من العجزِ المانعِ إلى القدرةِ الـمُسقِطَةِ للعذرِ:الاستطاعةُ وأثرُها في وجوبِ إعلانِ قيامِ الدّولةِ الإسلاميّةِ وتطبيقِ الشريعةِ. الحلقة الثانية
يومين مضت
المقالات
191 زيارة
ثائر سلامة
هندسةُ المناعةِ: من العقيدةِ إلى الدولةِ:
سردٌ عمليٌّ لتكاملِ ركائزِ الدولةِ الإسلاميةِ في تثبيتِ الأركانِ وردِّ كيدِ الأعداءِ.
ركائزُ قوةِ الدولةِ بين نظرةِ الإسلامِ ونظرياتِ الفكرِ السياسيِّ الإستراتيجي:
يقدِّمُ كبارُ المنظِّرينَ في الفكرِ السياسيِّ الإستراتيجي في العلاقاتِ الدوليةِ (مثلَ هانز مورغنثاو، وكينيث والتز، وريمون آرون، وجوزيف ناي) سبعَ ركائزَ ماديةٍ/مؤسسيةٍ تعتمدُ عليها قوةُ الدولةِ، وهي: (1) الركيزةُ الجغرافيةُ – الموقعُ والمجالُ الحيويُّ، (2) والركيزةُ السكانيةُ – القوةُ البشريةُ، (3) والركيزةُ الاقتصاديةُ – القدرةُ الإنتاجيةُ والمواردُ، (4) والركيزةُ العسكريةُ – القوةُ الصلبةُ، (5) والركيزةُ السياسيةُ – الشرعيةُ والقدرةُ على اتخاذِ القرارِ. (6) والركيزةُ الثقافيةُ والفكريةُ – القوةُ الناعمةُ، (7) والركيزةُ الدبلوماسيةُ والتحالفاتُ – شبكةُ العلاقاتِ الخارجيةِ؛ مع التأكيدِ على أن القوةَ الشاملةَ للدولةِ لا تُقاسُ بالجيشِ أو الاقتصادِ وحدَهما، بل بمجموعِ هذه الركائزِ وبمدى التكاملِ بينها.
أمّا في التصورِ الإسلاميِّ، فتقومُ الدولةُ على قواعد مؤسِّسةٍ فوقيةٍ تُعطي الإلزامَ والاتجاهَ، وهي «شرطُ وجودٍ وقيامٍ» للحكمِ الإسلاميِّ، وليست أدواتٍ ظرفيةً أو «خياراتٍ إداريةً»، ولا يُتصورُ الحكمُ الإسلاميُّ بدونِها، ثم ركائزَ تشغيلية تُجسدُ تلك القواعدَ في أنظمةِ الحكمِ والدولةِ وفي السياساتِ. وبذلك تصبحُ الدولةُ الإسلاميةُ «منظومةَ إلزامٍ وقوةٍ» معًا: الشرعُ يحددُ الوجهةَ والحدودَ، والركائزُ توفرُ أدواتِ الوصولِ والتمكينِ. وبالتالي فإن تحصينَ الدولةِ الإسلاميةِ بتلك القواعدِ والركائزِ يعطيها قوةً هائلةً وحصانةً بنيويةً تجعلها عصيةً على الانفراطِ، وتغلقُ منافذَ الاختراقِ، وتكونُ ضمانةً للاستقرارِ والاستمرارِ:
أوّلًا: القواعدُ المؤسِّسةُ الفوقيةُ (شروطُ الوجودِ والشرعيةِ)
أوَّلًا (قاعدةٌ مُؤسِّسَةٌ فَوقيَّةٌ): أن «السيادةَ للشرعِ والسلطانَ للأمةِ». السيادةُ (وهي مصدرُ الإلزامِ ووضعُ المعيارِ) للوحيِ، أمّا السلطانُ (التنفيذُ والإجراءُ) فللأمةِ تُنيبُ عنها خليفةً يباشرُ سلطانَها بعقدِ البيعةِ. هذه القاعدةُ الفوقيةُ الضابطةُ تضبطُ سائرَ الركائزِ، تحددُ وجهتَها وتحكمُ مدارَها، وتمنعُ تحكيمَ أهواءِ البشرِ مكانَ الوحيِ. فهي تحددُ مصدرَ الإلزامِ ومالكَ الإرادةِ؛ فالشرعُ هو الحاكمُ على الإراداتِ والخياراتِ، والتقيدُ بالشرعِ واجبٌ على الحاكمِ والمحكومِ، وأمّا التنفيذُ (السلطانُ) فللأمةِ عبرَ خليفةٍ تُقيمُه بعقدٍ صحيحٍ. وهي من «قواعدِ الحكمِ في الإسلامِ التي لا يوجدُ الحكمُ إلا بها». ويبنى على ذلك أن خروجَ الحاكمِ عن شرطِ التفويضِ بتطبيقِ الشرعِ يفقدُه شرعيته، فإذا ما حاولَ إدخالَ أنظمةِ كفرٍ بواحٍ جُرِّدَ السيفُ في وجهِه حفاظًا على إفرادِ التشريعِ الإسلاميِّ بالحكمِ في الدولةِ.
ثانيا: وحدةُ الأمّةِ والخلافةِ، وحدةُ الإمامةِ أصلٌ قاطعٌ، والطاعةُ مشروطةٌ بالشرعِ «لا طاعةَ في المعصيةِ»، فإن ظهرَ الكفرُ البواحُ زالت الشرعيةُ. ووجوبُ نصبِ خليفةٍ واحدٍ وحقُّ التبني له، إذ تُحرِّمُ الشريعةُ تعددَ الأئمةِ في دارِ الإسلامِ؛ فحديث النبي صلى الله عليه وسلم «إذا بويعَ لخليفتين فاقتلوا الآخرَ منهما» نصٌّ مانعٌ لتعددِها. فالوحدةُ السياديةُ تحسمُ التنازعَ وتمنعُ التشرذمَ ما دام الحكمُ بالشرعِ، وتثبتُ مركزَ القرارِ. وحقُّ تبني الأحكامِ يعني اختيارَ أحدِ الأقوالِ الاجتهاديةِ الصحيحةِ المستندةِ إلى أدلتِها من الكتابِ والسنةِ وما أرشدا إليه من أصولِ الاستنباطِ، والخليفةُ مقيدٌ في التبني بالأحكامِ الشرعيةِ وبالطريقةِ الأصوليةِ التي التزمَها في الاستنباطِ، لتحكمَ المحاكمُ بالرأيِ المتبنى فلا تتعددَ الآراءُ المتعلقةُ بها بتعددِ المحاكمِ، ضمانًا لوحدةِ السلطانِ والتشريعِ. كما ثبتَ الإجماعُ على وجوبِ الخلافةِ وحرمةِ خلوِّ الأرضِ منها ووجوبِ وحدةِ الأمةِ.
ثالثا: الشرعيةُ العَقَديةُ وطريقُ تولي الحكمِ – البيعةُ: البيعةُ هي الطريقةُ الشرعيةُ لتنصيبِ الخليفةِ؛ بيعةُ انعقادٍ تُقيمُ الإمامَ، ثم بيعةُ طاعةٍ تُلزمه الحكمِ بما أنزلَ الله. فتعطي الأمةُ سلطانَها لمن يلتزمُ حكمَ الشرعِ، والمبايعةُ معاقدةٌ تمنحُ الأمةَ من خلالها للخليفةِ مسؤوليةَ تطبيقِ الأحكامِ الشرعيةِ عليها، ويقبلُ هذا عن رضا واختيارٍ من الطرفين. والتعريفُ الملزمُ لطبيعةِ الدولةِ: فهي كيانٌ تنفيذيٌّ ينفذُ الأحكامَ ولا ينتجُ التشريعاتِ، وتستمدُّ شرعيتَها من المنظومةِ الفكريةِ لا العكسَ.
رابعاً: قاعدةُ استقلالِ الوحيِ بالتشريعِ ورفضُ التبعيةِ، لأن السيادةَ للشرعِ، فمرجعيةُ الدولةِ تشريعيًّا وحكميًّا للوحيِ، ولا تُستمدُّ من أنظمةٍ أخرى. هذا المعنى يؤسسُ لاستقلالٍ بنيويٍّ ينعكسُ على السياسةِ الخارجيةِ ويمنعُ الارتهانَ، ويحفظُ وحدةَ السلطانِ والتشريعِ. وتأصيلُه عقديٌّ خالصٌ: فالإسلامُ يحصرُ العبوديةَ باللهِ تعالى، ويجعلُ الحاكميةَ له، ويَعدُّ تشريعَ البشرِ للبشرِ اتخاذًا لهم أربابًا من دونِ الله. والمؤمنُ المفردُ ربَّه بالعبادةِ لا يرضى تبعيةً لغيرِ الحقِّ. ولأن الدولةَ كيانٌ تنفيذيٌّ لقناعاتِ الأمةِ، فإن الدولةَ الإسلاميةَ ترفضُ التبعيةَ رفضًا باتًّا: لا سياسيًّا، ولا فكريًّا، ولا تشريعيًّا؛ بل تقومُ – وفقَ مبدأ الشهادةِ على الأممِ – بوظيفةِ الهدايةِ وحملِ الرسالةِ، لا بتلقي القيمِ والأنظمةِ من سواها.
سادسا: حملُ الدعوةِ: غايةُ السياسةِ الخارجيةِ ووظيفةُ الدولةِ:
الدولةُ الإسلاميةُ «حاملةُ رسالةٍ» إلى العالمِ، والجهادُ والسياسةُ الخارجيةُ مرتبطان بهذه الوظيفةِ: دوامُ إعدادٍ وحالةُ جهادٍ دائمٍ بالمعنى الإستراتيجيِّ (أدواتُه ودوائرُه) وحملُ الدعوةِ عالميًّا. ويشكلُ تقسيمُ الدارِ (دارُ الإسلامِ ودارُ الكفرِ) إطارًا جيوسياسيًّا يحددُ أحكامَ الداخلِ والخارجِ ويضبطُ التعاملَ مع الإقليمِ والحدودِ، ويقومُ الأساسُ فيه على اعتبارِ ظهورِ الأحكامِ في المجتمعِ واعتبارِها أعرافًا، وعلى أساسِ الأمانِ؛ أهو بقوةِ المسلمينَ الذاتيةِ؟
بهذه القواعدِ تنعقدُ «شرعيةُ المنهجِ» و»شرعيةُ السلطةِ»: الشرعُ مرجعٌ ملزِمٌ، والأمةُ صاحبةُ السلطانِ، والبيعةُ طريقُ التولي، والوحدةُ قيدٌ يمنعُ التشظي، والدولةُ حاملةٌ للدعوةِ.
وأمّا الركائزُ السبعُ لقوّةِ الدولةِ الإسلاميةِ (محاورُ البناءِ والتمكينِ)
الركائز: محاورُ القوةِ التشغيليةِ التي تُجسِّدُ القواعدَ في المؤسّساتِ والسياساتِ ويراقبُها الشورى والمحاسبةُ، أهمُّها:
أولًا: الأساسُ الفكريُّ (العقيدةُ والسيادةُ للشرعِ، والسلطانُ للأمةِ) وهي الركيزةُ الحاكمةُ: بمعنى أن الأفكارَ الأساسيةَ والأنظمةَ والقوانينَ والقواعدَ والتصورَ الفكريَّ للحياةِ الذي يقومُ عليه المجتمعُ والدولةُ واضحٌ بيّنٌ محددٌ. وظيفتُه: منحُ «اتجاهٍ مُلزِمٍ» للدولةِ ومعيارٍ للسياساتِ. وأثرُه في المناعةِ: يؤطّرُ القرارَ بإطارِ الشرعِ، ويمنعُ الانحرافَ، ويجلّي رضا الناسِ وقَبولهم بالحكمِ عن إيمانٍ وتسليمٍ.
تقامُ الدولةُ لتمكينِ الدينِ ولتعلو أحكامُه؛ فالسيادةُ للشرعِ لا لإرادةِ البشرِ، وأمّا السلطانُ فللأمةِ تمارسُ به التنفيذَ بالبيعةِ. والدولةُ كيانٌ تنفيذيٌّ لمنظومةِ المفاهيمِ والمقاييسِ والقناعاتِ التي قبلتْها الأمةُ؛ فالأساسُ العَقَديُّ الفكريُّ معيارُ القيامِ ومناطُ الشرعيةِ. ويجعلُ هذا الأساسُ السياسةَ «رعايةً للشؤون وفق الأحكامِ الشرعيةِ، تتقبلُها الأمةُ تسليمًا ورضا».
ثانيًا: الركيزةُ الحقوقيةُ/الرعائيةُ/الشرعيةُ (نظامُ الحكمِ والقضاءِ)
ركيزةٌ صلبةٌ، دعائمُها الرئيسةُ:
أ. مسؤوليةُ رعايةِ الشؤونِ.
ب. قضاءٌ ذو ولايةٍ مُلزِمةٍ يحكمُ بالعدلِ، ويُحقُّ الحقوقَ، ويرفعُ الظلمَ، وينفذُ حكمُه.
ج. محكمةُ مظالمَ تحاكمُ ولاةَ الأمورِ وتملكُ عزلَهم عند فقدِ شروطِ الانعقادِ.
د. فصلُ الكيانِ التنفيذيِّ عن الكيانِ المجتمعيِّ؛ فالأمةُ (بعلمائها وأحزابها) تُراقبُ وتُحاسبُ، والسلطةُ تُنفذُ وترعى.
أثرُ هذه الركيزةِ: منعُ الاستبدادِ والتسلطِ والفسادِ، وإسنادُ الشرعيةِ بأدواتِ إنفاذٍ ذات صلاحيةٍ، توطدُ الثقةَ العامةَ، وتحمي عرى الاجتماعِ الإسلاميِّ، وتضمنُ سوادَ أعرافِ الإسلامِ وإنكارَ منكراتِه، مما يشكلُ ضمانةً دائمةً لتصحيحِ المسارِ.
ثالثًا: الركيزةُ الاقتصاديةُ
المعالمُ: الاقتصادُ تابعٌ للأساسِ الفكريِّ لا سابقٌ عليه؛ بيتُ المالِ، والمِلكياتُ (عامةٌ/دولةٍ/خاصةٍ) وإيراداتُها ونفقاتها أدواتُ رعايةٍ لا هيمنةَ سوقٍ. ضمانُ الحاجاتِ الأساسيةِ – ما استُطيعَ – وظيفةُ الدولةِ.
الأثرُ: توزيعٌ عادلٌ للقوةِ الماديةِ داخلَ المجتمعِ، وتوليدُ ولاءٍ رعويٍّ مستدامٍ، وخفضُ قابليةِ الاختراقِ الاقتصاديِّ أو الارتهانِ. تُسخرُ الثروةُ والمواردُ واليدُ العاملةُ لمشروعٍ موحدٍ تضبطُه المقاييسُ الشرعيةُ، وتتحولُ الوفرةُ السكانيةُ – متى أُحسنَ تعليمُها وتدريبُها – إلى رافعةِ نموٍّ سريعٍ، وتُستغلُّ الثرواتُ الطبيعيةُ من خلالِ الدولةِ لتكفي حاجاتِ الرعيةِ ولتقيمَ نهضتَها.
رابعًا: الركيزةُ العسكريةُ/الأمنيةُ: «القوةُ الحارسةُ لبسطِ الأمانِ ذاتيًّا» ونشرِ الإسلامِ.
المعالمُ: جيشٌ عقيدتُه الجهادُ وحمايةُ الدعوةِ والدولةِ، وأمنٌ داخليٌّ لحراسةِ النظامِ، وصناعةٌ عسكريةٌ داعمةٌ، وقيادةٌ موحدةٌ مركزيةٌ (أميرُ الجهادِ) مرجعُها الشرعُ.
الأثرُ: ردعٌ وحسمٌ معًا، وتخفيضُ كلفةِ الأمنِ الداخليِّ، لأن الشرعيةَ تقاومُ التمردَ بانضباطٍ اجتماعيٍّ، لا بقبضةٍ قهريةٍ مُكلِفةٍ. وقد كان الرسولُ صلى الله عليه وسلم يصحبُ أبا بكرٍ رضي الله عنه في طوافه على القبائلِ طالبًا منهم النصرةَ، فكان يسألُ عن المنعةِ في تلك القبائلِ، أو يُسألونَ هم عنها، كما في جوابِ مفروقِ بن عامر: «إنا لأشدُّ ما نكونُ غضبًا حين نلقى – يعني في الحرب – وأشدُّ ما نكونُ لقاءً حين نغضب، وإنا لنؤثرُ الجيادَ على الأولادِ، والسلاحَ على اللقاحِ، والنصرُ من عندِ الله، يديلُنا مرةً ويديلُ علينا أخرى».
خامسًا: الركيزةُ الثقافيةُ/الفكريةُ والقوةُ الناعمةُ (حملُ الدعوةِ)
المعالمُ: تعليمٌ يُنتجُ «الشخصيةَ الإسلاميةَ»، وإعلامٌ يُشكّلُ الوعيَ العامَّ على أساسِ الرسالةِ الإسلاميةِ الجامعةِ، وسياسةٌ دعويةٌ تُظهرُ طريقةَ العيشِ الإسلاميةَ.
الأثرُ: بناءُ «استطاعةٍ جماعيةٍ» تعبويّةٍ تُفعّلُ الطاقةَ السببيةَ في التغييرِ والنهوضِ، وتحملُ المجتمعَ على النهضةِ والتماسكِ، وتوسّعُ دوائرَ التأثيرِ خارجًا بقيمةٍ حضاريةٍ مقنعةٍ.
سادسًا: الركيزةُ السكانيةُ/المجتمعيةُ (الأمةُ والبيعةُ): المعالمُ: السلطانُ للأمةِ، والبيعةُ عقدُ الرضا، والشبابُ رصيدٌ بشريٌّ قابلٌ للتعليمِ والتدريبِ السريعِ. الأثرُ: تحويلُ الكتلةِ البشريةِ إلى سندٍ شرعيٍّ واعٍ للدولةِ؛ فإذا قويت الرابطةُ بين الراعي والرعيةِ انخفضت الحاجةُ إلى «القوةِ العاريةِ» واشتدت المناعةُ ضد الاختراقِ. التصاقُ الأمةِ بالدولةِ واستعدادُها للدفاعِ عنها، مع وجودِ السلاحِ عند الأفرادِ، يعني أن إرادةَ الأمةِ تُضافُ إلى قوةِ الجيشِ في حسابِ العدوِّ.
سابعًا: الركيزةُ الجغرافيةُ (الموقعُ والعمقُ)
المعالمُ: الجغرافيا وعاءُ تطبيقٍ وامتدادٌ، والمقصدُ أمميٌّ مع استثمارِ العمقِ الإسلاميِّ والممراتِ والمضائقِ لتقليلِ قابليةِ الخنقِ والحصارِ.
الأثرُ: كيانٌ ممتدٌّ عسيرُ الاستهدافِ بحربٍ خاطفةٍ؛ يحسبُ الخصمُ كلفةَ المواجهةِ قياسًا بردِّ فعلِ أمةٍ واسعةٍ لا حدودَ لامتداداتِها الشعبيةِ.
خلافًا للدولةِ الحديثةِ التي تجعلُ الحدودَ مقومًا أساسيًّا، تُعَدُّ الجغرافيا في الإسلامِ وعاءً للتطبيقِ والامتدادِ لا أساسًا مقومًا للدولةِ. ومع ذلك، تستفيدُ الدولةُ الإسلاميةُ الناشئةُ من العمقِ الإسلاميِّ والجامعِ الحضاريِّ للمسلمينَ خارجَها لتقويةِ موقفِها، وللمشاركةِ في إحباطِ محاولاتِ إحباطِ نشوئِها، ثم إن الجغرافيا الإستراتيجية لدولةٍ إسلاميةٍ تنطلقُ من مصرَ أو الشامِ أو العراقِ أو باكستانَ أو تركيا، تقعُ على شبكةٍ من المضائقِ والممراتِ التجاريةِ، وتشكلُ امتدادًا قارّيًا من إندونيسيا إلى المغربِ. وهذا الاتساعُ يصعّبُ خيارَ غزوٍ مباشرٍ، ويرغمُ القوى الدوليةَ على التفكيرِ بالتفاهمِ لا بالمواجهةِ، حين تتوحدُ المنطقةُ سياسيًّا أو تتوجهُ نحو الوحدةِ.
وخصوصًا إذا تذكرنا أن العالمَ الإسلاميَّ برمتِه يتشوّقُ لرؤيةِ الشريعةِ تحكمُ، وأن الدويلاتِ القُطريةَ فيه كياناتٌ هشّةٌ يسهلُ إسقاطُها؛ فتوسيعُ القاعدةِ الجغرافيةِ للدولةِ الفتيةِ خيارٌ حيويٌّ سريعٌ لتقليلِ قابليةِ الخنقِ والحصارِ، ولرفعِ كلفةِ أي محاولةٍ لشنِّ حربٍ خاطفةٍ عليها. فإذا ما اقترنَ ذلكَ بمحيطٍ من دويلاتٍ آيلةٍ للسقوطِ وشعوبٍ متقدةٍ، كان خيارُ التوسعِ السريعِ قابلًا للتحققِ.
وحينئذٍ يعلمُ الغربُ أن كلفةَ مواجهته دولةً مسنودةً بشعبِها مرتفعةٌ، وقد يسهلُ اتساعُها إذا تيقنت الشعوبُ الإسلاميةُ خارجَها أن حربَ الغربِ عليها حربٌ على الإسلامِ والانعتاقِ من التبعيةِ له، وحربٌ تريدُ تكريسَ واقعٍ فاسدٍ وأنظمةٍ مستبدةٍ مترهلةٍ، فترى في الدولةِ الناشئةِ أملًا وملاذًا لا تفرّطُ فيه. فإذا أضحت الدولةُ الفتيةُ واسعةَ الامتدادِ، تعقّدت حساباتُ من يحاولُ إسقاطَها. وكلُّ ذلكَ في ظلِّ «سنةِ اللهِ بنصرِ مَنْ ينصرُه»، المقترنةِ بقدرةِ المجتمعِ على إفشالِ محاولاتِ فرضِ عملاءَ بالقوةِ. وأيُّ محاولةٍ لغزوِ الدولةِ الإسلاميةِ الناشئةِ أو ضربِها ستتبعُها أمواجُ غضبٍ تمتدُّ من أقصى العالمِ الإسلاميِّ إلى أقصاهُ، مما يهددُ مصالحَ الدولِ الغازيةِ، وهي معادلةٌ لا يجوزُ إغفالُها.
وبهذا الترتيبِ الهرميِّ، يبقى الأساسُ الفكريُّ مقوِّمَ الشرعيةِ ومقياسَ السياسةِ، وتتساندُ سائرُ الركائزِ تساندًا ينتجُ القدرةَ على التحقيقِ والصيانةِ والتأثيرِ في النظامِ الدوليِّ، ويصنعُ للدولةِ معادلةَ ثباتٍ تقومُ على تكاملِ القوةِ لا على جزءٍ منها دونَ سائرِ الأجزاءِ.
العلاقةُ السياسيةُ الصحيحةُ وسندُ الدولةِ: الدولةُ كيانانِ متلازمانِ: كيانٌ مجتمعيٌّ يحملُ الفكرَ وينقادُ للعلماءِ وللأحزابِ السياسيةِ التي بدورها تُنتجُ الفكرَ وتصنعُ الرأيَ العامَّ الملتزمَ، وكيانٌ تنفيذيٌّ ينفذُ الأحكامَ ويديرُ السلطاتِ. والكيانُ التنفيذيُّ لا يدومُ إلا بسندٍ: إمّا بسند الشعبِ وحمايته فيثبتُ ويقوى، وإمّا بسندٍ أجنبي يستدعيه فيسقطُ اعتبارُه ويضمحلُّ، أو يجعلُ الحكمَ دكتاتوريةً جبريةً لا تلبثُ أن تنهارَ ولو بعد حين، أو ينهارُ لفقدِ السندِ. ومن ثم فالعلاقةُ الصحيحةُ بين الراعي والرعيةِ أن يروه ممثلًا لهم، مخوّلًا بالبيعةِ لتنفيذِ المفاهيمِ والمقاييسِ والقناعاتِ التي آمنوا بها. فبقدرِ قوةِ هذه العلاقةِ يقوى بنيانُ الدولةِ ويعزُّ انهيارُها.
أمّا إذا اهتزّت الثقةُ بقدرةِ الراعي على الرعايةِ، أو ظهرَ ظلمٌ وسوءُ أداءٍ، أو أُحسَّ أن السلطانَ مفروضٌ لا ينبعُ من الأمةِ، انتقضت عقدةُ الانقيادِ، وتهاوت شرعيةُ الخضوعِ، واقتربَ انفصامُ العقدِ بين المجتمعِ والسلطانِ. وحينئذٍ لا يبقى أمام القيادةِ الفاشلةِ إلا أن تتحصّنَ بالغريبِ المستعمرِ، أو تسلّطَ الجيشَ على الناسِ، أو تسقطَ.
ومن المهمِّ أن يبدأَ الترسيخُ لهذه العلاقةِ في مرحلةِ ما قبلَ الدولةِ، إذ إن منهجَ التمكينِ والاكتساب السيادي (التفاعل مع الأمةِ بما هي قوة دافعة للتغييرِ، وطلبُ النصرةِ) آليةً شرعيةٍ لأخذِ الحكمِ طبيعيًّا عبر أهلِ المنعةِ، قبلَ توظيفِ القوةِ العسكريةِ بعد قيامِ الدولةِ، يرسخُ الامتدادَ المجتمعيَّ ويجعلُ علاقتَه بالدولةِ عصيةً على الفسخِ.
طريقُ الإقامَةِ والتَّغييرِ الَّذي يَصْنَعُ السَّنَدَ الشَّعْبِيَّ:
يقوم العمل الحزبي المنظم على حمل الأمة، أو المجتمع أو الفئة الأقوى فيه – أي الفئة التي هي مكمن السلطة ومنبع القوة المجتمعية القادرة على ترجيح الرأي وفرضه أو إقناع سائر أطياف المجتمع به – على تبني منظومة المفاهيم والمقاييس والقناعات المؤسسة، ثم تسخير مكامن قوتها لإحداث تأثير موجه في المجتمع يفضي إلى إقامة السلطة على أساس تلك المنظومة. وبقيام السلطة على هذا الأساس تتولى الدولة حماية النظام، وحراسة تطبيق الأحكام، وصيانة حقوق الرعية، بما ينشئ أمنًا ذاتيًا راسخًا للكيان. وبعد تثبيت هذا الأمن، تسخّر الدولة الجيش لدرء الخطر الخارجي وحمل مبدئها، والشرطة لحراسة النظام وإنفاذ أحكامه.
الكفاح السياسي لكشف سوء الرعاية وتبديد الدعاية السلطوية، وكشف الارتباط بالخارج وتسخير الخيرات لغير الأمة.
الصراع الفكري لضرب الأسس الفاسدة التي يقوم عليها نظام الحكم، وقذف باطلها بالحق الذي يزهقه؛ فمتى تغيرت المقاييس في العقول استوى الرأي العام الملتزم، وتحولت القوة المجتمعية إلى سند شرعي واعٍ.
طلب النصرة من أهل المنعة لتحييد قوة الدولة القائمة عن الاستعصام بها في حرب الناس، واستنادًا إلى الفئة الأقوى في المجتمع – ممن يقدرون على فرض الرأي أو ترجيحه – لتكون سندًا للتغيير. وبقيام السلطان على هذا السند يتحقق «الأمان الذاتي» داخل الدولة؛ فتستعين بالجيش لدفع الخطر الخارجي وحمل الرسالة، وبالشرطة لحراسة تطبيق النظام.
ولِماذا لا تُؤْخَذُ السُّلْطَةُ بِالقُوَّةِ العَارِيَةِ؟ لأن ذلك يخالف سنن الاجتماع: من يستجلب قوة أقوى ماديًا وفكريًا من قوة الشعب – كنفوذ الدول الكبرى – قد يغلب لحظة، لكنه يقيم دولة كجمر تحت الرماد لا يلبث أن يشعل النار؛ فلا دليل في ذلك على جعل القوة العارية أساسًا لأخذ السلطان. فالأصل أن يُدرس واقع المجتمع لاتخاذ الأفكار والأساليب الكفيلة بالوصول إلى الناس، وتحدي العوائق والمؤثرات الخارجية المسيطرة على توجه المجتمع والدولة، فهذا كفيل بعدم الحاجة لقوة عارية، أي لاستخدام العنف والإكراه المادي لفرض الإرادة في غياب الشرعية والرضا العام. كذلك فإن الأصل أن تُجعل نظرة الأمة في الحياة محورًا لدفعها إلى إقامة السلطان على مقاييسها، وأن تُستنفر قوتها الذاتية ماديًا وفكريًا للنهوض والحفاظ. فإذا تم ذلك تحولت الأمة إلى سند متصل يثبت أركان الدولة، ويجعلها عصية على الانفراط والاستدراج.
خُلاصةٌ مُحْكَمةٌ: إذن، يتوقف انعقاد الركيزة السكانية/المجتمعية كركن حاسم في الاستقرار والردع على ضبط العلاقة بين الراعي والرعية على قاعدة «السيادة للشرع، والسلطان للأمة»، ويتحقق السند الشعبي عبر الكفاح السياسي والصراع الفكري وطلب النصرة، فتصير الدولة مصونة بوعي أمتها قبل عدتها، ويغلق باب الارتكان إلى الغريب، ويبطل مكر من يراهن على انفصال السلطان عن الشعب.
مقارنةٌ موجزةٌ مع الأوزانِ البنيويّةِ في النظريّاتِ الغربيّة
تركِّز النظرياتُ الغربية على أوزانٍ بنيوية، والغربُ يُوازِنُ القوّةَ بمركّبٍ مِن الجغرافيا والقدرةِ المادّيةِ والمؤسّساتِ والمعنويّاتِ (كلاوزفيتز: «المعنوياتُ»، ماهان: «البحرُ»، ماكندر: «قلبُ الأرضِ»، والتز: «البِنْيةُ الدّوليّةُ»، ناي: «القوّةُ الناعمةُ»).
البناءُ الإسلاميُّ لا يُخالِفُ وزنَ هذه العناصرِ، لكنّه يُضيفُ «مرجعيّةَ الإلزامِ»: الغاياتُ والأدواتُ مُقيَّدةٌ بمقاصدِ الوحيِ وقواعدِه، فتنشأُ معادلةُ قوّةٍ مُقنَّنةٌ تُوازِنُ بينَ المشروعيّةِ والفعاليّةِ.
النتيجةُ العمليّةُ: هذا القيدُ ليس عائقًا؛ بل هو ميزةٌ مؤسِّسةٌ تُحصِّنُ القرارَ من الانحرافِ، وتحصّن الشرعية، وتمنحُ الدّولةَ عُمقًا تعبويًّا دائمًا لا توفِّرُهُ أدواتُ الرّدعِ المادّيِّ وحدَها، وتُقلِّلُ كلفةَ الحكمِ داخليًّا بفضلِ قبولٍ مُستنِدٍ إلى الاعتقادِ لا إلى الإكراهِ.
خاتمةٌ جامعةٌ: إذا استقامَتِ القواعدُ الفوقيّةُ؛ السِّيادَةُ للشرعِ، والسُّلْطانُ للأمّةِ، ووحدةُ الخِلافةِ، والبَيْعَةُ طريقًا، والتبنّي المُقيَّدُ بالشرعِ، والاستقلالُ التشريعيُّ، وحملُ الدّعوةِ، وتماسَكَتِ الرّكائزُ التشغيليّةُ، الفكرُ، والحُكمُ والقضاءُ، والاقتصادُ، والقوّةُ الصّلبةُ، والقوّةُ الناعمةُ، والمجتمعُ، والجغرافيا، تَتشكّلُ حصانةٌ بنيويّةٌ تمنعُ انفراطَ عِقدِ الدّولةِ وتُغلِقُ منافذَ الاختراقِ، وتُميِّزُها عن سائرِ النُّظُمِ بمزيّةِ الشرعيّةِ المُقنِّنةِ الّتي تُنتِجُ قوّةً أقلَّ كلفةً وأطولَ نَفَسًا، وأعظمَ أثرًا -في الداخلِ والخارجِ- على السّواء.
تمهيد لبحث: شروط الدولة التي تصلح نقطة ارتكاز لنشوء الدولة الإسلامية:
ينبغي على المسلم أن يعلم أن الحكم بما أنزل الله فرضٌ كفرض الصلاة، وأن خطورته على صعيد الأمة نلتمسها من ربط الشارع الحكيم لإقامته في الدولة بصحة الإيمان، إذ إن الحكم بما أنزل الله يقيم الشريعة الإسلامية الغراء في واقع الحياة والمجتمع والدولة، وإنما نزل الدين ليكون نظامَ حياةٍ يُحكِّم الناسُ أحكامَه في حياتهم وجوبًا، (كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ ) البقرة 213، واللامُ في قوله (لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ) هي لامُ التعليل، فأحدُ أهمِّ المقاصد الكلية من بعثِ النبيين ومعهم البشارةُ والنذارةُ أن يحكم الكتابُ بين الناس ليُصلح معاشَهم ويسود الحقُّ والعدلُ في كل شأنٍ من شؤون حياتهم، ولتكون كلمةُ الذين كفروا السُّفلى.
وبالتالي فإن تطبيق هذه الأحكام في واقع الحياة إنما هو مقصدُ الشريعة الأعظم، ومقصدُ إرسالِ الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقصدُ إنزالِ الكتاب، وأساسُ الدين المتين، وإقامته في حياة الناس إنما هي من أوجب الواجبات.
إن الدولةَ في المفهوم الإسلامي ليست مجردَ سلطةٍ إداريةٍ أو جهازٍ بيروقراطيٍّ يُنظِّم شؤونَ الناس، بل هي كيانٌ سياسيٌّ شرعيٌّ يقوم على أساسٍ عقَديٍّ محدد، ويحمل رسالةً ربانيةً، وعروةٌ وُثقى تربط بين الأحكام التفصيلية المتعلقة بتطبيق الشريعة الإسلامية الغراء في أنظمة الحياة كلها، وبين أداء تلك الأحكام ثمراتِها من إحقاق الحقوق، وإقامة العدل، وبسط الأمن، ورعاية الشؤون، وجلب المصالح، وإقامة القيم في المجتمع، فتكون أعرافُ الإسلام ظاهرةً تسود المجتمع، ومنعُ الظلم والبغي بغير الحق، والإفساد، بحيث يتوقف ذلك كلُّه على وجودها، وينعدم تمامًا بانعدام الدولة.
وإنه لَمِنَ الخطأ الشديد النظرُ إلى الدولة باعتبارها حكمًا ثانويًّا فرعيًّا في الحياة، أو أن يُتصوَّر أنها قامت تاريخيًّا نتيجةً لظروفٍ طارئةٍ تاريخيةٍ مضت، أو أن يُتطلَّع إلى إقامتها من جديدٍ كخيارٍ أو ردِّ فعلٍ لمعالجة الأزمات السياسية والاقتصادية المعاصرة، وتحسين معيشة المجتمع، بل لا بدَّ من النظر إلى إقامتها على أنه الفرضُ الحافظ للفروض، وعلى أن وجود الإسلام في الحياة يتوقف على وجودها، وأن «الإمامُ جُنَّةٌ يُقاتَلُ من ورائه ويُتَّقى به»، وأن إقامتها لا يكون إلا ثمرةً لمسارٍ دعويٍّ فكريٍّ سياسيٍّ ومجتمعيٍّ متكامل، تحكمه أحكامٌ شرعيةٌ راسخة، وسننٌ ربانيةٌ لا تبديل لها، وقوانينُ مجتمعيةٌ محددة، وأنه حصيلةُ إيمانٍ جماعيٍّ بفكرةٍ أساسيةٍ محددة، وانبثاقٌ من أصلِ استخلافِ الله للناس في الأرض، واستمرارٌ لإقامة أصلٍ ربانيٍّ قامت عليه السماواتُ والأرض، من تحريم الظلم، لا يمكن تحققه إلا بتطبيق الشريعة، ليتعدى منعُ الظلم امتناعَ الأفراد عنه، إلى أن تمنع الدولةُ الظلمَ عن الرعية كلها، فيتحقق المراد، وعروةٌ وُثقى تستوثق باقي عُرى الإسلام، والتي يتسبب نقضُها في انتقاض الإسلام عروةً عروةً، كل ذلك يؤكد على مركزية إقامتها وبالغ أهميتها في أوامر الشارع الحكيم.)يتبع(
1447-04-03