العدد 366-367 -

السنة الواحدة والثلاثون – رجب / شعبان 1438 هـ – نيسان / أيار 2017 م

مع القرآن الكريم

( سَلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ كَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۢ بَيِّنَةٖۗ وَمَن يُبَدِّلۡ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢١١ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ ٢١٢).

 

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

يتبين من هاتين الآيتين ما يلي:

  1. بعد أن ذكر الله في الآيات السابقة وجوب الدخول في الإسلام كله لمن أراد أن يقـبـل الله إيمـانه فلا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولا يؤمن بالإسلام ويضيف إليه شيئًا ليس منه، وبخاصة بعد أن تأتيه البينات الواضحة والحجج القاطعة على الإيمان بالإسلام كاملًا.

وبعد أن بين الله سبحانه أن من ينحرف ولا يدخل في الإسلام كله بعد مجيء هذه البينات فإن له عذابًا شديدًا.

بعد ذلك بين الله في هذه الآية الكريمة جوابًا لمن يتساءل مستغربًا: كيف يمكن لإنسان أن لا يدخل في الإسلام كله بعد مجيء الآيات الدالة على ذلك؟

وهذا الجواب هو النظر في واقع بني إسرائيل، فلقد جاءتهم الحجج القاطعة بوجوب إيمانهم بموسى – عليه السلام – وما أنزل عليه من كتاب، وبما أنزل الله فيه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوب إيمانهم به، وكلّ ذلك في آيات بينـات جاءهم بها موسـى – عليه السلام – ومع ذلك فقد كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحرفوا وبدلوا في كتبهم كما أملته عليه أهواؤهم، فبدل أن تكون تلك الآيات البينات نعمة عليهم تدفعهم للإيمان والهدى بدلوها فجعلوها طريقًا لكفرهم وضلالهم، ولقد علموا أن من بدل نعمة الله كفرًا فإن عقابه شديد أليم (فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ).

(سَلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ) استفهام للتقريع والتوبيخ على طغيانهم وجحودهم وتركهم الحق بعد وضوح الآيات، وليس استفهامًا لأن يجيبوا فيعلم واقعهم من جوابهم، كما تقول لمخاطب: سل فلانًا كم أنعمت عليه، تريد توبيخ فلان وليس انتظار جوابه.

(كَمۡ ءَاتَيۡنَٰهُم مِّنۡ ءَايَةِۢ) كم خبرية، ولأن مميزها (ءَايَةِۢ) مفصول عنها بفعل متعدٍ فقد وجب الإتيان بـ(مِّنۡ) لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي على نحو قوله تعالى: (كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّٰتٖ وَعُيُونٖ ٢٥)، وقوله تعالى: (وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَرۡيَةِۢ) … فلو لم تذكر (مِّنۡ) وكانت الآية (كم آتيناهم آية) لالتبس موضع (ءَايَةِۢ) هل هو مميز (كَمۡ) أم مفعول (ءَاتَيۡنَٰهُم).

  1. لقد بين الله في الآية الثانية سبب عدم اتباع الكفار للآيات البينات التي تأتيهم وهو تمسكهم بزينة الدنيا وزخرفها، فتصرفهم عن تدبر الآيات ومن ثم الإيمان.

ليس هذا فحسب، بل إنهم ينظرون إلى المؤمنين الذين يتطلعون إلى الآخرة ولا يتعلقون بالدنيا فيسخرون من فقرهم.

ثم بين الله سبحانه أن فقراء المؤمنين هؤلاء الذين يسخر منهم الكفار الذين زينت لهم الدنيا يكونون أعلى شأنًا وأفضل منزلة عند الله يوم القيامة، فهم في جنات النعيم، وأولئك الكفار في جهنم وبئس المصير، فالمؤمنون فوقهم في الدرجات لأنهم في جنة عالية، والكفار في نار هاوية.

أما الرزق في الدنيا فالله يؤتيه من يشاء كافرًا كان أو مؤمنًا، دون أن يحاسبه أحد على ذلك بل لحكمة من الله يستدرج الكفار بالتوسعة عليهم ليزدادوا إثمًا، ويبتلي المؤمنين إن قدر عليهم رزقه ليزدادوا بذلك أجرًا: (وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ).

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا) التزيين للدنيا أي جعلها حلوة محببة للذين كفروا يتشبثون بها ويتنعمون فيها، إما بتوسعة الرزق عليهم من الله سبحانه، أو بوسوسة الشيطان لهم بالتمتع فيها والإغراق في الشهوات واللذات.

أما الأول فيكون المزين لهم هو الله سبحانه لاستدراجهم على نحو قوله سبحانه (وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ١٧٨).

وأما الثاني فيكون المزين هو الشيطان بوسوسته كما ذكرنا على نحو قوله سبحانه عن فعل إبليس – لعنه الله – (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَأُغۡوِيَنَّهُمۡ).

والراجح فيها أن تزيين الدنيا للكفار هو بتوسعة الرزق عليهم لاستدراجهم فالأمر متعلق بالزرق بقرينة آخر الآية (وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ).

(وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ) أي يستهزئون بهم لفقرهم وإعراضهم عن الدنيا وإقبالهم على الآخرة.

(وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ) أي فوقهم لأنهم في عليين والذين كفروا في أسفل سافلين.

وقد رويت روايات فيمن هم الذين يسخرون وممن يسخرون، أهُمْ رؤساء الكفر في مكة يسخرون من فقراء المؤمنين، أم يهود في المدينة من فقراء المهاجرين، أو غيرهم، وإن كان الأرجح أنها في اليهود لأن موضوع الآية السابقة فيهم، إلا أن العبرة ليست بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، واللفظ عام يشمل الكفار المتصفين بتلك الصفات والذين يتصرفون تلك التصرفات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *