العدد 469 -

السنة التاسعة والثلاثون، صفر 1447هـ الموافق آب 2025م

تغير السلوك بتغير المفاهيم: الخنساء مثالا

ريان عيسى- الموصل

الإسلام العظيم كله حكم وعبر وتنظيم وتشريع وتحول للناس فيه من حال بئيس ومتدهور إلى حال ذي رفعة وعز وفخار وترفع عن سفاسف الأمور. وفي موضوعنا اليوم سنتطرق إلى مثال واحد من تلك الأمثلة الكثيرة جدًا في واقع المسلمين في صدر الإسلام.

إن دعوة الإسلام التي نزلت على قلب سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن قاصرة على الرجال دون النساء، بل إن النساء كُنَّ في مركز تلك الدعوة المباركة، فضَحَّين بأنفسهن في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل، وما الشهيدة سمية بنت خياط عنا ببعيدة، وكانت أول شهيدة ارتقت في سبيل الإسلام، على الرغم من المدة القصيرة التي تشرفت بها بالإسلام. من هنا ندرك عظمة هذا الدين العظيم وشموله لكل الناس، فبدخول أي انسان الإسلام يكون مسؤولًا عنه كمسؤولية خيار الصحابة، كأبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي الكرار رضي الله عنهم أجمعين.

من هذا المنطلق سنتطرق إلى سيرة صحابية جليلة كان لها أثر كبير في التاريخ الإسلامي العظيم ألا وهي الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الحارث)، أشعر العرب كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله عنه كلما رآها طلب منها بعضًا من شعرها لشدة جماله وسهولته، وكأنه جدول ماء بارد ينساب إلى القلب بلا استئذان. وقيل إن الخنساء في اللغة تعني «الظبية»…

أسلمت الخنساء في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة، وفدت مع وفد من قبيلتها «بني سليم»، وحسن إسلامها بفضل الله عز وجل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إلى شعرها، وكان يقول لها: «هيه يا خنساء».

اشتهرت الخنساء بكثرة بكائها على أخويها صخر ومعاوية اللذين قتلا أيام الجاهلية، ولها أبيات كثيرة جدًا في هذا الأمر، بل طغى هذا الأمر على شعرها إلى ما بعد الإسلام.

 ومن شعرها في رثاء أخيها صخر:

قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّار        

أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلها الدَّارُ

كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ          

فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ

تبكي لصخرٍ هي العبرَى وَقدْ ولهتْ  

    وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ

تبكي خناسٌ فما تنفكُّ مَا عمرتْ           

 لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ

 تبكي خناسٌ علَى صخرٍ وحقَّ لهَا      

    إذْ رابهَا الدَّهرُ أنَّ الدَّهرَ ضرَّارُ

فشكا بعض الناس من قومها أمرها إلى عمر بن الخطاب خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن شعرها ورثاءها لأخيها بهذا الشكل يثبت أنها لا تصبر على قضاء الله وحكمته.

 وذكروا أنها أقبلت في حاجة، فمرت بالمدينة ومعها أناس من قومها، فأتوا عمر بن الخطاب، فقالوا: «هذه خنساء، فلو وعظتها فقد طال بكاؤها في الجاهلية والإسلام»، فقام عمر وأتاها وقال: «يا خنساء»، قال: فرفعت رأسها، فقالت: «ما تشاء وما الذي تريد؟» فقال: «ما الذي أقرح مآقي عينيك؟»، قالت: «البكاء على سادات مضر»، قال: «إنهم هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاد اللهب، وحشو جهنم»، قالت: «فداك أبي وأمي، فذلك الذي زادني وجعاً»، قال:«فأنشديني ما قلت»، قالت: «أما أني لا أنشدك ما قلت قبل اليوم، ولكني أنشدك ما قلته الساعة»، فأنشدته أبياتًا من الشعر، فقال عمر: «دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدًا»، ولم ينهها ولم يزجرها وكان حنونًا معها ورقيقًا.

هذا كان حال الخنساء مع أخويها في الجاهلية وشطر من الاسلام على قلته، لكن الإسلام تغلغل إلى أعماق أعماق نفسها، وفهمت دينها وغاية وجودها في هذه الحياة، فسارعت وشاركت في الفتوح الأولى للمسلمين خارج الجزيرة العربية، وتوجهت مع بنيها إلى فتح العراق تحت قيادة أسد من أسود الإسلام، ألا وهو سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وليلة المعركة قالت لأبنائها الأربعة: «يا بَنيّ، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وواللهِ الذي لا إله إلا هو، إنكم لبَنُو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْتُ أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هَجَّنْتُ حَسَبكم، ولا غَبَّرْتُ نَسَبَكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين.

واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله تعالى: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٢٠٠) [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغْدُوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرَتْ عن ساقها، واضطرمت لظًى على سياقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وَطِيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها؛ تظفروا بالغُنم والكرامة، في دار الخلد والمُقامة».

استمع أبناؤها إلى وصيتها، فذهبوا إلى القتال واستشهدوا جميعًا في معركة القادسية، ولم يعد إليها أحد منهم، ولما وصل الخنساءَ نبأ وفاة أبنائها لم تفزع ولم تحزن عليهم كحزنها على أخيها صخر، ولكنها صبرت وقالت قولتها المعروفة: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته».

وكان عمر بن الخطاب يعطيها أرزاق بنيها الأربعة (وكان لكل منهم مئتا درهم) حتى توفيت رضي الله عنها.

هكذا غيّر الإسلام من مفاهيمها ومن تفكيرها ومن سلوكها تجاه الموت الذي لا مفر لأحد منه، ولم يرد عنها أنها قالت حتى بيت شعر واحد ترثي فيه أولادها وفلذات كبدها والتي فجعت بهم في يوم واحد. 

لذا نقول: إن المسلم الذي لا يغير فكرُ الإسلام ومفاهيمه من قناعاته وسلوكه ومن مواقفه في الحياة، ولا يغيّر من واقعه فهذا يعني أن هذا المسلم لم يفهم دينه ولم يتعامل مع الإسلام على أنه منهاج حياة، وسبيل للوصول إلى مرضاة الله عز وجل، ومن بعد ذلك دخول الجنة برحمة الله، وهذا هو والله الفوز العظيم.

اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء وبكرمك ومنتك ارحمنا واحشرنا مع سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه رضي الله عنهم في مستقر عفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *