العدد 364 -

السنة الواحدة والثلاثين العدد 364 -جمادى الأولى 1438هـ – شباط 2017م

خيريةُ الأمةِ الإسلاميةِ وشهادتها على الناس… تشريفٌ وتكليف (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

خيريةُ الأمةِ الإسلاميةِ وشهادتها على

الناس… تشريفٌ وتكليف (2)

 

ذكرنا في العدد السابق طائفة من النصوص التي تدل على التفاضل بين الأمكنة والأزمنة وفئات وطوائف من الأمة بعضها على بعض، ولا تدل على انتفاء خيرية الأمة وشهادتها على الناس في وقت أو مكان أو لدى جيل معين.

ولكن بالمقابل، فإن ثبات صفتي الخيرية والشهادة على الناس للأمة الإسلامية، لا يعني انتفاء محاسبتها على تقصيرها فيما أوكلها الله تعالى به من فرائض الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي وإن كانت كذلك، فإنها محاسبة على تقصيرها فيما كُلِّفت به، فعن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم». [رواه الترمذي وقال حديث حسن].

     ولذلك فإن ما أصاب الأمة من نكوص وتقصير وتنكب عن مركزها اللائق بها، حتى صارت تبعًا للكافر المستعمر يصول ويجول في بلادها طولًا وعرضًا، لا ينفي تحملها وِزرَ ما أصابها ومحاسبتها عليه يوم القيامة، والذي أردنا بيانه هنا هو التفريق بين كون الأمة الإسلامية خير الأمم وشاهدة عدل عليها، وكون هذه الصفة ثابتة مستمرة لها حتى تقوم الساعة من جهة، وكون الأمة محاسبة على تقصيرها فيما فرضه الله عليها، أي أنها وإن كانت خير أمة أخرجت للناس؛ إلا أنها مسؤولة عن كل تقصير يعتريها يترك آثارًا على سلوكها في معترك الحياة من جهة أخرى.

     وتبقى ههنا مسألة: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ رسالة الإسلام فرض عين على آحاد الأمة أم فرض كفاية؟

      يقول ابن عاشور، رحمه الله: «ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمّة، لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة، فمن التغيير على الأهل والولد، إلى التغيير على جميع أهل البلد، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمّة أوجب فضيلة لجميع الأمّة لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها…» انتهى. ومعنى كلامه، رحمه الله، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، غير أنه يجب أن يُعلم أن فرض الكفاية أكثر خطرًا وأبلغ أثرًا على المــكلف من فرض العين؛ خصوصًا عندما يكون هذا الفرض معطلًا أو غير مستوفٍ. ألا ترى أن أهل البلد كلهم آثمون إن كان بينهم ميت لا يجد طائفة منهم تشتغل في تجهيزه؟ وماذا عن بلاد المسلمين الواقعة تحت سيطرة واغتصاب الكفار في فلسطين وكشمير وتركستان الشرقية وغيرها من بلاد المسلمين؟ وماذا عن تاج الفروض – الخلافة – الذي مازال يتيمًا لا يجد من يتعهده إلا فتيةٌ آمنوا بربهم واستقاموا على طريقة رسول الله – عليه الصلاة والسلام – يلتمسون تأييد الله لهم بأن يُعجل النصر على أيديهم؟ وهكذا فلا يجوز أن ننظر إلى فرض الكفاية على أنه فرض فيه تخفيف يركن إليه الباحثون عن الدعة، بل على العكس تمامًا، يجب أن يكون باعثًا على مسارعة المسلمين إلى إسقاطه عن كاهلهم؛ وذلك بالمباشرة بالقيام بأدائه حتى يُقام، فإذا أُقيم سقط الإثم عمَّن قام به وعمَّن تخلف عن القيام به، وإن لم يقم الفرض سقط الإثم عمَّن تلبَّس به، دون أن يتعداهم إلى القاعدين التاركين لهذا الفرض.

      والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما أن يكون خطابًا متعلقًا بالمسلم كفرد، وإما أن يكون متعلقًا بفئة من الأمة أو جماعة أُحب تسميتها هنا بالحزب السياسي، وإما أن يكون متعلقًا بالدولة الإسلامية دولة الخلافة.

       وبناء عليه، فإن المسلم حتى يكون محاسبًا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإثابة عليه إن قام به، وبالإثم والعقاب إن تركه أو قصر به؛ فإنه يلزم منه شروط متعلقة بالمسلم كفرد من حيث تكليفه به، وشروط متعلقة بالجماعة أو الحزب السياسي القائم على حس الأمة المتبني لمصالحها، وأخرى متعلقة بالدولة الإسلامية المكلفة بتطبيق أحكام الإسلام في معترك الحياة.

       أما ما كان متعلقًا بالفرد؛ فيُشترط فيه قدرة المسلم واستطاعته على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان قادرًا وجب عليه الأمر، وإلا فهو غير مكلف، قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ) وعَنْ أَبي سعيدٍ الخُدريِّ – رَضِي اللهُ عَنْه – قالَ: سَمِعتُ رسولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم –  يقولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ». [رواه مسلِمٌ]. وكذلك  يُشترط في المسلم استيفاؤه للعلم وحصوله على الثقافة الإسلامية التي تؤهله إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أن يكون على بينةٍ من الأمر الذي سيأمر الناس به والمنكر الذي سينهى الناس عنه، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤولًا).

         أما ما كان متعلقًا بالجماعة الإسلامية أو الحزب السياسي،  فقد قال تعالى: (وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ). ففي الآية أمر دال على الوجوب بوجود جماعة إسلامية أو حزب سياسي يباشر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أكانت الدولة الإسلامية قائمة أم غير قائمة. فإن كانت قائمة؛ فدور الجماعة أو الحزب يتمحور حول تثبيت أفكار الإسلام في المجتمع الإسلامي، ومراقبة سلوك الدولة بتعزيزه إن كان كما يحب الله ويرضى، ومحاسبة الحكام على تقصيرهم إن قصروا، بل والعمل على تغييرهم بإثارة الأمة عليهم إن بدا منهم كفرًا بواحًا. وأما إن كانت الدولة الإسلامية – الخلافة – غير قائمة؛ فإن الوزر الأكبر يقع على عاتق الحزب والجماعة، لأنهم هم الذين يتلبسون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإيجاد الإسلام في معترك الحياة واستئناف الحياة الإسلامية، أي هم الذين يباشرون أعمال حمل الدعوة الإسلامية، ويخوضون غمار الصراع الفكري والكفاح السياسي وطلب النصرة مع ما فيها من مشاقٍّ وعقبات من أجل استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة. وهذا في حد ذاته من أهم أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

            وأما ما كان متعلقًا بالدولة الإسلامية، فإن وجود الدولة كفيل بإيجاد الطمأنينة في المجتمع، وهي – أي الدولة – تعمل على منع المنكرات من أن تشيع في المجتمع عبر سلطاتها القضائية والتنفيذية، فحكم الله فيه الخير والبركة، والعدل والسكينة؛ فلا فساد ولا فقر ولا كساد، والأجواء إيمانية، وأبواب المنكرات موصدة، وشياطين الجن والإنس موثقة، فإن ظهر منكر استطاع الأفراد منعه والأخذ على يد صاحبه؛ فقد فعلوا الخير وأسقطوا عنهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما إن اتسع الخرق عليهم وخرج عن سيطرتهم؛ كانت الدولة بعدالتها وسلطاتها لهذا المنكر بالمرصاد، وبين الفرد المسلم والدولة يدور الحزب السياسي مع كتاب الله حيث دار، يثبت الأمة على دينها، ويحرس عقيدتها من أن تنفذ إليها أفكار كفر وافدة من هنا أو هناك، ويوازي الحكام كظلِّهم بإعانتهم وتقديم النصح لهم، ومحاسبتهم على تقصيرهم إن بدا منهم تفريط وتقصير؛ وبذلك تتضافر الجهود وتتكامل في تفعيل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل وجه، الفرد وتقواه، والحزب السياسي وأثره، والدولة وسلطانها. كلٌّ في موضعه، يقوم بدوره بتجانس مستمر وتكامل مستقر.

            هذا بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي نص عليه قوله تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ). أما بالنسبة لوسطية الأمة أي شهادتها على الناس الذي نص عليه قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ) فقد قلنا: إنها – أي الأمة الإسلامية – مكلفة بتبليغ رسالة الإسلام إلى الأمم الأخرى على وجه لافت. ومعنى قولنا: «على وجه لافت» أي أن يكون تبليغ رسالة الإسلام فيه سيادة مطلقة لدين الله في الأرض، وظهور لهذا الدين على الدين كله، ودخول للناس في دين الله أفواجًا، قال الله تبارك وتعالى: (وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِۚ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ ٣٩). ومع كون تبليغ رسالة الإسلام أيضًا من فروض الكفايات؛ فإنه يلزم منه اجتماع عناصر ثلاثة، وتكاملها بعضها مع بعض من أجل القيام بهذا الفرض العظيم على وجهه كما يرضي الله سبحانه وتعالى. وهذه العناصر الثلاثة هي:

العنصر الأول: الإسلام، فهو دين الأمة وعقيدتها التي تؤمن بها، ونظامها الذي أنزله الله ليعالج مشاكلها، وهو هويتها التي تميزت بها عن غيرها من الأمم. وهو ،أي الإسلام، عقيدة ونظام حياة، فكرة وطريقة، أي هو مبدأ صحيح وصالح لمعالجة كل مشاكل الحياة، في كل زمان ومكان.

العنصر الثاني: الأمة الإسلامية؛ لأنها الكيان البشري المخاطب بأحكام هذا الدين، فهي محل التكليف وموضع التشريف، فهي المسؤولة عن الإيمان به وتنفيذه وحمله رسالة إنسانية عالمية خالدة إلى الناس كافة.

العنصر الثالث: الدولة الإسلامية دولة الخلافة؛ لأنها طريقة الإسلام في تنفيذ أفكاره وأحكامه وحملها والمحافظة عليها، وهي الجُنَّة التي يُقاتَل من ورائها ويُتقى بها، وظل الله في الأرض الذي يأوي إليه كل مظلوم.

            فهذه العناصر الثلاثة – الإسلام والأمة والخلافة – ضمان لتطبيق الإسلام على الأمة في معترك الحياة، وتبليغه إلى الأمم والشعوب الأخرى، فإيمان الأمة بالمبدأ – الإسلام – وشعورها بعدالته وسلطان الدولة كفيلة بإيجاده في معترك الحياة، هذا داخليًا أي داخل كيان الأمة. وأما خارجيًا؛ فإن الدولة – دولة الخلافة – بأجهزتها وقراراتها الملزمة لكل فرد من أفراد الرعية؛ تضمن حمل رسالة الإسلام وتبليغه إلى الناس كافة بالدعوة والجهاد في سبيل الله، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسُول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله ألا الله وأن مُحمدًا رسُول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى».

      فهذه العناصر الثلاثة كالمثلث الذي يشكل الإسلام قاعدته، والدولة والأمة ضلعيه، كل عنصر لا يقوم بذاته، بل لا بد من اجتماعها واكتمالها لضمان تطبيق الإسلام في معترك الحياة داخليًا، وحمله وتبليغه إلى الناس كافة خارجيًا، وإن أي خلل يطرأ على اجتماع هذه العناصر واكتمالها؛ يلقي بظلاله على تبليغ رسالة الإسلام من عدمه، فكلما كانت هذه العناصر الثلاثة مجتمعة متضافرة؛ كانت الأمة مبلغة رسالة ربها. وكلما تباعدت هذه العناصر بعضها عن بعض – كحال المسلمين اليوم – كانت الأمة مفرطة في تبليغ رسالة ربها.

      أما اليوم، ومنذ هدم الخلافة الإسلامية قبل مئة عام وحتى يومنا هذا، فقد عصفت بالأمة بلايا وفتن ارتكست بالأمة بعيدًا عن مركزها الريادي اللائق بها كخير أمة أخرجت للناس، وشاهدة عدل عليها قبل الإسلام وبعده، أي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يعد مستوفيًا شروطه، سواء ما كان منها متعلقًا بالفرد، أم ما كان متعلقًا بالأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية، وما كان متعلقًا بالدولة الإسلامية، ولعل أبرز ما في الأمر وأبلغه أثرًا ما كان متعلقًا بالدولة؛ لأن غياب الدولة الإسلامية أبعد الإسلام عن موضع التطبيق في معترك الحياة؛ ما أوجد فراغًا سياسيًا عظيمًا لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا، على الرغم من محاولات الكفار وعملائهم من الحكام وأتباع الحكام لاستبدال الرأسمالية بالإسلام، أملًا في إقصاء الإسلام كليًا عن معترك الحياة، بل ومن نفوس أبناء المسلمين إن استطاعوا؛ إلا أن الهوة مازالت قائمة، والخرق آخذ بالتوسع حتى لم يعد بالإمكان ترقيعه.

      لقد أدى غياب الإسلام عن موضع التطبيق إلى انسياح أفكار الكفار في ثقافة الأمة. ولأن تأثير الأفكار على السلوك أمر طبيعي؛ فقد انحرف سلوك المسلمين بعيدًا عن أوامر الله تعالى ونواهيه، حتى صار الفرد المسلم يعيش وسط ظُلماتٍ بعضها فوق بعض، كظُلمات بحر لُجِّيٍّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، بل إن الموازين قد انقلبت؛ حتى صار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والصادق كاذبًا والكذاب صادقًا، وأضحى لا يُسمع إلا نعيق الرويبضات الناعقين على ألحان أسيادهم الكفار – أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا ويهود – وصار الإسلام بعضًا من أحكام اختُزلت في المساجد على غِرار ما صنعوه بالنصرانية تجسيدًا للعلمانية، فدَبَّ الفساد في الأرض حتى ضاقت به الأرض بما رحبت، وصار المسلم المقبل على دينه غريبًا بل عدوًا مطاردًا، وانتشر رعب الملك الجبري في قلوب الناس، فضاقت السجون على نازليها، وارتفعت أعواد المشانق بالرقاب التي أبت أن تنحني لغير الله.

     ونتيجة لهذا كله؛ فقد ضاق الأمر على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، في ظل القبضة الأمنية الكاتمة على أنفاس الناس، حتى قال قائلهم: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله… فتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا ما كان مسموحًا به، متناثرًا مُقيدًا في جانب الأخلاق والعبادات من غير أن يحدث أثرًا على الواقع السياسي، ولم يعد بإمكان الفرد أن يقول، إلا آيةً يرتلها في المحراب، أو آية أخرى يلويها بعيدًا عن حصون الحكام الطواغيت…  أو حديثًا شريفًا لا تغادر أحكامه دورة المياه والحيض والنفاس والسواك.

      أما الجماعات والأحزاب السياسية، فقد تباينت أشكالها وأهدافها ومناهجها في التغيير، تبعًا لطبيعة تكوينها وتأسيسها، فكانت الأحزاب والجماعات على ثلاثة أضراب:

الضرب الأول: أحزاب علمانية أو شيوعية ملحدة من جنس الأنظمة الحاكمة التي لا تحكم بما أنزل الله، منها تشكل الوسط السياسي المحيط بالحاكم، يستوي في ذلك من كان مشاركًا للحاكم في حكمه وظلمه، ومن كان منها معارضًا يصرخ من بعيد على أمل أن يحرز مقعدًا في سدة الحكم، وهذه الأحزاب لم يكن لها بعض نصيب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنها ذاتها كانت ولا تزال المنكر الذي يجب إنكاره.

الضرب الثاني: أحزاب وجماعات إسلامية قامت نتيجة للهزات العنيفة التي ضربت الأمة الإسلامية بعد هدم الخلافة، وهذه الجماعات غلب عليها العاطفة الدينية والهوس المندفع، فلم يكن تكتلها من أول يوم قائمًا على أساس من الوعي على حقيقة التغيير الصحيح، أي لم يتبلور لديها الفهم الشمولي الواضح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلًا عن كونها لم تتبن فكرةً وطريقةً واضحة تستند إلى اجتهاد صحيح أو حتى شبه صحيح، فكان سيرها في معترك العمل الدعوي ضبابيًا، أي كان أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر إما متماشيًا مع ما سمح به الحكام من أوامر الله ونواهيه – الأخلاق والعبادات – وإما موازيًا للوسط السياسي الفاسد المهيمن على مركز اتخاذ القرار، ما أدى إلى وقوع هذه الجماعات في جحر الضب الذي وقع فيه الأولون من العلمانيين، وتركيا أردوغان أصدق مثال على ذلك.

الضرب الثالث: حزب التحرير الذي تأسس عام 1953م، على يد ثلة من علماء الأمة ومفكريها، يتقدمهم العالم الأزهري تقي الدين النبهاني – رحمه الله – فكان هذا الحزب بحق الرائد الذي لا يكذب أهله؛ لأنه هضم الفكر الدعوي هضمًا صحيحًا، فقام على فكرة واضحة، وسار في طريقة شرعية تستند إلى اجتهاد صحيح يستند إلى كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس المعلل الشرعي؛ فكان هذا الحزب آمرًا بالمعروف وناهيًا عن المنكر على وجهه الصحيح، بمفهومه الشمولي المبرئ للذمة، المحقق للغاية المتمثلة في استئناف الحياة الإسلامية، بإقامة دولة الخلافة التي ستعيد الإسلام مطبقًا في معترك الحياة، وتعيد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هيبته الجابرة الزاجرة بإذن الله.

      وكذلك الحال بالنسبة لعناصر المثلث – الإسلام والأمة والخلافة – لم تعد مجتمعة ومتكاملة بعضها مع بعض، وهذا ما أنبأ به النبي – صلوات ربي وسلامه عليه – فعن أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة». [رواه ابن حبان في صحيحه] .

      فالإسلام وإن بقي محفوظًا بحفظ الله له، وسيبقى إلى يوم القيامة بحفظ الله، وإن بقي كذلك حيًّا في صدور رجال نذروا أنفسهم لله ولدين الله؛ إلا أنه غاب كما قلنا عن موضع التطبيق، وما طُبق منه لا يعدو عن كونه أبعاضًا قليلة… والأمة وهي العنصر الثاني، هي الأخرى تناثرت في قومياتٍ ووطنيات تكونت على إيقاع سايكس وبيكو، لم تعد واحدة في وحدة سياسية جامعة لها… وكل ذلك حدث جراء هدم الخلافة الإسلامية، وهي العنصر الثالث.

      إن ما طرأ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أمور أفقدته هيبته في المجتمع عند المسلمين، وما طرأ على العناصر الثلاثة – الإسلام والأمة والخلافة – وإن كان لم يقدح في خيرية الأمة الإسلامية وشهادتها على الناس؛ إلا أنه – وبغصة في الحلق نقولها – أبعد خير أمة أخرجت للناس بعيدًا عن مركزها الحقيقي الذي أراده الله لها، فهل يليق بها أن تبقى عالةً على أمم وشعوبٍ لا تعرف الله ولا تعبده ولا توحده، فضلًا عن أنها تكفر به وتعاديه؟.

      لكنَّ هذه الأمة – والحمد لله – نراها قد أبصرت طريق عزتها، فثارت على حكامها حتى أسقطت منهم طواغيت من العيار الثقيل، ولا تزال هذه الأمة في شام العز عقر دار الإسلام تناوئ وتذبُّ عن دينها وحرماتها، حتى شاب رأس ابن الكافرة أوباما من إخلاص ثورة الشام ووعيها على مخططات الكائدين بها، والثورة مستمرة وأنى لها أن لا تستمر؟ فالأمة إسلامية رغم حدود سايكس بيكو الوهمية، والإسلام حقٌّ مؤيدٌ من الله، حيٌّ في صدور رجال نذروا أنفسهم لإعادته مطبقًا في دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. وحزب التحرير ماضٍ لا يقيل ولا يستقيل، يصل ليله بنهاره، يتقدم الأمة وقد تغلغل في بقاع المعمورة، ثابت الخطى على الفكرة والطريقة، صادق العزم مع الله ومع رسوله الكريم – صلوات ربي وسلامه عليه – وأما الكافر فمهزوم مندحر، شاخت حضارته، وخارت ثقافته، وبارت بضاعته، ولم يبقَ إلا أن يأذن الله بنصره ووعده، فتعود الأمة بخيريتها وشهادتها على الناس كما كانت، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتبلغ رسالة ربها حتى يكون الدين كله لله.

قال تعالى: (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ٥٥).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *