قال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي: أمح رسول الله، قال: لا والله لا أمحوك أبداً، فأخذ رسول الله الكتاب فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب، وأن لا يخرج من أهلها أحد إن أرادوا أن يتبعه، وأن لا يمنع أحداً من أصحابه إن أراد أن يقيم بها)(1).

ويستدلون بقوله: (فكتب هذا ما قاضى…) الحديث.

ولنفند كل ادعاء بدليله.

أولاً: أما بالنسبة لمعنى كلمة «الأمي»، فإن لدينا مراجع نرجع إليها وهي مدونات اللغة، ولقد رجعنا إلى مصادر اللغة فما وجدنا لكلمة «أمي» إلا معنى أساسياً واحداً: وهو من لم يتعلم الكتاب نسبة إلى الأم وتشبيه بحالته يوم ولدته أمه في بقائه على الجبلة، وربما أطلقت على الجافي قليل الكلام.

ويقول صاحب لسان العرب(2): «والأميّ الذي لا يكتب قال الزجاج: الأميّ الذي على حلقة الأمة لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته» فهذا هو معنى كلمة «الأميّ» فيما تقضي اللغة العربية، والرسول قد فسّر هذا المعنى بقوله: «إنا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب» وقال: «أنا النبي الأمي». وبهذا المعنى فسّر علماء التفسير كلمات الأمي والأميين حيثما وردت في القرآن، من ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت الآية 48: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ).

قال ابن كثير: وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  دائماً، إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم(3).

وجاء في القرطبي (الجامع لأحكام القرآن)… «هذا هو الصحيح في الباب، أنّه ما كتب ولا حرفاً واحداً، وإنما أمر من يكتب، وكذلك ما قرأ ولا تهجّى، فإن قيل: فقد تهجّى النبي صلى الله عليه وسلم  حين ذكر الدجال فقال: «مكتوب بين عينيه ك ا ف ر». وقلتم أن المعجزة قائمة في كونه أمياً، قال الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ…) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم : «إنّا أمّة أمية لا نكتب ولا نحسب»، فكيف هذا؟.

فالجواب: ما نص عليه صلى الله عليه وسلم  في حديث حذيفة، والحديث كالقرآن يفسَّر بعضه بعضاً، ففي حديث حذيفة: «يقرؤه كل مؤمن كاتب» فقد نص في ذلك على غير الكتاب ممن يكون أمياً، وهذا من أوضح ما يكون جلياً(4).

ومن الآيات التي تشير إلى أميّة النبي أيضاً قوله تعالى في سورة الأعراف في الآيتين 157 و158 فقال في الأولى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ) وقوله في الثانية: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

هذا هو معنى كلمة «الأمي»، وإذا عرفت هذا، فإنّ إطلاق الكتابيين من اليهود والنصارى، لقب الأميين على العرب من غيرهم، تطبيق لهذا المعنى وتأكيد له. فإن أهل الكتاب لما كان فبهم الكثير ممن تعلم الكتابة، وكان العرب من دونهم جاهلين بها، كانوا مميزين عنهم بهذه الصفة البارزة، فكان يطيب للكتابيين أن يركزوا على هذا الفارق فيما بينهم وأن ينعتوا من دونهم بالأميين(5).

وقد ورد في كتاب الملل والنحل للشهرستاني قوله: «الفرقتان المتقابلتان قبل المبعث هم أهل الكتاب، والأميون، والأمّي من لا يعرف الكتابة، وكانت اليهود والنصارى بالمدينة والأميون بمكة(6).

وأما قولهم «الأمي» أي المبعوث إلى جميع الأمم فمردود لأن كلمة «أمي»في الأصل نسبةً إلى الأم وتشبيه بحالته يوم ولدته أمه في بقائه على الجبلة كما تقدم وإذا أردنا نسبته إلى جميع الأمم نقول: (أممي)، وليس (أمي) وقد مرّ معنا ما معنى أمي التي فسرها الرسول بقوله: «إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب».

فمن نصدق في تفسير معنى كلمة الأمي: أنصدق القرآن الكريم وتفسيره والحديث الشريف ومعاجم اللغة العربية وإجماع الأمة، أم نصدق المستشرقين وتلامذة اليهود؟

ثانياً: وقولهم إن كلمة «اقرأ» يلد على أن المخاطب بها خبير بالكتابة عليم بفنها؟ نحن نعمل أنه يقال عن الرجل «هو يقرأ»إذا ردّد شيئاً متلواً على لسانه سواء اعتمد فيه على اصل مكتوب أمامه أو على ذخيرة حفظه، من ذلك قوله تعالى للنبي: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) [النحل آية 98]. فالقراءة قراءة ترداد وتلقين.

ثالثاً: أما ما جاء في صحيح البخاري والذي يوهم بمعرفة النبي القراءة فمردود لأن معنى: …«فكتب هذا ما قاضى عليه محمد…» أي أمر من يكتب من كتّابه وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم  ستة وعشرون كاتباً وقد ورد في أحد روايات البخاري: «اكتب محمد بن عبد الله». فذلك كقولنا اليوم شق وزير المواصلات طريقاً والمعنى في اللغة: شق أي أمر من يشق الطريق وهكذا… وممَّا يؤيد هذا الكلام ما جاء في صحيح مسلم.

حدثنا اسحق ابن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا عيسى بن يونس، أخبرنا زكريا عن أبي اسحق، عن البراء قال: (لما أحضر النبي صلى الله عليه وسلم  عند البيت، صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثاً، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح(7)، السيف وقرابه، ولا يخرج بأحد معه أهلها، ولا يمنع أحداً يمكث بها ممن كان معه، قال لعليّ: اكتب الشرط بيننا، بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى(8) عليه محمد رسول الله. فقال المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فأمر علياً أن يمحاها فقال عليّ: لا والله لا أمحاها فقال رسول الله: «أرني مكانها» فآراه مكانها، فمحاها وكتب ابن عبد الله فأقام بها ثلاثة أيام)(9).

فلو كان يعلم القراءة لما قال «أرني مكانها» فدل على أن النبي كان أمياً لا يعلم القراءة وكتب كما مر معناه أمر من يكتب.

وأخيراً لقد وصف المؤرخون وجهه الشريف وما فيه من فم وأنف وأسنان ونحوه وذكروا مشيته وضحكه وتبسمه… حتى أنهم ذكروا خفه ونعله وناقته وبغلته وحماره… فمن باب أولى أن يذكروا ما هو أهم مما سبق لو وجد… فلو قرأ وكتب صلى الله عليه وسلم  لذكروا كيف ومتى، وأين كان ذلك ولذكروا اسم معلمه قبل ذكر نعله وناقته وحماره!!(10)  

(1) صحيح البخاري 3/240.

(2).لسان العرب

(3) تفسير ابن كثير 3/57

(4) تفسير القرطبي 13/351.

(5) «من سيد القدر»، د. البوطي ص 99.

(6) الملل والنحل: 1/208.

(7) جلبان السلاح: جراب من الجلد يوضع فيه السيف مغمداً، ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في الرحل.

(8) قاضى: أي فاصل وأمضى أمره عليه.

(9) صحيح مسلم 3/141.

(10) «آراء يهدمها الإسلام» لشوقي أبو خليل ص 110.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *