العدد 470 -

السنة التاسعة والثلاثون، ربيع الأول 1447 هـ الموافق أيلول 2025م

الأزمات الخدماتية في العالم الإسلامي

عائشة الزعتري /الأرض المباركة فلسطين.

من المشكلات الملحة التي يعاني منها العالم الإسلامي أزمة توفير الخدمات الأساسية، كالمياه والوقود والكهرباء والبنية التحتية والمرافق العامة والخدمات الصحية وخدمات التعليم وغيرها، والتي تظهر أزماتٍ مستعصيةً يتعسر علاجها!

والملاحظ أنه بالتزامن مع تفاقم هذه الأزمات ووقوف الحكومات عاجزة أو ممتنعة ومقصرة عن حلها، فإن العالم الإسلامي يُعَد مستودعاً عظيماً للثروات والموارد بكافة أنواعها، والتي تتوزع على جميع بلدانه بتفاوت وتنوع، بحيث لا توجد دولة فيه تفتقر إلى الموارد والثروات، ما يجعل وضع هذه الدول تقريباً وضعاً واحداً وعاما؛ معاناة من أزمات خدماتية مع وفرة في الموارد والثروات! ما يجعل هذه المشكلات في الحقيقة غير مستعصية العلاج، وليست أزمات فعلية بحد ذاتها.

بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أن تفشي حدوث الأزمات في التاريخ المعاصر أمر عام يشمل جميع العالم ولا يقتصر على عالمنا الإسلامي فقط، سواء ما يتعلق بالخدمات أو غيرها، وذلك بسبب سيادة المبدأ الرأسمالي على العالم، فالأزمات كما هو معلوم تعد من السمات الملازمة للرأسمالية، والتي تحدث نتيجةً حتمية لسيادة هذا المبدأ، حيث تتولد منه المشكلات والأزمات بكافة أشكالها نتيجةً تلقائية لماهيته الفكرية ونتيجةً لتطبيقه، والحوادث الشاهدة على هذا كثيرة جداً.

بل إن الرأسماليين يعمدون إلى افتعال الأزمات أسلوبًا استعماريا يتبعونه لتحقيق مصالحهم في السياسة والاقتصاد وفي كل المجالات. ففي عالم السياسة مثلاً، ابتدعوا في حقبة معينة ما أسموه بالفوضى الخلاقة، خطةً لتحقيق مصالح سياسية لهم، وتقوم هذه السياسة على افتعال الاضطرابات والنزاعات وزعزعة الأنظمة من أجل إحداث تغيير لصالح نفوذهم في تلك المنطقة، فهذا مثال على أن أصحاب هذا المبدأ يفتعلون المشكلات والأزمات لتحقيق مصالحهم، فهو أمر مشروع وشائع عندهم.

 أما بالنسبة إلى أزمات الخدمات الأساسية، فعلى الرغم من أن توفير الخدمات من سياسة الدولة الداخلية، وأحياناً تكون من سياستها الخارجية مثل مسألة مجاري المياه المشتركة بين بلدين، إلا أن الدول الاستعمارية أخضعتها للقانون الدولي وأناطتها بالمؤسسات والمنظمات الدولية إلى جانب أنها من شؤون الدول الداخلية. فكان هناك المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والمختصة بالغذاء والصحة والتعليم والزراعة وغيرها، وهذه المنظمات لم تقدم يوماً علاجاً فعلياً لأي قضية حول العالم، بل يقتصر عملها على رفع الشعارات الكذّابة والبرامج التي تدعي الإنسانية ظاهراً، وهي في حقيقتها أداة استعمارية أعطيت صلاحية التدخل في شؤون الدول، فهي تنادي بحق الإنسان في التعليم والغذاء والدواء وغير ذلك، وتدّعي الحفاظ على البيئة وتقديم الرعاية الصحية والعلاجية والقضاء على الجوع وسوء التغذية، وإدارة المياه والغابات والصيد، ودعم الدول في توفير الخدمات لشعوبها وغير ذلك الكثير، في حين لا تنجز على أرض الواقع شيئاً، بل جلّ ما تقدمه إعداد التقارير بأوضاع الدول الداخلية ومواردها الاقتصادية، بالإضافة إلى كونها منصة تخريبية أساسية لترويج برامج الاستعمار الفكرية والسياسية لهتك المجتمعات.

وأيضاً من المنظمات الدولية التي لها صلاحية التدخل في الشؤون الاقتصادية الداخلية وفرض قرارات يتوجب على الدول تنفيذها، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث تخضع الدول التي تحصل على قروض منها لشروط قاسية تتعلق بسياستها الداخلية واقتصادها، وهذه الشروط  في حقيقتها تمنع الدولة من علاج أزماتها الاقتصادية بل تعمل على تفاقمها. فمثلاً مصر التي تعدّ أكثر الدول اقتراضاً من صندوق النقد الدولي في المنطقة العربية والإسلامية تعاني أزمة اقتصادية حادة على الرغم من اعتمادها على صندوق النقد الدولي مرجعا أساسيا لحل أزماتها الاقتصادية منذ عقود طويلة، ولكن بدلاً من تحسن الوضع الاقتصادي فيها زادت أزماتها استفحالاً، وذلك نتيجة الشروط التي يفرضها الصندوق عليها مثل: تعويم الجنيه، ورفع الدعم عن الطاقة والسلع الأساسية، وارتفاع الأسعار، وزيادة الضرائب، وخصخصة أصول الدولة وغيرها من شروط أدت إلى تضخم مالي.

ومن جانب آخر وضعت الدول الاستعمارية الاتفاقيات التي تتعلق بالموارد بشكل مباشر، مثل اتفاقيات المياه ومواردها، كالأنهار المشتركة بين الدول والتي تبحث الاستخدام العادل للمياه من قبل الشعوب التي تشترك في هذه المجاري المائية، أم بشكل غير مباشر مثل اتفاقيات المناخ والاحتباس الحراري والاتفاقيات الصناعية وغيرها، وهذه الاتفاقيات تعتبر قرارات مفروضة على الدول في شؤونها الداخلية أو الخارجية، فهي بحكم الأداة الاستعمارية.

إذاً لقد تعدت الدول الكبرى الرأسمالية على الشؤون الداخلية للدول ومنها الخدمات من خلال القانون الدولي ومنظماته واتفاقياته، وكان هذا التعدي تأزيماً للمشكلات وتعقيداً لها، حتى أصبحت جميع دول العالم تعاني في مجال التغذية والصحة والتعليم وغيرها ولكن بتفاوت، وبالنسبة للعالم الإسلامي فدوله هي الأكثر تضرراً في هذا المجال.

 وفيما يخص عالمنا الإسلامي فهناك أسباب جذرية أخرى أدت لهذه الأزمات مثل: سوء رعاية الدول لشؤون الناس، وسوء إدارتها للموارد والثروات، وسوء رعاية الطاقات البشرية من عقول مفكرة وخبراء وأيدي عاملة، وهذا كله بسبب تطبيق أنظمة كفرية بدلاً من نظام الإسلام العادل الذي يوجب على الحاكم رعاية شؤون رعيته جاهداً، وتدبير أمورهم وضمان العيش الكريم لهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حتى أن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب يوم خلافته قال: «لو تعثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها يوم القيامة: لم لم تمهد لها الطريق يا عمر؟».

ومن الأسباب أيضاً تولي الطغاة العملاء الخونة الحكم، وتسليمهم بلاد المسلمين للغرب ينهبون ثرواتها وخيراتها، فأغرقوا المجتمعات بالأزمات لإلهاء الشعوب عن التغيير وعن استعادة سلطان الأمة ولإرضاء أسيادهم المستعمرين.

وإذا فصّلنا في شأن ثروات البلاد الإسلامية ومواردها فنجد أنها كثيرة ومتنوعة، وهي كفيلة بتقديم مستوى عالٍ من الخدمات للناس، يحقق لهم حق العيش بكرامة، ويحفظ لهم حقوقهم في العيش الكريم، ولكن للأسباب السابقة تظهر الأزمات بدلاً من الرخاء والوفرة، وخاصة ثروات باطن الأرض التي يقدّمها الحكام الخونة للمستعمرين لينتفعوا بها ويسيطروا عليها.

ومن الأمثلة على ثروات البلاد الإسلامية الثروة المائية، وبلادنا غنية جداً بها سواء المياه السطحية أو الجوفية، وعلى الرغم من ذلك تعاني من نقص المياه الصالحة للشرب، وهي مشكلة عامة تقريباً، فمصر والسودان مثلاً تعانيان من نقص المياه الصالحة للشرب، وهما مهددتان بتصنيفهما ضمن مناطق الندرة المائية، على الرغم من مرور نهر النيل فيهما! ولكن ظهرت الأزمة بسبب سد النهضة الأثيوبي الذي قلص حصتهما بشكل مجحف، بالإضافة إلى تلوث مياه النيل بالملوثات الكيميائية والزراعية وملوثات الصرف الصحي، والحكومة في كل من البلدين لا تعمل على الوقاية من هذا التلوث أو علاجه عند حدوثه، على الرغم من إمكانية ذلك في حال وجدت الرعاية الحقة والإدارة الحكيمة. ويضاف أيضاً خضوع الدولتين لمخططات المستعمر التي تعمق الأزمة، كالحرب الأهلية في السودان والتي يديرها عملاء أمريكا والتي أدت إلى تضخيم أزمة المياه الصالحة للشرب في السودان.

والعراق كذلك أرض دجلة والفرات تعاني أزمة مياه، بسبب الفساد الإداري في الحكومة، وانخفاض منسوب دجلة والفرات لأسباب أهمها بناء السدود في الجانب التركي.

وحتى البلاد التي تفتقر إلى المياه السطحية فهي غنية جداً بالمياه الجوفية وكثير من بلاد المسلمين تعتمد عليها مثل السعودية والجزائر والأردن وغيرها.

أي إن حدوث أزمة المياه لا يكون سببه إطلاقاً نقص المياه في البلد، فالمياه متوفرة ومعظم البلدان غنية بها سواء السطحية أو الجوفية، وحتى مياه البحار يمكن تأهيلها باستخدام تقنية تحلية مياه البحر للاستخدام في الزراعة مثلاً، ولكن غياب الرعاية وتفشي الفساد الإداري والخضوع للمستعمر ومنظماته واتفاقياته يخلق الأزمات ويفاقم وجودها.

وأما بالنسبة للطاقات البشرية في بلدان العالم الإسلامي فهي طاقات فذة، فمجتمعات المسلمين مجتمعات فتية تقبل على العمل والعلم واكتساب الخبرات، ولكنها طاقات مهدورة لا تجد رعاية من حكوماتها ابتداء من المنظومة التعليمية إلى إيجاد فرص العمل، وهذه الطاقات لو وفرت لها الفرص ونظمت توجهاتها، لوظفت في الإنتاج ولوجد الخبراء والفنيون والمختصون القادرون على توظيف التقدم التكنولوجي والعلمي والصناعي لإيجاد الخدمات وتطوير مستواها.

فمثلاً أزمة النفايات من أبرز الأزمات البيئية التي يعاني منها لبنان، وفي عام ٢٠١٥ حدثت احتجاجات شعبية تطالب بعلاج الأزمة بعدما تفاقمت إلى مستوىً لا يطاق، في حين أن التكنولوجيا الصناعية المتقدمة في العالم تستخدم النفايات لإنتاج الطاقة مثلاً، وهناك دول رائدة في هذا المجال كدولة السويد التي تستورد النفايات من أجل إنتاج الطاقة.

ومثال آخر أزمة الغذاء، فالبلاد الإسلامية مؤهلة للإنتاج الغذائي بمستوى يغطي احتياجات العالم أجمع لو توفرت الرعاية والإدارة للموارد الحيوانية والزراعية، بالإضافة لتوجيه الطاقات البشرية في الإنتاج الزراعي وفي التصنيع الغذائي، ولكن المسلمين اليوم يعانون الفقر والجوع على الرغم من ذلك.

وخلاصة القول إن السبب الحقيقي في الأزمات الخدماتية في بلاد المسلمين هو أنظمة الحكم فيها والخضوع للاستعمار، وعلاجها الجذري يتوقف على إقامة دولة الإسلام، فهي الكفيلة بتحقيق العيش الكريم للناس، حتى في حالة حدوث الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل والجفاف، فإن النظام الاقتصادي الذي ستطبقه سيؤدي حتماً إلى توفير الخدمات بمستوى لائق للإنسان في كل الأحوال.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *