العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

مع القرآن الكريم

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَاتَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ٥١ وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ زُبُرٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ حَتَّىٰ حِينٍ ٥٤ أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ٥٦)[المؤمنون]

 

جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآيات:

يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال، والقيام بالصالح من الأعمال، فدلَّ هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح، فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتمَّ القيام، وجمعوا بين كل خير قولًا وعملًا ودلالة ونصحًا، فجزاهم اللّه عن العباد خيرًا، قال الحسن البصري في قوله: ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ) قال: أمَا واللّه ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم، ولكن قال: انتهوا إلى الحلال منه. وقال سعيد بن جبير والضحاك (كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ) يعني الحلال. وكان عيسى بن مريم يأكل من غزل أمه، وفي الصحيح: “وما من نبي إلا رعى الغنم” قالوا: وأنت يا رسول اللّه؟ قال: “نعم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة”، وفي الصحيح: “إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده”، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، إن اللّه طيِّب لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَاتَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ) ، وقال: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام؛ فأنَّى يستجاب لذلك؟!” رواه مسلم والترمذي والإمام أحمد واللفظ له. وقوله: (وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ) أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملة واحدة، وهو الدعوة إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له؛ ولهذا قال: (وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ)، وقوله: (فَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ زُبُرٗاۖ) أي الأمم التي بعثت إليهم الأنبياء (كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُون) أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون، ولهذا قال متهدِّدًا لهم ومتوعِّدًا (فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ) أي في غيِّهم وضلالهم (حَتَّىٰ حِينٍ) أي إلى حين هلاكهم، كما قال تعالى: (فَمَهِّلِ ٱلۡكَٰفِرِينَ أَمۡهِلۡهُمۡ رُوَيۡدَۢا ١٧)، وقال تعالى: (ذَرۡهُمۡ يَأۡكُلُواْوَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلۡهِهِمُ ٱلۡأَمَلُۖ فَسَوۡفَ يَعۡلَمُونَ٣). وقوله تعالى: (أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ) يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد، لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا، كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم (نَحۡنُ أَكۡثَرُ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا وَمَا نَحۡنُ بِمُعَذَّبِينَ) لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم، بل إنما نفعل بهم ذلك استدرجًا وإنظارًا وإملاءً، ولهذا قال: (بَل لَّا يَشۡعُرُونَ)  كما قال تعالى: (فَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا) الآية، وقال تعالى: (إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ )، وقال تعالى: (وَمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُم بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمۡ عِندَنَا زُلۡفَىٰٓ إِلَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا) الآية، والآيات في هذا كثيرة. قال قتادة: مكر واللّه بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم؛ ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح، وعن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “إن اللّه قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن اللّه يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه اللّه الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه”، قالوا: وما بوائقه يا رسول اللّه؟ قال: “غشه وظلمه. ولا يكسب عبد مالًا حرامًا فينفق عبد مالًا حرامًا فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن اللّه لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحو الخبيث” أخرجه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود مرفوعًا.

وجاء في تفسير الظلال لهذه الآيات:

“هذا الدرس الثالث في السورة يبدأ بتصوير حال الناس بعد أمة الرسل. تلك الحال التي جاء الرسول الأخير فوجدهم عليها. مختلفين متنازعين حول الحقيقة الواحدة التي جاءهم بها الرسل من قبل جميعًا.
ويصور غفلتهم عن الحق الذي جاءهم به خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم والغمرة التي تذهلهم عن عاقبة ما هم فيه. بينما المؤمنون يعبدون الله، ويعملون الصالحات، وهم مع هذا خائفون من العاقبة، وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.. فتتقابل صورة اليقظة والحذر في النفس المؤمنة، وصورة الغمرة والغفلة في النفس الكافرة، ثم يجول معهم جولات شتى: يستنكر موقفهم مرة، ويستعرض شبهاتهم مرة، ويلمس وجدانهم بدلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق مرة، ويأخذهم بمسلماتهم فيجعلها حجة عليهم مرة، وينتهي بعد هذه الجولات بتركهم إلى مصيرهم المحتوم، ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه، لا يغضب لعنادهم، وأن يدفع السيئة بالحسنى، وأن يستعيذ بالله من الشياطين التي تقودهم إلى الضلال المبين. (فَتَقَطَّعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ زُبُرٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ حَتَّىٰ حِينٍ ٥٤ أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ٥٦) لقد مضى الرسل صلوات الله عليهم أمة واحدة، ذات كلمة واحدة، وعبادة واحدة، ووجهة واحدة؛ فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق. ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة. لقد تنازعوا الأمر حتى مزَّقوه بينهم مِزقًا، وقطعوه في أيديهم قطعًا، ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحًا لا يفكر في شيء، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسِّه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة، أو يدخل منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير.

وحين يرسم لهم هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ حَتَّىٰ حِينٍ) ذرهم في هذه الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم. ويأخذ في التهكم عليهم والسخرية من غفلتهم؛ إذ يحسبون أن الإملاء لهم بعض الوقت، وإمدادهم بالأموال والبنين في فترة الاختبار، مقصود به المسارعة لهم في الخيرات وإيثارهم بالنعمة والعطاء:
(أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ ٥٥ نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ٥٦) وإنما هي الفتنة، وإنما هو الابتلاء:(بَل لَّا يَشۡعُرُونَ)..لا يشعرون بما وراء المال والبنين من مصير قاتم ومن شر مستطير!”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *