العدد 375 -

السنة الثانية والثلاثون، ربيع الآخر 1439هـ، كانون الثاني 2018م

الأئمة الأربع: منارات هدى على مرَّ الزمن (1)

الأئمة الأربع: منارات هدى على مرَّ الزمن (1)

 

إن علماء المسلمين الذين بلغوا مبلغ الإمامة في علمهم وفقههم وورعهم وسلوكهم من الكثرة بحيث يصعب إحصاؤهم، ومن الوفرة بحيث يمتنع استقصاؤهم، وسوف تقع العين على كثيرين منهم عند الحديث عن كل أمام وشيوخه وصحابه وتلامذته، فبين هؤلاء جميعًا، من شيوخ وصحاب وتلاميذ، أعلام ٌّتنضح هالات الإمامة من عقولهم وقلوبهم، وتتفجر ينابيع العلم من أفئدتهم وأفواههم.

وإنما وقع الاختيار على الأئمة الأربع المعروفين لأنهم القدوة لجمهرة المسلمين. وفي حياة كل منهم من الأحداث والسلوك والاجتهاد والتضحية ما يجعل منه قدوة للعلماء والجمهرة، والخاصة والعامة على وجه سواء، وإننا سوف نجد عجبًا في حياة هؤلاء الأئمة البررة منذ نعومة أظفارهم إلى أن بلغوا مبلغ الإمامة، وسوف نجد ثلاثة منهم مدينين لأمهاتهم بالتوجه إلى العلم دون غيره من صنائع الحياة، بل سنجد أنفسنا كمسلمين مدينين لهؤلاء الأمهات الفضليات اللائي أهدين إلى البشرية نجوم هدى ورسل سلام. ويتمثل ذلك أكثر ما يتمثل في والدة مالك ووالدة الشافعي. فأما أم مالك، فقد عمَّمته وهو صغير، وألبسته ملابس العلماء، وقالت له: إذهب إلى ربيعة، وتعلَّم منه أدبه قبل علمه. وكان الصغير مالك يريد أن يشتغل بالغناء، فصرفته أمه عن ذلك صرفًا جميلًا. وأما أم الشافعي فقد ظلت به في غزة حيث ولد قبل وفاة أبيه بزمن قصير، فلما أن بلغ عمره حولين، وأصبح قادرًا على تحمل الرحلة إلى ديار أهله في الحجاز، حملته إلى مكة وتولت رعايته، فقد كانت فرصة تعلُّمه الفقه لا تتهيَّأ له في مكان بقدر ما تهيَّأت له في الحجاز.

وتبدو صورة الكفاح والرحلة في طلب العلم أكثر ما تبدو في حياة هؤلاء الأئمة البررة باستثناء الإمام مالك الذي آثر ألا يغادر دار الهجرة إلاحاجًّا إلى بيت الله الحرام. فأما أبو حنيفة فقد طوَّف بمدن العراق، ثم قضى في مكة بضع سنين يطلب العلم ويستجير بالبيت. وأما الشافعي فقد طوَّف باليمن والعراق والشام ومصر، وكانت تطول إقامته حيث ينزل جامعًا علمًا، أو باعثًا فضلًا، أو ناشرًا فقهًا، وما من بلد حلَّ فيه إلا وله فيه آثار وتلامذة ومريدون، وبخاصة في مكة وبغداد، وأخيرًا في مصر. وأما الإمام أحمد فقد طوَّف بقاع دنيا المسلمين طلبًا للعلم، وسماعًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فزار مدن العراق جميعًا، واتجه إلى مكة فحجَّ وسمع ودرس، وارتحل إلى اليمن ماشيًا ليسمع الحديث عن عبد الرزَّاق بن همام، وسافر إلى الشام والثغور، وسعى إلى كثير من بلاد فارس، وهكذا يعلِّمنا الأئمة أن العلم يسعى إليه، ويرتحل في سبيله، وأنه جدير بأن يبذل فيه الجهد والمال، وتلك سُنة حميدة سنَّها لنا الأئمة الكرام.

وكان كل إمام من الأئمة الأربع صاحب مدرسة غنية بالطلاب، حافلة بالدارسين، وكانت هذه المدارس أقرب ما تكون إلى المجامع العلمية، أو الأكاديميات بلغة عصرنا، كانت تدور فيها المناقشات، وتتنوع أسباب الحوار في الموضوع الواحد بين التلاميذ بعضهم مع بعض في حضرة شيخهم أبي حنيفة يناقشونه ويناقشهم، ويتقبل منهم ما كان صوابًا، ويرشدهم إلى ما لم يكن كذلك. وكانت المناقشات وضروب الحوار تمتد أحيانًا إلى ما يقرب من الفجر، وكان الأمر يجري على هذا النحو أو قريبًا منه في حلقة الإمام الشافعي في مكة، ثم في بغداد، ثم في جامعة الفسطاط التي كان جامع عمرو بن العاص مقرًا لها. كانت الحلقة تبدأ بعد صلاة الفجر وتستمر إلى الضحى في موضوعات مختلفة من علوم قرآن وفقه وحديث ولغة وأدب، وكان الأئمة جميعًا قد سلَّحوا أنفسهم في بدايات مسيراتهم العلمية بالقرآن والحديث واللغة والفقه والقراءات، وربما ذهب بعضهم إلى الكلام لمجرد العلم، وإن لم يأخذ به بعد ذلك.

ومن الأمور التي ينبغي أن يعرفها كل مسلم بل كل متعلم أن مبدأ المنح الدراسية المالية قد قام أول ما قام على يد الإمام أبي حنيفة، فقد فرَّغ تلامذته للعلم دون سواه، ومنعهم من أن يمارسوا أعمالًا أخرى في الصناعات والحرف، وقد كان الناس جميعًا من عالـِمين وغير عالـِمين يعيشون بما تدرُّه عليهم صناعات أو ألوان من التجارة، فجاء أبو حنيفة وأجرى رواتب شهرية لتلامذته، وفي مقدمتهم أبو يوسف الذي نشأ في بيت فقير، وأراد أبواه أن يصرفاه عما هو فيه من طلب العلم، فقام الإمام بسد حاجته وحاجتهما من المال.

وكان للحوار آدابه، وللنقاشات تقاليدها فيما بين الأئمة بعضهم مع بعض إذا كانوا متعاصرين، وفيما بينهم وبين الناس، وفيما بينهم وبين تلامذتهم، وفيما بين تلامذتهم بعضهم مع بعض، كان الأئمة يضعون تلك الأسس ويقومون على تنفيذها. كان الشافعي إذا رأى تلامذته دخلوا في نقاش لا يرضى عنه حجب نفسه عنهم ولا ينزل إليهم؛ فيكون ذلك بمثابة التوجيه المهذب والتأديب غير الجارح؟، وهم مع ذلك كبار غير صغار. وكان يعلمهم أدب الحوار فيقول: ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة. ويقول: ما ناظرت أحدًا قط وأحببت أن يخطئ. ويقول: ما كلمتُ أحدًا إلا أحببت أن يوفَّق ويسدَّد. ولقد سبق أبو حنيفة الإمام الشافعي بحكم السن والعصر، فمهَّد أدب الحوار لتلامذته وأصحابه، وكان يقول لتلاميذه، وأبو حنيفة من أبرع المناظرين: كنا نناظر وكأن على رؤوسنا الطير؛ مخافة أن يزلَّ صاحبنا. وكان يعلمهم منهج البحث العلمي السليم فيقول: لا يحلُّ لمن يُفتي من كتبي أن يُفتي حتى يعلم من أين قلت. وكان يقول لتلاميذه: أنتم مسار قلبي وجلاء حزني، وقد أسرجتُ لكم الفقه وألجمته؛ فنشدتكم بقدر ما وهب لكم من جلالة العلم لَـما صنتموه عن ذل الاستثمار. إن حلقات أبي حنيفة والشافعي كانت بمثابة المجامع العلمية، ولكنها كانت تزيد على المجامع المعاصرة بآداب أصيلة ملتزمة وتقاليد ثابتة ممتدحة؛ ولذلك فقد خرَّجت علماء وأثمرت فقهاء وتمخضت عن رجال صاروا أئمة فيما بعد. ومن المستطاع مراجعة أسماء هؤلاء من تلاميذ كل إمام من الأئمة الأربع وصحابهم.

هذا ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الحديث القصير عن حلقات الأئمة دون الإشارة إلى حلقات مالك وأحمد. لقد كانت حلقة كل منهما من الغنى بالرجال بمكان؛ حتى إن حُجابًا كانوا ينظمون الدخول على مالك في موسم الحج، وكانت حلقة أحمد في مسجد بغداد تضم الآلاف من التلاميذ، ولكنهما أي حلقتي مالك وأحمد كانتا تختلفان من حيث التقاليد عن حلقتي أبي حنيفة والشافعي، فقد كان السماع وحده دون المناقشة هو طابع الحلقتين إلا في حالات قليلة. وكان لكل من مالك وأحمد هيبة في قلوب تلاميذهما تمنعهم من مناقشتهما، وهو ضرب آخر من الحلقات أنتج من العلماء والأئمة من لا يقلون قدرًا عمن تخرجوا في حلقتي أبي حنيفة والشافعي. لم يكن الأئمة الأربع إذًا أئمة لعلمهم وحسب؛ ولكن لأنهم كانوا مدارس ومحافل تمحيص فقهي؟، وكل حلقة خرَّجت عددًا من الفقهاء العِظام، وغير واحد من الأئمة. ففي حلقة أبي حنيفة تخرَّج أبو يوسف ومحمد بن الحسن. وفي حلقة مالك تخرَّج الشافعي وابن وهب وابن القاسم. وفي حلقة الشافعي تحرَّج الإمام أحمد في العراق، والبويطي والمزني والربيعان في مصر.

لقد كان الأئمة يمثلون القدوة الصالحة في العلم، ولكن العلم وحده غير كافٍ في مجال القدوة. لقد كانوا قدوة في كل شيء متصل الأسباب بالدين والحكم والسلطة والحياة.

كانوا قدوة للعلماء في احترام العلم ومعرفة قدره؛ فقد أراد الرشيد أن يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك وهو في المدينة؛ فأصرَّ مالك على أن يكون الدرس في بيته، لا في بيت الخليفة. وقال للرشيد: العلم يُزار ولا يزور، فلما أن جاء الخليفة إلى البيت جلس بجوار مالك، فطلب منه مالك أن يجلس بين يديه كما يجلس أي طالب علم، ولم يزد الرشيد على أن استجاب طالبًا أن يخلو المجلس من غير المقربين. وكان مالك إذا دخل على مجلس المهدي في المدينة وقف بعيدًا ثم قال للخليفة: أين يجلس شيخك؟ فيفسح له الطريق ويجلسه بجواره.

وكانوا قدوة في نصح الخلفاء والحكام، فقد سأل المنصور العباسي ابن طاووس أن يحدثه عن أبيه بوجود الإمام مالك؛ فحدثه أن أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في سلطانه فأدخل عليه الجور في حكم. ويعلق الإمام مالك فيقول: فضممت ثيابي خوفًا من أن يصيبني دمه.

وشكا قوم من المدينة واليها الحسن بن زيد بن منصور، وكان الفقيه ابن أبي ذئب حاضرًا فقالوا للخليفة: سل ابن أبي ذئب عنه، فقال ابن أبي ذئب: أشهد بأنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه، فقال الوالي للخليفة: سله عن نفسك. فقال أبو جعفر: فيمَ تقول فيَّ. فقال: أويعفيني أمير المؤمنين. فقال: واللهِ لتخبرَنِّي. فقال: أشهد أنك أخذت المال من غير حقه، وجعلته في غير أهله. فتحرَّك أبو جعفر من موضعه، ووضع يده على قفاه، وقال: واللهِ لولا أنا لأخذت فارس والروم والترك والديلم هذا المكان منك، وأطلق سبيله وقال: واللهِ لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك.

ويدخل المهدي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فيقوم الناس جميعًا إلا ابن أبي ذئب. فقال له المسيِّب بن زهير: قم، هذا أمير المؤمنين، فأجاب: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال الخليفة المهدي: دعه، فقد قامت كل شعرة في رأسي.

ويقول الرشيد للفضيل بن عياض: ما أزهدك؟ وكان الفضيل من كبار الزهاد، فيقول الفضيل: أنت أزهد مني. فيقول الرشيد: كيف؟ فيقول الفضيل: لأني أزهد في الدنيا، وأنت تزهد في الآخرة، والدنيا فانية والآخرة باقية.

والأئمة قدوة في الاستمساك برأيهم. ولقد كانت وقفة أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن وثباته على رأيه وهزيمة ثلاثة من خلفاء بني العباس لـَمِمَّا يبيِّض له وجه العلم، وترتفع هامات العلماء. لقد دفع إلى ساحة المعتصم، والناس يتوقعون أن تضرب رأسه، وكان قد ضرب عنق رجلين قبله، فلم يزد الإمام على أن نظر إلى صاحبه أبي عبد الرحمن الشافعي فقال: أي شيء تخفظ عن الشافعي في المسح؟ فجُنَّ أحمد بن أبي دؤاد، أحد رؤوس الفتنة، وقال: انظروا رجلًا هو ذا يقدم لضرب عنقه يناظر في الفقه.

وكان الأئمة قدوة في السياسة، ولم يكونوا ناصرين لحاكم، وإنما قدوة للناس، يتصرفون حيث يملي عليهم الدين والخلق أن يتصرفوا. وكانوا قدوة في البعد عن السلطان. فقد عرض القضاء على أبي حنيفة فامتنع وأوذي بسبب امتناعه. وكان الإمام أحمد يرى أن العالم إذا تقرب إلى السلطان فكأنه قد جرَّ على نفسه الداء، ويقول في ذلك: الدنيا داء، والسلطان داء، والعالم طبيب؛ فإذا رأيت الطبيب يجرُّ الداء لنفسه فاحذره.

وقد كان الأئمة قدوة في التعفف من مال السلطان. ولكل من الإمام أحمد  والإمام أبي حنيفة في ذلك أخبار كريمة. فقد ظل أبو حنيفة يرفض مال المنصور حتى اتهم أنه يعاديه ولا يستحل ماله.وكان الإمام أحمد، وهو في حالة قاسية من شظف العيش، يرد الآلاف التي يبعث بها المتوكل العباسي استرضاء بعد فعل أبيه المعتصم به؛ فكان يرفضها وهو في أشد الحاجة إلى دينار، ويمنع أولاده من تقبلها. ويذهب الأمر بإبراهيم الحربي تلميذ الإمام أحمد، حين بعث إليه المعتضد بألف دينار أن يقول لرسول الخليفة: قل لأمير المؤمنين أن يتركنا، وإلا تحولنا من جواره. وقد وصل الرشيد الإمام الشافعي بآلاف من الدنانير بعد براءته من تهمة الخروج عليه، فما يكاد الإمام، وكان لا يزال في الثلاثين ونيف، يصل إلى باب القصر حتى يوزعها على الحجاب والخدم.

لقد كان الأئمة الأربع أئمة في العلم والدين والخلق والتعفف والسلوك والترفع عن الصغائر، ومن ثم كانوا أحسن قدوة لمن يريد الاقتداء من الخاصة والعامة، ومن العلماء والسواد. وأما أخبارهم في الزهد والتعبد والورع والتقوى، فالكتب التي تترجم سيرتهم مترعة بها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *