العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

أيام عشر ذي الحجة… الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ من غيرها

   إنّ أعظم منن الله علينا أن خلقنا وهدانا، ومن هداه لنا أنه دلَّنا على الخير وأرادنا أن نداوم عليه، وجعل لنا في محطات دهرنا نفحات ومواسم، وأراد لنا أن نتعرض لها ونستكثر فيها من العمل الصالح، ونتنافس فيها فيما يقرّبنا إلى ربنا… ومن هذه المحطات والمواسم عشر ذي الحجة. أما عن هذا الشهر فقد سُمي بذي الحجة لحجهم فيه، فهو شهر الحج الأكبر، ومن خصائص شهر ذي الحجة المتفق عليها أنه من الأشهر الحرم، وفيه العشر المباركة، قال السيوطي في (الدر المنثور): أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَوَٰعَدۡنَا مُوسَىٰ ثَلَٰثِينَ لَيۡلَةٗ وَأَتۡمَمۡنَٰهَا بِعَشۡرٖ) قال: ذو القعدة وعشر من ذي الحجة. وأخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي في (الشعب) عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَٱلۡفَجۡرِ ١ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ ٢ وَٱلشَّفۡعِ وَٱلۡوَتۡرِ ٣) قال: إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر. وفي قوله تعالى: (وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ) [الحج:28]، قال ابن عباس وابن كثير يعني: «أيام العشر». وفي (الدر المنثور) أيضًا قال السيوطي: وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن أبي عثمان النهدي قال: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأُوَل من المحرم، والعشر الأُوَل من ذي الحجة، والعشر الأخيرة من رمضان…

 هذا وقد ورد في السنَّة في عشر ذي الحجة خصوصيات جعلتها من الأيام التي تفضل عن غيرها، وجعلت لها من الأعمال ما يتضاعف الأجر والمثوبة بها. أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ». وفي رواية عند الطبراني في الكبير: «مَا مِنْ أَيَّامٍ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا بِعَمَلٍ أَفْضَلَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ». وفي رواية عند الدارمي: «مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ تَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى». وأخرج الطيالسي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده أيام الْعَشْرِ فقال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَمَلُ فِيهِ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ». وفي هذه الأحاديث يبيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجهاد لا يسبق العمل الصالح في هذه الأيام إلا في حالة واحدة، وهي أن يخرج المجاهد مخاطرًا بماله ونفسه فينال الشهادة ويفقد المال ولا يرجع بشيء. قال الشوكاني: والحديث فيه تفضيل أيام العشر على غيرها من أيام السنة. وقال ابن رجب في فتح الباري: «هذا الحديث نص في أن العمل المفضول يصير فاضلًا إذا وقع في زمان فاضل، حتى يصير أفضل من غيره من الأعمال الفاضلة لفضل زمانه، وفي أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره. ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجع منهما بشيء. أما عن الحكمة في تخصيص عشر ذي الحجة بهذه المزية، فقد قال ابن حجر في الفتح: «والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة، لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره”. وكان الحسن البصري لا يتطوَّع بأي صيام وعليه قضاء من رمضان إلا في هذه الأيام العشر، وكان يقول: صيام يوم من العشر يعدل شهرين، وكان جابر بن زيد المحدث والفقيه تلميذ ابن عباس رضي الله عنه يعتمر في العشر الأوائل من ذي الحجة.

ومن خصوصيات العشر من ذي الحجة أنه يستحب لمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا حتى يضحي، ففي صحيح مسلم عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمسَّ من شعره وبشره شيئًا». قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم، وفي رواية «فلا يأخذن شعرًا ولا يقلمن ظفرًا» والمراد بالنهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار.
     ومن خصوصيات العشر من ذي الحجة سنيَّة صيامها، فعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيّام من كل شهر» رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. وقال الإمام النووي عن صوم أيّام العشر أنّه مستحبٌّ استحبابًا شديدًا. وورد في صحيح ابن حبان عن حفصة رضي الله عنها قالت: «أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة». وكان التابعي الجليل سعيد بن جبير رضي الله عنه إذا دخلت أيام العشر اجتهد اجتهادًا شديدًا حتى ما يكاد يقدر عليه، أي لا يجاريه أو يفوقه أحد، وكان يقول: أيقظوا خدمكم يتسحَّرون لصوم يوم عرفة، ولا تطفئوا سرجكم ليالي العشر، كناية عن طول القيام وكثرة الأعمال الصالحة في هذه الأيام المباركة.

     ومن خصوصيات العشر من ذي الحجة ما رواه ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيّام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». رواه الطبراني في المعجم الكبير. وقال الإمام البخاري رحمه الله: «كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيّام العشر يكبِّران ويكبر النّاس بتكبيرهما». وقال أيضًا: «وكان عمر يكبِّر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبِّرون ويكبِّر أهل الأسواق حتى ترتجَّ منى تكبيرًا”. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيّام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه تلك الأيّام جميعًا. والمستحبُّ الجهر بالتكبير لفعل عمر وابنه وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. ومن صيغ التكبير الواردة عن الصحابة والتابعين: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا) (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد) (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد).

    ومن خصوصيات شهر ذي الحجة صيام يوم عرفة منه: يتأكد صوم يوم عرفة لغير الحاجِّ، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال عن صوم يوم عرفة: «صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده» رواه مسلم.

ففي أيام العشر هذه، يمكن للمسلم أن يقوم بكثير من الأعمال الصالحة ويضاعف الأجر فيها، ومنه: الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، والدعاء، وبذل الصدقة، وذكر الله تعالى كثيرًا، وحسن الخلق، وصلة الأرحام وتقديم الأضحية، والاستغفار، والتوبة النصوح، والقيام بمصالح الناس، وإعانة أصحاب الحاجات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه الدعوة إلى إقامة الحكم بما أنزل الله، فإنه من أعظم القربات إذ فيه إقامة الدين كله… فباب الخير في هذه الأيام مفتوح على مصراعيه، ومعلوم أن عمل الخير الذي يتعدَّى صاحبه إلى غيره هو أفضل عند الله من عمل الخير الذي لا يتعدَّى صاحبه، وفي كل خير، فكيف بعمل الخير الذي يتعدَّى خيره إلى الأمة كلها، بل وإلى العالم أجمع؛ فإن فيه الخير كل الخير.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *