العدد 370 -

السنة الثانية والثلاثون، ذو القعدة 1438هـ، الموافق آب 2017م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)) (البقرة).

يبين الله سبحانه في هذه الآيات عددًا من الأحكام الشرعية في نفس السياق الذي ذكرناه سابقًا:

  1. إن الجهاد فرض، وفي هذه الآية دلالة على ذلك بالإضافة للأدلة المستفيضة في موضوع الجهاد.

أما دلالة هذه الآية فهي آتية من:

أ. ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ) وهذا أمر من الله سبحانه للمسلمين بالقتال، فهو طلب بالقتال.

ب. وذكر ( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ ) قرينة على أن الطلب جازم وأنَّه فرض؛ وذلك لأن (الكره) يعني (المشقة) والطلب مع المشقة دليل جزم في الطلب، وإلا لما كان في ذكر المشقة دلالة؛ لأن المكلف إن لم يكن الطلب جازمًا يستطيع أن لا يقوم بالفعل وبالتالي يتفادى المشقة، أي لا يكون لذكرها دلالة.

وحيث قد اقترن ذكر المشقة مع طلب الفعل فهذا يعني قرينة على الجزم، وأن الطلب جازم فيكون فرضًا كما هو مبين في الأصول.

ثم يبين الله سبحانه أن النفس البشرية قد تكره ما يثقل عليها وهو عظيم الأجر فتتأثر بالواقع الآني أكثر من تأثرها بما يترتب عليه آجلًا، وبالتالي قد تحب ما خفّ عليها وهو يحمل شرًا في آجله.

ويكون المعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من مشقة وهو خير لكم؛ فهو طريق النصر والعزة ونشر الإسلام، وهو طريق الحسنيين، النصر أو الشهادة. وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم؛ فهو السبيل إلى الذلّ والمهانة وتجرؤ العدو عليكم والطمع فيكم.

فإن تركتم الأمر لهواكم ضللتم، وإن اتبعتم فرض الله فزتم، والله سبحانه هو علام الغيوب ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ).

  1. وفي الآية الثانية جـواب عن سؤال: هل يجوز القتال في الشهر الحرام؟ فيبين الله سبحانه أن القتال في الشهر الحرام إثمه كبير؛ ولكن الأكبر منه إثمًا هو ما صنعه المشركون من كفر بالله وصدّ عن سبيله وعن المسجد الحرام، وكذلك إخراج الرسول صلى الله عليه وسلموالمؤمنين منه، والوسع الذي بذله المشركون لفتنة المؤمنين عن دينهم، كلّ ذلك أكبر إثمًا وأعظم وزرًا من القتال في الشهر الحرام.

ثم إن الله سبحانه يبين في الآية الكريمة أن الكفار لن يتركوا قتال المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا، وهم لن يستطيعوا بإذن الله.

ويختم الله سبحانه الآية بأن الذي يرتد عن دينه ويموت على ذلك، فإن عمله قد حبط في الدنيا والآخرة وهو من أصحاب النار خالدًا مخلدًا فيها.

( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ ) أي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام فـ( قِتَالٍ فِيهِ ۖ ) بدل اشتمال من الشهر الحرام.

أما السائلون فهم وفد من كفار قريش، كما روى الزهري عن عروة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: «أيحل القتال في الشهر الحرام» وذلك تعقيبًا على سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عبد الله بن جحش رضي الله عنه في سرية إلى (نخلة) فقال: كن حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش، ولم يأمره بقتال على نحو ما رواه ابن إسحاق والبيهقي وغيرهما من طريق زيد بن رومان عن عروة بن الزبير – رضي الله عنهما – “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث عبد الله بن جحش رضي الله عنه ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وذلك في رجب – الشهر الحرام – ولم يأمره بقتال، وكتب له كتابًا قبل أن يعلمه أين يسير، فقال: اخرج أنت وأصحابك، حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك وانظر فيه، فما أمرتك به فامضِ له، ولا تستكره أحدًا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه “أن امضِ حتى تنزل نخلة، فأتنا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم” ونفذ عبد الله بن جحش أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما نزل نخلة مرّ بهم عمرو بن الحضرمي في بضعة نفرٍ ومعهم عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وتجارةً، فاعترضهم المسلمون وقتلوا عمرًا بن الحضرمي وأسروا اثنين معه، وكان ذلك في آخر يوم من رجب، وقدموا بالعير والأسيرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام. وأوقف رسول الله الأسيرين والبعير ولم يأخذ منها شيئًا. وعندها سقط في أيديهم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنَّفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش حين بلغهم أمر هؤلاء: قد سفك محمد صلى الله عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال واستحل الشهر الحرام، فنزلت الآية الكريمة”.

وفي رواية الزهري عن عروة أن وفدًا من كفار قريش بعد أن بلغتهم تلك الحادثة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيحل القتال في الشهر الحرام؟” تعييرًا للمسلمين بما فعلوه، فنزلت الآية الكريمة.

وبعد نزول الآية الكريمة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير وقبل فداء الأسيرين.

وفي روايات أن اعتراض العير والقتل كان في أول يوم من رجب، وأنَّ السرية أرسلت في جمادى الثانية، وحيث كان ذلك فلا يغير من سبب النزول حيث إنه في الحالتين قد وقعت الحادثة في رجب أوله وآخره، وهو شهر حرام.

  1. يتبين من الآية الكريمة أن القتال في الشهر الحرام محرم وإثمه كبير (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ () ولكن الله سبحانه يبين لكفار قريش أن ما فعلوه من كفر بالله وصدّ عن سبيله والمسجد الحرام وإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولات المشركين التي بذلوا فيها الجهد الجهيد لفتنة المسلمين كلّ ذلك أكبر عند الله، ولذلك فإن على المشركين قبل أن ينكروا على المسلمين القتال في الشهر الحرام أن ينظروا إلى ما اقترفوه من جرائم     في حق الله ورسوله والمؤمنين والحرم، عندها سيجدون رجحان جرائمهم بالكثير الكثير عن القتال في الشهر الحرام.

( وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ )

أي أن كفار قريش يحتجون على القتال في الشهر الحرام، ولا يحتجون على ما فعلوه من جرائم تفوق القتل في الشهر الحرام.

( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) معطوف على ( سَبِيلِ اللَّهِ ) وليس معطوفًا على المجرور في ( بِهِ ) لأن العطف على الضمير المجرور مرجوح ما دام حرف الجرّ لم يكرر، فلا تقول (مررت به وزيد) ولكن تقول (مررت به وبزيد) هذا من وجه، ومن وجه آخر فإن دلالة المعنى أرجح في جعله معطوفًا على ( سَبِيلِ اللَّهِ ) فيكون المعنى بهذا العطف: وصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام أي وصدّ عن المسجد الحرام، وهذه أرجح في الدلالة من العطف على الضمير؛ لأن المعنى عندها يكون: وصدّ عن سبيل الله وكفر بالله وكفر بالمسجد الحرام، فنسبة الكفر إلى المسجد الحرام مرجوحة بالنسبة للصدّ عن المسجد الحرام.

وهكذا فإنَّ في الآية دليلًا على أنَّ القتال في الشهر الحرام حرام، ولكن ما فعلوه من كفر وصدّ وفتنة أكبر إثمًا وأفظع جرمًا.

ولقد ودى الرسول صلى الله عليه وسلم دم ابن الحضرمي فأعطى ديته لورثته؛ لأن قتله تمّ في الشهر الحرام الذي لا يصحّ بدء القتال فيه، وبقي القتال في الشهر الحرام حرامًا إلى أن نسخ ذلك كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله.

  1. يبين الله سبحانه شدة عداوة الكفار للمسلمين؛ فهم لن يتركوا قتالهم حتى يردوهم عن دينهم إنْ استطاعوا، ثم يبين الله مصير أولئك الذين يرتدون عن دينهم من المسلمين ويموتون على ذلك، فأعمالهم حابطة وإثمهم عظيم وهم مخلدون في نار جهنم.

( حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ ) حتى هنا للتعليل أي يقاتلونكم لكي يردوكم عن دينكم.

( إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ ) استبعادًا لاستطاعتهم كقولك لعدوك: (إن ظفرت بي فلا تبقِ علي) وأنت واثق بأنه لا يظفر بك.

وفي هذا دلالة على أن الكفار مهما صنعوا من مكائد ومؤامرات وحروب لن ينجحوا في ردّ المسلمين عن دينهم، كما فيه دلالة كذلك على عظم عداوة الكفار للمسلمين.

( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ).

في هذه الآية بيان حال الذي يرتدّ ويموت على الكفر، فهذا في حقه أمران:

أ. يحبط عمله، فما عمله قبل ردته كأنه لم يُعمل، أي لو كان قد حجّ قبل الردة فإن حجه باطل.

ب. إنَّه يخلد في نار جهنم لأنه مات كافرًا.

ولا يقال هنا إنَّ الله سبحانه جعل الوفاة على الردة قيدًا لحبوط الأعمال لأنَّ الآية ليست (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) لو كان كذلك لكان الموت على الردة هو الذي يؤدي إلى أن يحبط العمل، ولكن الآية أضافت ( وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي أنها رتبت أمرين على أمرين:

= (أن يرتد  ويموت على الردة) رُتِّبَ عليه (أن يحبط عمله  ويخلد في نار جهنم).

= أما إن ارتد فقط قبل أن يموت على ذلك؛ فإن الله سبحانه قد بيّن حاله في آيات أخرى:

( وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) المائدة/آية5 ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) الزمر/آية65. ومعنى ذلك أن من ارتد فقط حبط عمله، فإن حجّ قبل ردته ثم عاد للإسلام عليه أن يحج من جديد.

أما إن ارتد ومات على الارتداد فقد حبط عمله وتَخَلَّدَ في نار جهنم.

  1. 5. قد وردت روايات في نسخ هذه الآية أو عدم نسخها، والراجح أن هذه الآية (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ ) منسوخة بما ورد في سورة التوبة.

فقد نزلت هذه الآية في أوائل الهجرة للمدينة وقبل معركة بدر، واستمر القتال في الشهر الحرام محرمًا إلا في حالتين:

أ. أن يبدأ الكفار بالقتال فيه؛ وذلك من الآية (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ ) البقرة/آية194، وقد بينا معنى هذه الآية فيما سبق.

ب. أن يكون القتال قد بدأ في غير الشهر الحرام ولم ينته قبل دخول الشهر الحرام، فيجوز استمراره في الشهر الحرام إن تطلبت السياسة الحربية ذلك.

ودليله محاصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائف بعد فتح مكة ومعركة حنين حيث انحازت ثقيف إلى الطائف وتحصنت فيها، فحاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل الشهر الحرام والحصار مستمر.

وقد بينا ذلك عند تفسير الآية السابقة (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ ) البقرة/آية194.

أما في غير هاتين الحالتين، فإن البدء بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم كان محرمًا بنصّ الآيتين: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ ) البقرة/آية191 (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ ).

ولقد استمر ذلك إلى أن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة التوبة، وبعدها أصبح القتال جائزًا في الحرم وفي الشهر الحرام ما دامت السياسة الحربية تقتضي ذلك.

أما الدليل فهو على النحو التالي: (بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)) التوبة/آية1-2.

فقد أُمهِل المشـركـون بموجـبها أربعة أشهر دون أن يقاتلوا، أي أنهم آمنون خلال هذه الأشـهـر الأربعـة، والتقيد بهذه الأشـهـر يعني أن قتلهم جائز بعد انسلاخ هذه الأشهر الأربعة كما قال سبحانه: ( فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة/آية5 … والأشـهـر الحـرم هنـا ليست الأشهر الحرم من كلّ سنة، بل انقضاء المهلة التي حددت لهم أي الأشهر الأربعة التي ذكرت في الآية السابقة، والدليل على أنها هي أنهم أمهلوا أربعة أشـهـر وليس في شهور السنة أربعة أشـهـر حرم متتالية، ولذلك فالمقصود هنا الأربعة أشهر (المهلة) سواء أكانت (شوال وذا القعدة وذا الحجة والمحرم) كما في بعض الروايات، أم (ذا القعدة وذا الحجة والمحـرم وصـفـر) أو أي ترتـيـب آخـر، فهي ليست الأشهر المعروفة من السنة وهي التي ثـلاثـة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، فهي غير متصلة، أي ليست أربعة متتالية. وبالتالي يكون المعنى: (إذا انتهت المهلة التي حددت بأربعة أشهر، فإذا انتهت فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) وهذا يعني أن قتالهم يصبح جائزًا في كل زمان ومكان بعد انقضاء تلك المهلة.

أما في كل زمان فآت من أن القيد بالمهلة كان زمنيًا ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) فإذا انتهى ذلك القيد بانتهاء المدة الزمنية لك ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) يصبح قتالهم جائزًا في كلّ زمان، بعد انتهاء ذلك القيد الزمني في الآية.

وأما في كلّ مكان فإن ( حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) تفيد المكان، وبالتالي فبعد انتهاء المهلة يقاتل المشركون في كلّ مكان.

( حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) أي في أي مكان وجدتموهم فيه.

أما القول بأن (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ ) البقرة/آية191 خاص في الحرم وأن ( َسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ ﭹ ) خاص في الشهر الحرام.

وأن ( فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة/آية5 عام في الأمكنة والأزمنة، وأن العام لا ينسخ الخاص.

فهذا صحيح إن كانت دلالة العام ظنية ودلالة الخاص قطعية، ولكن هنا دلالة العام كذلك قطعية: في الأمكنة ( حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) أي في كلّ مكان وجدتموهم فيه، وقطعية في الأزمنة ( فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) أي بعد انتهاء المهلة كما بيناها سابقًا وهي الأربعة أشهر، فاقتلوهم في كل زمان لأن (تحديد مهلة يمنع القتال فيها) يعني (جواز القتال بعدها) لأن هذا هو مفهوم الآية، أي أن الدلالتين للعام والخاص قطعيتان متعارضتان، فإذا علم أن الخاص هو المتقدم، والعام هو المتأخر، فلا يتأتى أن يقال إن النص السابق مخصص لنص عام لم ينزل قبله أو وقته، بل لم يكن نازلًا ونزل فيما بعد، فلم يبقَ إلا أن يقـال إن العام ما دام متأخرًا عن الخاص، وهو قطـعـي الدلالة، فإنه ينسخ الخاص السابق نزوله عليه، ولذلك فالقول بالنسخ هو الصحيح الراجح.

وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنَّه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه. فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. قال: إلا الإذخر».

فإن هذا الحديث قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، أي قبل آية التوبة التي نزلت في السنة التاسعة للهجرة، فلا يؤثر هذا في العمل بآية التوبة الناسخة المحكمة كما بينا.

ثم إن الحديث يحمل على أن مكة بعد فتحها أصبحت دار إسلام وانتهى الشرك وسلطانه فيها؛ فأصبح يحرم القتال فيها بهذا الاعتبار على نحو قوله صلى الله عليه وسلم عند فتح مكة: «لا هجـرة بعـد الفتح» حيث إن مكة بعـد الفتح أصبحت دار إسلام، فهي والمدينة سواء، فلا هجرة من مكة إلى المدينة بعد الفتح، فإذا تغير واقع مكة فلم تعد دار إسلام ثم أقيمت الخلافة بإذن الله في مكان غير مكة فتعود الهجرة من مكة إلى دار الإسلام كما كانت من قبل.

وهي هنا كذلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم القتال في مكة بعد الفتح حيث قد أصبحت دار إسلام وأصبح أهلها مسلمين، والحديث على هذا الاعتبار يحرم مكة إلى يوم القيامة. فإذا تغير واقع مكة فلم تعد دار إسلام ولا عاد أهلها مسلمين فإن حديث تحريم القتال فيها لا ينطبق حينئذ لاختلاف واقع تطبيق الحديث.

والآية ليست في موضوع حرمة مكة كدار إسلام وأهلها مسلمون، فهي حرام بهذا الاعتبار، ولكن الموضوع في قتال المشركين في الحرم وفي الشهر الحرام، فلا تعارض بين الآية والحديث من حيث نسخ آية التوبة لآية البقرة كما سبق بيانه.

  1. إلا أن قتال المشركين الذي أحله الله في الحرم وفي الشهر الحرام قد قيد بمفهوم الشرط في الآية المذكورة (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) )التوبة/آية5.

أ. أي أن القتال الجائز هو ما كان لإدخال الناس في الإسلام وإعلاء كلمة الله؛ لأن ( فَإِن تَابُوا ) في الآية أي تركوا الكفر ( وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ) أي دخلوا الإسلام من باب إطلاق الجزء للدلالة على الكل ( فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ ) أي لا تقاتلوهم، ولأن مفهوم المخالفة للشرط معمول به؛ فإن هذا يعني أنهم يقاتلون إن لم يتوبوا ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، أي بقوا على كفرهم ولم يدخلوا الإسلام، سواء أكانوا كفارًا ابتداءً، أم مسلمين ارتدوا وأصبحوا كفارًا.

وعليه فإن القتال لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله صحيح على وجهه في كلّ أشهر السنة، الأشهر الحرم وغير الحرم، هذا من حيث الزمان كما أنه كذلك صحيح في كل مكان حتى في الحرم إن كان واقع إعلاء كلمة الله وإدخال الناس في الإسلام موجودًا في مكة كأن ينتشر الكفر في مكة بالارتداد أو غيره ويسيطر الكفار عليها وتصبح تحت سلطانهم، فإنهم يقاتلون للقضاء عليهم وإعادة مكة لسلطان الإسلام حتى ولو تحصنوا في الحرم وكان الشهر شهرًا حرامًا.

ب. ومن الجدير ذكره أن الدولة الإسلامية تقاتل الكفار والمرتدين المتحصنين في الحرم إن كانوا جماعات ممتنعة بقوتها، أي ينطبق عليها واقع القتال، أما إن كان هؤلاء المتحصنون في الحرم أفرادًا أو جماعات غير ممتنعة بقوتها فإن هؤلاء لا ينطبق واقع القتال معهم، فهم لا يقاتلون بل يعاقبون فيضيق الخليفة الخناق عليهم حتى يستسلموا أو يلقى القبض عليهم.

كل ذلك بخصوص مبادأتنا لقتال الكفار في الحرم أو الشهر الحرام، أما إن قاتلونا أو كانت المعركة مستمرة ودخل الشهر الحرام فالنصوص واضحة في قتالهم كما بينا ذلك سابقًا.

ج. وعلى ذلك فلا تجوز المبادأة بالقتال في الحرم والأشهر الحرم إلا لإدخال الكفار في الإسلام أو القضاء عليهم وصدّ عدوانهم أو قتال المرتدين، وذلك من مفهوم الشرط في الآية الكريمة ( فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ ) التوبة/آية5.

ولا يجوز قتال غير هؤلاء في الحرم أو الشهر الحرام، فيحرم أن يقاتل المسلمون فيه أو يروعوا أو يظلموا؛ فإن ذلك إثم كبير وجريمة عظمى في شرع الله، والعقوبة في الإسلام شديدة – و أكثر شدة من حدوثها في مكان آخر أو شهر آخر:

فانتهاك حرمة الحرم والمسجد الحرام كبيرة وكبيرة في دين الله:

( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحج/آية25.

( نْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ ) التوبة/آية36.

فالحرام حرام في غيرها، وهو فيها أشد حرمةً.

والجريمة جريمة في غيرها، وهي فيها أكبر جرمًا.

والظلم ظلم في غيرها، وهو فيها أظلم وأعظم.

  1. لقد غفر الله سبحانه لعبد الله بن جحش رضي الله عنهوسريته ما فعلوه في تلك الغزوة في الشهر الحرام، وأقام الحجة على كفار قريش في أنهم فعلوا ويفعلون من الكفر والصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ومن الفتنة ما يفوق أضعافًا مضاعفةً ما فعلته تلك السرية.

أما الدليل على مغفرة الله لعبد الله بن جحش رضي الله عنه والرهط الذين كانوا معه فهو:

أ. قوله سبحانه ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).

فهذه الآية نزلت فيهم، وأثنى الله عليهم بما وصفهم به من الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله، وأنهم يرجون في ما فعلوه ويفعلون رحمة الله، ثم ختمها الله سبحانه بالمغفرة والرحمة لهم.

ب. قبول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غنموه من العير والأسيرين بعد أن توقف عن ذلك لإنكاره عليهم القتال في الشهر الحرام حتى نزلت الآية الكريمة، وقبول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غنموه دليل على مغفرة الله لهم عما فعلوه وقبول عملهم.

وقد ختم الله الآية الكريمة بالدلالة على مغفرته سبحانه والثناء عليهم ( أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)  ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *