العدد 374 -

السنة الثانية والثلاثون، ربيع الأول 1439هـ، كانون الأول 2017

مدلول (لا إله إلا الله): شمول العبادة يقتضي شمول العلم، ودور العلماء والجماعات الإسلامية في تحقيقه.

مدلول (لا إله إلا الله): شمول العبادة يقتضي شمول العلم، ودور العلماء والجماعات الإسلامية في تحقيقه.

 

إن مدلول (لا إله إلا الله) كما بيَّنا يقتضي عبادة الله في كل ما أمر به ونهى عنه، وهو يقتضي شمول العبادة. والقيام بالعبادة يقتضي العلم بها قبل فعلها، فمن أراد أن يصلي، أو يصوم، أو يزكي، أو يحج، أو يتزوج، أو يبيع ويشتري، أو أراد أن يقوم بأي عمل من الأعمال المتعلقة بشؤون حياته، سواء منها المتعلقة بفرديته، أم بكونه فردًا في جماعة، أم بكونه فردًا في دولة؛ فعليه أن يتعلم كيفية ذلك كله من المصادر الشرعية. أي يتعلم صورة الفعل الشرعي المطلوب منه ووجهه، وأركانه، وشروطه، ومندوباته، ومكروهاته، ومبطلاته… وكما بيَّنَّا سابقًا، فإن العلم يكون على درجات: إما أن يكون اجتهادًا، وإما أن يكون اتباعًا، وإما أن يكون تقليدًا. وفي الحالات الثلاث تكون للمسلم طاعة لله سبحانه وتقيٌّد بأمره. وهكذا نرى أن العلم يسبق العبادة، والتقيد يجري على الطريقة التالية:

فالصلاة مثلًا، بالنسبة للمسلم، هي فرض عين فرضها الله على كل مسلم، فهي تعلقت بذمته، وصار ملزمًا على القيام بها، وحتى يقوم بهذا الفرض على الوجه الشرعي المطلوب؛ عليه أن يتعلم كيفيته، وكذلك الزكاة والحج والصيام…كفروض عينية يجب على كل مسلم أن يقوم بها. ومثلًا إذا أراد المسلم أن يتزوج، أو يبيع ويشتري… فعليه تعلم أحكام الزواج وأحكام البيع والشراء… حتى يأتي هذا الزواج وهذا البيع والشراء على الوجه الذي يرضي الله، ويتجنب ما يخالف أمره فيغضبه؛ وعليه فإن طريقة العبادة تقوم على العملية التالية: (تعلق العمل بذمة الفرد المسلم، ثم العلم به، ثم القيام به).

فبالنسبة إلى تعلق العمل بذمة المسلم، هناك أمور:

أ‌-  إن الله سبحانه وتعالى فرض على كل مسلم بعينه الإيمان الذي به يكون مسلمًا، وفرض على كل مسلم بعينه القيام بأعمال تعتبر فرضًا عينيًا عليه، ويحاسب على عدم القيام بها، فهذه تسمى الفروض العينية، وهي تتعلق بذمة كل مسلم بعينه. وهذه الفروض يقال عنها إنها فرض الفرد، لأن كل فرد بعينه يجب أن يقوم بها. وهذه الفروض يجب العلم بها للقيام بها على الوجه الشرعي المطلوب.

ب‌-  إن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمين بمجموعهم القيام بفروض معينة، وأمر أن توجد في حياتهم، وحرَّم خلوَّها من حياتهم. وهذه الفروض توجد ببعض المسلمين وليس بجميعهم، فكل من يعمل من المسلمين لإيجادها فهي تسقط عنه، وكل من لا يعمل لإيجادها فهو آثم، ويبقى إثمه قائمًا حتى تقام هذه الفروض؛ فإذا قامت سقطت عن الجميع، لأن المقصود من فرضيتها، وهو تحقيق وجودها، قد تحقق… وهذه الفروض تسمى الفروض الكفائية، وهي تعلقت بالمسلمين بمجموعهم، ويقال عنها إن فروض الفرض، أي أن أمر الله في فروض الكفايات منصب على قيام الفرض بغض النظر عمن يوجده. فهذه الفروض تعلقت بذمة كل مسلم في حال عدم قيامها. وتسقط فقط عن المسلمين الذين يعملون على إقامتها مادامت غير قائمة، وتسقط عن الجميع في حال إقامتها؛ لأن المقصود من وجوبها قد تحقق. وهذه يجب على كل مسلم أن يعلم بها؛ فيقوم بها من يملك الكفاية. أما من لا يملك الكفاية؛ فإنه يدعو ويحث من يملك الكفاية على القيام بها.

ت‌-  إن الفرد المسلم، كما هو مكلف بالقيام بالفروض (العينية والكفائية) كذلك هو مكلف بترك الأعمال التي نهى الشرع عن القيام بها، وهي ما يسمى بـ (الحرام). وتعتبر كل المحرمات عينية، وليس فيها محرمات كفائية، فهذه المحرمات هي مما تعلق بذمة  كل مسلم. ويجب العلم بها لتجنبها.

ث‌-  أما باقي الأحكام الشرعية المتعلقة بذمة المسلمين مما تأخذ حكم الندب والكراهة والإباحة، فإنه يتم الالتزام بها على الوجه الذي شرعت له، وهي متعلقة بذمة المسلمين بناء على هذا الوجه من غير إلزام.

وفي هذا المجال يذكر أن الفرد المسلم ، كإنسان، توجد عنده حاجات عضوية تضطره في حياته إلى إشباعها، وحاجات غريزية تدفعه إلى إشباعها. فبالنسبة إلى الحاجات العضوية هو يشعر بالحاجة إلى الأكل والشرب والتغوط والنوم وإلى المسكن… ومثل هذه الحاجات لا يستطيع أن يتجاهلها وإلا أدَّت به إلى الموت؛ وهو من أجل ذلك عليه أن يعمل ليؤمن لنفسه ما يسدُّ حاجاته هذه. ولما كان هناك أكثر من صورة للإشباع، فعلى المسلم أن ينظم عملية إشباعه بالحكم الشرعي، ويحرم عليه تنظيم الإشباع من خارجه…

أما بالنسبة إلى الحاجات الغريزية؛ فقد ركب الله سبحانه وتعالى الإنسان تركيبًا غريزيًا قائمًا على: غريزة التقديس، وتظهر هذه الغريزة بمظاهر متعددة كمشاعر الاحترام القلبي والتبجيل والإجلال والتقديس… وهذه المشاعر تدفعه للعمل بحسبها… ورُكب على غريزة حب البقاء وعنها تتشعب ميول الأنانية والغيرية، والجبن والبخل والخوف، وحب السيادة، والميل إلى الاجتماع… وهذه الميول تتحكم به وتدفعه إلى العمل لإشباعها. ورُكب على غريزة النوع، وعنها تتشعب ميول تدفعه إلى الحرص على بقاء النوع الإنساني، منها إغاثة الملهوف ونصرة الضعيف، ومنها الميل نحو الجنس الآخر الذي يتولد عنه الشعور بالأبوة وبالأمومة وبالبنوة… وهذا الشعور يدفع الإنسان للزواج والإنجاب… ومن حيث واقع هذه الغرائز فإنها كذلك يمكن أن تشبع على أكثر من صورة، ولا بد لها من نظام صحيح حتى توجد الاطمئنان والكفاية عند الإنسان، والشرع كذلك نظم عملية إشباع هذه الغرائز ومظاهرها بالأحكام الشرعية.

وإذا كان الشرع قد نظم حاجات المسلم وغرائزه كافة، فمعنى ذلك أن الشرع قد نظم كافة أعمال الإنسان التي تلزمه في حياته، كفرد بحد ذاته، أو كفرد في جماعة، أو كفرد في دولة. ومن هنا يفهم شمول العبادة في الإسلام.

 والناظر في واقع الإنسان وما ركب عليه من حاجات عضوية وغرائز مشاعرية، يرى أن إشباعها كلها يتطلب أن يتعاون مع غيره، فهو لا يستطيع أن يشبعها كلها بمفرده، بل لا بد من التعاون مع غيره، وهذا يقتضي وجوده في جماعة متعاونة متآلفة ارتضت نظامًا لها تشبع حاجاتها وغرائزها على أساسه، ويتطلب تنظيم عملية الإشباع حتى ينال كل واحد من هذه الجماعة نصيبه غير ظالم ولا مظلوم، وهذا يتطلب وجوده في مجتمع، ويتطلب وجوده في دولة تشرف على عملية التنظيم… وفي الوقت نفسه يتطلب أن يكون نظام هذه الدولة نظامًا شاملًا لتنظيم كل شؤون الإنسان؛ بدءًا من إشباع غريزة التدين بمظاهرها المتعددة، إلى إشباع سائر الغرائز، مع جعل غريزة التدين هي الأساس في النظرة إلى التنظيم… وهذا معناه أنه يتطلب أن تكون هذه الدولة دولة مبدئية قائمة على عقيدة سياسية، تسيِّر على أساسها نفسها، وتشرف على تسيير المسلمين أعمالهم بحسب الأحكام الشرعية المنبثقة عنها؛ ومن هنا كان الإسلام هو الدين المبدئي الذي يخرج نوره من مشكاة الإيمان بـ (لا إله إلا الله)… هذا هو مدلول (لا إله إلا الله) بالنسبة لشمول العبادة، وبالنسبة إلى وجوب وجود الدولة في الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يقام بالعبادة في الإسلام من دونها.

إن شمول العبادة في الإسلام، يجب أن يكون مفهومه راسخًا لدى كل مسلم. وهو من المعلوم من الدين بالضرورة. ووجود الدولة في الإسلام، يجب أن يكون مفهومها راسخًا لدى كل مسلم، وهي كذلك من المعلوم من الدين بالضرورة. ولكن للأسف فإن هذين المفهومين قد ضربا لدى المسلمين جراء الغزو الفكري الغربي. فالغرب خطط لأن يتعامل المسلمون مع دينهم تمامًا كما يتعامل هو مع دينه، فمنذ بواكير استعماره لبلاد المسلمين، بعد هدم الدولة الإسلامية عام 1924م، فرض مناهجه التعليمية القائمة على إبعاد تصور المسلمين لوجود دولة إسلامية، وإقصاء أحكام الإسلام المتعلقة بتنظيم مختلف الشؤون الحياتية عن حياة المسلمين، وكان له ما أراده. والذي ساعد أكثر ما ساعد الغرب في فرض هذه النظرة هم العلماء الذين تخرجوا من المعاهد الشرعية التي أنشأها لهذا الغرض؛ حيث خضعوا لعملية تثقيف بالإسلام على الطريقة الغربية التي ترى أن الإسلام تقتصر أحكامه على الأحكام التي تتناول حياة الفرد المسلم كفرد فقط، ولا تتعداها إلى سواها من أحكام الحياة. نعم، نقول، وللأسف، إن العلماء الذين تخرجوا من معاهده، ولا يسمى عالمًا إلا من تخرج من معاهده ونال شهاداته، وكذلك فإن الحركات الإسلامية التي تخرج علماؤها المؤسِّسون من هذه المعاهد، وبالتالي تأثروا بالثقافة الإسلامية على الطريقة الغربية، كانوا هم من تولوا كبر الدعوة إلى الإسلام بهذه الصورة المنقوصة المبتورة. وكانوا هم من أثروا على المسلمين بهذا الفهم الخاطئ الذي غرسه شيطان الغرب في عقولهم وقلوبهم… فليتصور المسلمون اليوم أن ما هو معلوم من الدين بالضرورة أصبح غائبًا عن أذهان علمائهم وجماعاتهم، فكيف يكون حال المسلمين!!… إنه فعلًا على ما نراه اليوم. وليتصور المسلمون كذلك كيف أن علماء المسلمين وجماعاتهم الإسلامية هم أول من يحتاجون إلى الدعوة، بينما يجب أن يكونوا هم أول من يتقدمون الصفوف في هذه الدعوة!!. وليتصور المسلمون كم هو عمق المشكلة لديهم بسبب هذا الفهم المنقوص لدى علماء المسلمين وجماعاتهم العاملة!!.

والسؤال الذي يسأل نفسه هو: إذا كان العلماء والجماعات الإسلامية هي على هذا الوضع، إذًا من الذي عليه تقع مسؤولية النهضة بهذا الواقع المتردي؟ ومن الذي سيدعو هؤلاء إلى أرشد الأمر؟!.

الجواب: إنهم المخلصون والواعون من العلماء ومسؤولي الجماعات الإسلامية. فإن الشرع من حيث الأصل، قد أوجب على الجميع، بمن فيهم العلماء والجماعات، تغيير هذه الأوضاع. وإذا كانوا هم قبل غيرهم مسؤولون عن تردي هذه الأوضاع، فهم بالدرجة الأولى كذلك مسؤولون عن نهضة الأمة الإسلامية. فهؤلاء المخلصون الواعون عليهم أن يقوموا بأمر هذه الأمة على الطريقة التي أمر بها الشرع، وأن يبدؤوا الدعوة بهؤلاء العلماء ومسؤولي الجماعات الإسلامية وأعضائها.

ومن حيث الواقع، نرى أن هناك حزبًا قد أخذ على عاتقه منذ أول قيامه في خمسينات القرن الماضي القيام بعبء نهضة الأمة، وأعلن منذ أول قيامه أن مشكلة الأمة ليست إلا مشكلة أن يكون الأمر كله لله، وأن تقوم الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله، وأعلن منذ أول قيامه أن مشكلة المسلمين الأساسية ليست قضية فلسطين، وإن كانت هذه القضية من أهم قضاياهم. وليست قضية تعليم ولا أخلاق ولا فقر يعاني منه المسلمون… فكل هذه قضايا فيها إشكاليات ويجب أن تحل، ولكن كل واحدة منها هي فرع لأصل؛ فإذا حل الأصل حلت معه كل المشاكل الفرعية، وعلى أساس الإسلام… كذلك يمكن القول إن هذه المشاكل هي مظاهر لمرض أساسي لا يمكن معالجتها إلا بمعالجة هذا المرض الأساسي، والذي تعالج تلقائيًا بمعالجته، وهذه المشكلة الأساسية هي عدم التحاكم للإسلام في كل شؤون الحياة، والحل الشرعي لكل ذلك لا يكون إلا بإقامة دولة الخلافة الإسلامية التي أناط بها إقامة الدين كله.

أما العلماء، فإن لهم منزلتهم عند المسلمين؛ وذلك لمنزلة الدين في نفوسهم، فالناس يحبون العلماء، وعنهم يأخذون الدين ويفهمونه، وهم يعيشون بين الناس، ويغشون المساجد، ويؤمونهم في الصلاة، ويخطبونهم في الجمعات، ويلقون عليهم الدروس، ويفتونهم في مختلف مسائلهم من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وزواج وطلاق… وغيرها من المسائل الفردية التي يلتزم بها المسلمون؛ فكانوا بهذا قادة ومراجع لهم في الدين. والإسلام كذلك قد جعل للعلماء منزلة كبيرة، وأخذ عليهم ميثاق قول الحق ونشره والعمل به وعدم كتمان الحق، والوقوف في أول الصفوف في إحقاق الحق وإبطال الباطل، وهؤلاء يعلمون أن أسوتهم في ذلك رسولهم الكريم وصحابته الكرام الذين قامت على أكتافهم الدولة الإسلامية الأولى. وهناك مفارقة يجب التنبيه عليها، وهي أن العلماء إذا افتُقدوا في عملية التغيير، فإنهم سيكونون في الفسطاط الآخر.

 وهنا يصح القول إن الناس على دين علمائهم، فانسحب الأمر في فهم الدين أن يكون عند الناس كما هو عند العلماء.

ويلاحظ من حيث الواقع اليوم، أن الناس نتيجة انكشاف هؤلاء العلماء وتقصيرهم، وانكشاف فهمهم المنقوص للدين صاروا لا لايرون في هؤلاء العلماء والجماعات الإسلامية بغيتهم، ونزل قدرهم عندهم، وهي تفتش عن علماء غيرهم مخلصين وواعين، وهنا يأتي وقت بروز علماء وحركات يأخذون دور (الرائد الذي لا يكذب أهله)، ويقومون بوراثة النبوة بحق، دور العلماء الذين يقودون ولا يقادون كما حصل في الثورات. ولكن هذا الكلام الذي نقوله بكل وضوح، هو من الصعوبة بمكان من حيث التنفيذ، فإن الغرب ومعه حكام المسلمين العملاء له والخائنين لدينهم وللمسلمين، يمارس عليهم ضغوطه القوية ليزدادوا بعدًا عن فهم الدين الصحيح الذي ندعو إليه، وليزدادوا ارتماء في أحضانه، وللأسف، نرى مزيد تخاذل من بعضهم حتى إنه تخلى عن العمل السياسي باسم الدين. وهنا يظهر الامتحان والابتلاء والتمحيص، وفي هذا المجال نقول بكل اطمئنان إن الأمة مليئة بالأكارم الفضلاء من أهل العلم، وما عليهم إلا أن يتقدموا الصفوف فالأمة تنتظرهم، وإن من لا يستحقون الهداية من هؤلاء؛ فإنهم سيزدادون ارتكاسًا.   

أما من أين جاء هذا الفهم المنقوص للدين، فهو لا شك من مناهج التعليم التي فرضها الغرب على المسلمين، ومِن جعل معاهدهم تقوم بناءً عليها… أما كيف فرضها الغرب على هؤلاء العلماء؛ فقد جعل الغرب وزارات للشؤون الدينية ودوائر للأوقاف، وجعلها تشرف على حسن التزام المعاهد الشرعية بمناهجه التعليمية التي وضعها، وأعطى المتخرجين ألقاب العالـِمية، وقرَّب من كان أكثر ولاء لفكره وخضوعًا لسياسته التعليمية؛ فعيَّنهم في مناصب الإفتاء، وأعطى بعضهم ألقابًا منتفشة كمجتهد العصر، أو عينهم أعضاء في هيئة كبار العلماء، أو عينهم في مراكز الإفتاء… وفي هذا كله جعل الغرب للحكام عملية الإشراف على هذه الدوائر والوزارات، وربط توظيف هؤلاء العلماء الذين يتخرجون من هذه المعاهد ومعاشاتهم بدوائر الأوقاف وحرصوا على أن يتقيدوا بما علموه ولا يتعدونه… وللأسف صار العلماء يعتمدون في معيشتهم على هذه الوظيفة، واعتبروها مصدر التكسب والرزق، وهذا ما جعلهم مأسورين منقادين أكثر، لا يخرجون عما تعلموه، إلا من رحمهم الله، وهم قليل… بل ذهب بعضهم مذهبًا بعيدًا حين جعل نفسه تابعًا لجهة سياسية علمانية معينة، ولم يجدوا غضاضة في الاشتراك في الانتخابات النيابية، بحسب قوانين البلد الوضعية وليس بحسب الأحكام الشرعية، ووصل الأمر ببعضهم أن تراهم تابعين لجهات سياسية غير إسلامية.

أما الحركات الإسلامية، فإن العلماء إذا كانوا يؤثرون على المسلمين كأفراد، فإن الحركات والجماعات الإسلامية تؤثر على المسلمين بمجموعهم، وهي متعلقة بالعمل الجماعي، وتهتم بقضايا المسلمين العامة، وهذه الحركات كان من الطبيعي أن تضع برامج لنفسها وتدعو المسلمين إليها، وأن تعتبر نفسها هي المعبِّر الحقيقي عن الروح الجماعية للمسلمين، ويتكلمون بقضاياهم، فعلى سبيل المثال، عندما احتل يهود فلسطين، قامت حركات وجماعات مسلحة وأخرى سياسية لمواجهة حالة الانهزام التي أصيبت بها الأمة؛ إلا أن دعوتها لم تختلف عن دعوة العلماء المنقوصة، وبرامج عملها كجماعات قامت على فصل الدين عن الحياة، وبالتالي عن الدولة؛ ولم يكن في برامج واحدة منها تحرير فلسطين وإقامة حكم الله فيها في الوقت نفسه، بل لم تتعمق هذه الحركات بالتفكير، وتصل إلى نتيجة مؤداها أنه لن يحرر فلسطين إلا الإسلام، نظرًا إلى عمالة الحكام واشتراكهم بطريقة من الطرق في جريمة الاحتلال، وقيامهم بمهمة تصفية أو استيعاب أي عمل إسلامي مخلص واعٍ.

كذلك، قامت حركات وجماعات سياسية تعمل في مختلف بلاد المسلمين، من غير أن يكون لديها أي عمل لتغيير الأنظمة الحاكمة فيها مع أنها تحكم بأنظمة علمانية كافرة، حلَّت بديلًا عن أنظمة الإسلام. بل أكثر من ذلك، فقد تدنَّت هذه الجماعات في طرحها إلى درجة أنها أجازت لنفسها المطالبة بالمشاركة فيها في الحكم بالكفر، ثم لو جئت إلى برامج عملها فإنك تجد المسوغات التي يدَّعون أنها شرعية، والتي تسوِّغ للمسلمين أن يأخذوا بأحكام الكفر إذا وجدوا أنها تحقق مصلحتهم؛ بدعوى (الحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها كان أحق الناس بها) و(حيثما تكن المصلحة، فثمَّ شرع الله) و(لا ينكر تغير الأحكام بتغير المكان أو الزمان)… ومن أقوالهم في هذا المجال أن 90% من الأحكام الشرعية هي عفو، مسكوت عنها في الشرع، ويمكن أخذها من خارجه. ونحن لو تمعنا بهذا لوجدنا أن ما يقوله هؤلاء إن هو إلا شكل من أشكال فصل الدين عن الحياة وعن الدولة. فالإسلام لا يتناول عندهم على سبيل الإلزام إلا 10% من أحكام الحياة، وبالتدقيق تتناول هذه الـ 10% أحكام الأحوال الشخصية التي يسمح الغرب بتركها خارج أنظمة الحياة العامة. ولو أخذنا، مثلًا، السلفيين في السعودية؛ فإنهم قد تواطؤوا مع حكامها على أن السياسة لهم، والفتوى بأحكام الدين للعلماء بزعامة آل الشيخ. وهذه الدعوى واضح فيها ومن غير تلبيس فيه أن السياسة غير الدين، وهما مجالان مختلفان غير متداخلين، ولكل منهما أهله. والعلماء، في تلك القسمة الضيزى، ينظرون إلى حكام السعودية على أنهم أولياء أمور المسلمين، تجب طاعتهم ولا يجوز الخروج عليهم…

وهكذا نجد أن الغرب استطاع أن يبعد الإسلام عن أذهان المسلمين، حتى تمكن من إقصائه عن الحكم… ووجدنا أن أكبر معوان له في مسعاه هذا كان وما زال هم العلماء، إلا من رحم الله، والجماعات الإسلامية، إلا من رحم الله.

إن الدعوة الحقة يجب أن تقوم أول ما تقوم على الدعوة إلى العبودية لله وحده، وعلى أن هذه العبودية هي شاملة لكل أعمال المسلم في هذه الحياة، ويجب أن تقوم على الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية من أجل تحقيق هذه  العبودية، سواء داخل الدولة بتطبيق الإسلام كله، أم خارجه وذلك بالدعوة والجهاد.

ومن أجل الوصول إلى إقامة الدولة الإسلامية، لا بد من اتباع طريقة الرسول في إقامة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة، كونها هي التي تحقق العبودية بالشكل المطلوب شرعًا. ولما كانت طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم على دعوة المسلمين؛ لإيجاد كتلة تؤسس نفسها على إقامة الدين بإقامة دولة الخلافة التي تحكم بما أنزل الله، فيجب على هذه الكتلة أن تؤسس دعوتها على أن الدولة الإسلامية التي تسعى إليها إنما هي من أجل تحقيق هذه العبودية… ولما كانت طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم تقوم على إيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام والمطالب بالدولة الإسلامية فإنما يجب أن تتم الدعوة إلى ذلك من زاوية تحقيق العبودية لله وحده في كل شؤون الحياة.

وحتى يحقق هذا التكتل هدفه في إقامة الدولة الإسلامية يجب أن يسعى مسعاه الشرعي لإقامتها، وحتى ينجح هذا التكتل في إيجاد الوعي العام على وجوب إقامة الدولة الإسلامية كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم… يجب أن تهتم الدعوة كثيرًا بطبقة العلماء حتى تنجح في تحقيق كل ذلك. فهؤلاء العلماء كانوا من حيث لا يدرون حجر عثرة في طريق إقامة الدولة الإسلامية؛ حيث إنهم كانوا وما زالوا عندما يسألون عن وجوب إقامتها فإن جوابهم سلبي… وهم عندما قامت الثورات لم يكونوا فاعلين ولا موجهين، بل كانوا تابعين يقادون بدل أن يقودوا؛ وعليه، لا بد من أن تطلق الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية من زاوية تحقيق العبودية الشاملة لله وحده، ويجب أن تطلق الدعوة بين العلماء لتنبيههم على خطورة اقتصارهم في الدعوة إلى العبودية الناقصة؛ وذلك بالدعوة إلى بعض الإسلام، وليس كله. وكذلك يجب تنبيه الجماعات الإسلامية على خطورة اقتصار دعوتهم على بعض الإسلام، وعلى قبولهم المشاركة في أنظمة الحكم الطاغوتية، أو قبولهم التعامل مع هذه الأنظمة واعتبار حكامها أولياء أمور… إن مثل هذه الأفهام تميِّع الدين، وتعرقل الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله، كما هو حاصل اليوم.

إن إطلاق هذه الدعوة في العلماء والجماعات الإسلامية يجب أن تكون برفق، لأن الأصل في هؤلاء العلماء أنهم من أهل الإسلام، ومن الغيورين على دينهم، ويتوقع أن يستجيب الكثير الكثير منهم؛ فهؤلاء هم قادة رأي، ولا بد من أن يكونوا مع الدعوة الحقة، وهؤلاء يمكن أن يكونوا من صلب الكتلة، ومن المؤثرين في إيجاد الرأي العام المطلوب.

أما إطلاق الدعوة في الجماعات الإسلامية التي يؤثر عملها على جموع المسلمين، فهذا يجب أن يتوزع نشاطه بين القائمين على هذه الجماعات، وبين أعضائها؛ لأنه في حال لم يستجب المسؤولين، فلا بد أن يكون هناك من يستجيب من الأعضاء.

وعلى الله قصد السبيل. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *