العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

العلم والعمل بما يقتضيه الحال بين علماء الأمس واليوم

م. شفيق خميس _ اليمن

العلم عكس الجهل وضده، وقد رفع الله تعالى من فضيلة العلم. قال تعالى: (أَمَّنۡ هُوَ قَٰنِتٌ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ سَاجِدٗا وَقَآئِمٗا يَحۡذَرُ ٱلۡأٓخِرَةَ وَيَرۡجُواْ رَحۡمَةَ رَبِّهِۦۗ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٩) [سورة الزمر: 9] وقال سبحانه: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَمۡثَٰلُ نَضۡرِبُهَا لِلنَّاسِۖ وَمَا يَعۡقِلُهَآ إِلَّا ٱلۡعَٰلِمُونَ ٤٣) [العنكبوت: 43] وذمَّ الجهل.

العلم أعم والمعرفة أخص. قولك إنك تعرف فلان فأنت تعرف اسمه ومكان إقامته وعمله، وأعلم فلان فأنت تدري أكثر مما ذكرنا، أحواله في الحياة التي هو عليها. وقد فضَّل الله العلم على الجهل، وحضَّ الناس على تحصيل العلوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اسْتَرْذَلَ اللهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلِيْهِ العِلْمَ» [أدب الدنيا والدين. الماوردي ص 51] وفضَّل الله العلوم الشرعية؛ لأن الناس بمعرفتها يَرْشُدُون، وبجهلها يَضِلُّون.

 والعلوم الشرعية ترشدهم إلى العلوم التجريبية، وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: قَالَتِ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ» [رواه الترمذي] ولا ترشدهم العلوم التجريبية إلى العلوم الشرعية. ويكفينا أن بعض المتعلمين وقف بباب عالم، ثم نادى: تصدَّقوا علينا بما لا يتعبُ ضِرْسًا، ولا يُسْقِمُ نفسًا؛ فأُخرج له طعام ونفقة. فقال: فاقتي إلى كلامكم، أشد من حاجتي إلى طعامكم؛ إِني طالب هُدىً لا سائل ندىً. فأذِن له العالم، وأفاده عن كل ما سأل عنه، فخرجَ جَذِلًا فَرِحًا، وهو يقول: علمٌ أوضحَ لَبْسًا، خيرٌ من مالٍ أغنى نَفْسًا.

إلا إن العلم يتبعه العمل. ونعوذ بالله من علم لا ينفع، فما قيمة عالم لا يعمل بعلمه، قال تعالى (۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٤٤) [البقرة: 44] فقد قرن العلم بالعمل، فما قيمة علم لا يفضي إلى عمل؟ فذاك هو الخسران المبين. قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ١٥٩) [البقرة: 159] وقال تعالى: (وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ ١٨٧) [آل عمران: 187].       

أما نيل العلماء للعلم فإن له غاية. فالرغبة في تعلُّم العلم هي نوال رضى الله تعالى، والله ينظر لأعمالهم من بعدُ، أيبتغون بما يسَّر الله لهم من طريق العلم، نوال رضوانه؟ لأن من علم أوامر الله فهو الأولى بامتثالها، ثم بتعليمها للناس ليكونوا كذلك. وأما علم نواهيه، فالانتهاء عنها يبدأ بالعالم ليصل إلى غيره. فالمثال العملي هو ما يجعل للعالم أثرًا سهلًا سريعًا في الناس. يروى أن مملوكِين جاؤوا للحسن البصري رحمه الله، طالبين منه أن يحضَّ الناس على إعتاق المملوكين؛ لكن البصري تأخَّر قليلًا عن إجابتهم، ويرجع السبب في تأخره أنه لم يكن لديه مال، وحين حاز المال اشترى مملوكًا وأعتقه، ثم دعا الناس إلى عتق مملوكيهم. قال الماوردي في كتابه أدب الدنيا والدين، تحت عنوان (شيمة العالم العمل بما علم): «وليكن من شيمته العمل بعلمه، وحثُّ النفس على أن تأتمر بما يأمر به، ولا يكن ممن قال الله تعالى فيهم:

 (مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ) [الجمعة: 5] وقد قال قتادة في قوله تعالى: (وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمٖ لِّمَا عَلَّمۡنَٰهُ) [يوسف: 68] إنه العامل بما علم» [أدب الدنيا والدين، الماوردي، ص: 82]      

احتاج الناس إلى الرسل ليبلغوهم مراد الله منهم، فبلغوا عنه تعالى عبر الرسالات التي أرسلهم بها إلى الناس، فقامت الحجة عليهم أن يقولوا يوم الحساب ما جاءنا من نذير. ثم احتاج الناس للأنبياء من أجل أن يقيموا حياتهم بحسب ما أنزل الله على الرسل قبلهم من رسالات يعرِّفونها بنبوة الله لهم. فحين ختم الله تعالى رسالاته على الأرض برسالة الإسلام، والأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن بعدِ خاتَم الأنبياء لم يبقَ إلا العلماء يعملون بعلمهم، فكان الدور عليهم، في الحفاظ على إقامة دين الله في الأرض، ويرشدون الناس ويوجهونهم للقيام بالأعمال بما آتاهم الله من علم. قال صلى الله عليه وسلم: «إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنَّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان؛ فلم يغيِّر بقول ولا فعل كان حقًّا على الله أن يدخله مدخله» [رواه الطبري في التاريخ، وابن الأثير في الكامل] وقال صلى الله عليه وسلم: «لتأمرُنَّ بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يد الظالم، ولتأطرنَّه على الحق أطرًا، ولتقصرنَّه على الحق قصرًا، أو ليضربَنَّ اللهُ بقلوب بعضكم على بعض وليلعننَّكم كما لعن بني إسرائيل» [أخرجه أبو داود والترمذي] فالأحاديث لجميع أمة محمد، يتصدَّرهم العلماء بما هم أهله، وما مهمتهم في المسلمين، فمن يقوم بذلك إن لم يقم به العلماء؟!.

تحمَّل العلماء منذ صدر الدولة الإسلامية ميراث الأنبياء، مباشرة منذ انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فكان دأبهم هو إظهار الحق والجهر به، رضي الخلفاء أم لم يرضوا، متحمِّلين تبعات ذلك الميراث. قال الفاروق رضي الله عنه للناس: ماذا تفعلون إذا رأيتم فيَّ اعوجاجًا؟ فكان الرد «لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناك بسيوفنا». كما دأب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على القيام برعاية شؤون الناس حق الرعاية، وأراد أن يقلِّل الناسُ من مهور بناتهم، فوقف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفصح عن مراده، فقامت له امرأة لم تخَف في الله لومة لائم وقالت: يا عمر، قال الله تعالى (وَإِنۡ أَرَدتُّمُ ٱسۡتِبۡدَالَ زَوۡجٖ مَّكَانَ زَوۡجٖ وَءَاتَيۡتُمۡ إِحۡدَىٰهُنَّ قِنطَارٗا فَلَا تَأۡخُذُواْ مِنۡهُ شَيۡ‍ًٔاۚ أَتَأۡخُذُونَهُۥ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا ٢٠) [النساء: 20] فقال عمر قولته الشهيرة «أصابت امرأة وأخطأ عمر». ونهض فاتحو سواد العراق يتزعمهم بلال المُزْنِي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريدونه تقسيم السواد بينهم غنيمة لهم، ويعاودون عمر في نيل مطلبهم، حتى قال عمر مقولته: «اللهم اكفني بلالًا وصحبه».

بالأمس يوم كان للمسلمين دولة وخليفة مبايَع على الحكم بالإسلام، وكان العلماء يرقبونه فيما بايعوه عليه، فإن هو وفّى فنعمَّا بها، وإن مال أو اعوجَّ أو رأَوا منه ما يخالف بيعته التي أعطاها إياه المسلمون، حاسبوه وردُّوه إلى الطريق القويم، لا يخافون في الله لومة لائم، موفين بميثاق الله عليهم، ببيان الهدى وإظهار الحق وعدم كتمانه. وقد ملأت حوادثهم صفحات التاريخ. فقد ابتُلي مالك ابن أنس صاحب المذهب المشهور في أيام أبي جعفر المنصور، بعدم تحديث الناس بحديث النبي صلى الله عليه وسلم القائل فيه: «ليس على مستكرَه طلاق» الذي اتخذ منه الخارجون على الخليفة المنصور دليلًا يسعهم في الخروج عليه، قياسًا على الحديث بأنه ليس على مستكرَه بيعة. فقد استغلَّ حاسدو مالك بن أنس عند المنصور، الذي وجَّه بأن لا يحدث مالك الناس بهذا الحديث؛ لكن مالك ظلَّ يحدِّث بالحديث على رؤوس الأشهاد، ووصل الحال بحسَّاده أن ضُرِبَ مالك سبعين سوطًا.

وقد حلت المحنة في بغداد بأبي حنيفة النعمان، حين لم يوافق أبا جعفر المنصور في الشدة مع العلويين، ومن تعرُّض أبي حنيفة لأحكام قضاته، فقد حدّ ابن أبي ليلى القاضي امرأة مجنونة واقفة في المسجد حدَّين لقولها لرجل: يا ابن الزانيين. فقال أبو حنيفة: أخطأ القاضي في ستٍّ: الحدِّ في المسجد فلا تقام الحدود فيه، وضربِها قائمة والنساء تُضرَبْنَ قعودًا، وكان يكفي حدًّا واحدًا بدلًا من حدين، إذ لا يجمع بين حدَّين حتى يخفَّ أحدهما، والمجنونة ليس عليها حد، وحد لأبويه وهما غائبان لم يحضرا فيدعيا. ورفضه قبول عشرة آلاف درهم وجارية من أبي جعفر المنصور، ورفض تولي القضاء، فضرب 110 سوطًا وفرضت عليه إقامة جبرية في منزله، ومُنع من الإفتاء والتدريس إلى أن وافاه الأجل بعد ذلك بقليل.

ولم يمتنع سفيان الثوري من محاسبة المهدي لما حجَّ، وهو الذي أمر بإحضاره، من أن يقول له: كم انفقتَ في سفرك هذا؟ قال: لا أدري، لي أمناء ووكلاء، قلت فما عذرك غدًا، إذا وقفت بين يدي الله تعالى فسألك عن ذلك؟ لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما حجَّ قال لغلامه: كم انفقت في سفرنا هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين ثمانية عشر دينارًا، فقال ويحك اجحفنا بيت مال المسلمين. وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار وأنت حاضر ذلك وأول كاتب كتبه في المجلس، عن ابراهيم عن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ربَّ متخوِّضٍ في مال الله ومالِ رسول الله فيما شاءت نفسه له النار غدًا»، فيقول أبو عبيد الكاتب أحد متزلِّفي الحاشية، أمير المؤمنين يستقبَل بمثل هذا؟ فيجيبه سفيان – بقوة المؤمن وعزة المسلم – اسكتْ، إنما أهلك فرعونَ هامانُ. [الاسلام بين العلماء والحكام. عبد العزيز البدري ص 73]. وهذا شأن العز بن عبد السلام حين عُزل عن الخطابة بجامع دمشق وحُبس؛ لأنه حاسب الملك الصالح على الخيانة السياسية المشهورة التي أقدم عليها الصالح بتحالفه مع النصارى ضد نجم الدين أيوب حاكم مصر، بتسليم صفد وقلعة الشقيف، ومناصفة صيدا وطبرية وجبل عامل وسائر بلاد الساحل، وسمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، فلم يسكت العز وتكلَّم من منبر الجمعة، وذمَّ الملك الصالح على خيانته تلك، وقطع من الخطبة الدعاء له، ودعا «اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياؤك، وتذل فيه أعداؤك، ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك».

وتلاه ابن تيمية مع غازان حين حاسبه على نكثه للعهود حين دخوله دمشق، ولم يخفْ في الله لومة لائم، حتى إنه لم يأكل من الطعام الذي قُدِّم، فأوقعت في قلب غازان من الهيبة والمحبة.

هذا كان حال العلماء، مع وجود خليفة للمسلمين وإقامة الدين في الحكم بما أنزل الله، فكيف يكون حال العلماء في حال غياب خليفة مبايَع على الحكم بالإسلام، وتسلُّط غير المسلمين عليهم، والتنكيل بهم، ونهب خيراتهم، والعمل الدؤوب فيهم لهدم أفكار الإسلام وأحكامه في جميع شؤون الحياة، وتبديلهم بأفكار وأحكام الكفر في جميع مناحي الحياة من حكم واقتصاد واجتماع وتعليم وسياسة خارجية.. إلخ؟

لقد أنزل الله قرآنًا قال فيه بوجوب إقامة سلطان للمسلمين يُحكَمون فيه بالإسلام. وأول من أجاب أمر الله وأقام سلطانًا للمسلمين محمد صلى الله عليه وسلم بإقامة دولة للمسلمين في المدينة المنوَّرة، وعلم العلماء وجوب ذلك. قال الحسن البصري في كتاب أدب الدنيا والدين، في حديثه عما يصلح به حال الدنيا، ستَّ قواعد: الأولى «وهي الدِّين المتَّبع: فلأنه يصرفُ النفوس عن شهواتها، ويَعْطِفُ القلوب عن إراداتها، حتى يصير قاهرًا للسرائر، زاجرًا للضمائر، رقيبًا على النفوس في خلواتِها، نَصوحًا لها في مُلِمَّاتها.» والثانية: «فهي سلطان قاهر، تتألفُ برهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع بهيبته القلوب المتفرقة، وتَنْكَفُّ بسَطْوَته الأيدي المتغالبة، وتَنْقمع من خوفه النفوسُ المتعادية؛ لأن في طباع الناس من حُبِّ المغالبة والمنافسة على ما آثروه، والقَهْر لمن عاندوه، ما لا يَنْكَفُّونَ عنه، إلا بمانع قويّ، ورادع مَلِيّ» وأضاف: «ثم لما في السلطان من حراسة الدين والذَّب عنه، ودفع الأهواء منه، وحراسة التبديل فيه، وزجر من شذَّ عنه بارتداد، أو بُغيَ فيه بعناد، أو سُعيَ فيه بفساد. وهذه أمور إن لم تنحسم عن الدين بسلطان قويّ، ورعاية وافية، أسرعَ فيه تبديلُ ذوي الأهواء، وتحريفُ ذوي الآراء، فليس دين زال سلطانه، إلا بُدِّلت أحكامه، وطُمِست أعلامه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وَهْيه (ضعفه) أثر» وزاد «ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت، زعيم الأمة، ليكون الدين محروسًا بسلطانه، والسلطان جاريًا على سنن الدين وأحكامه…» [أدب الدنيا والدين. الماوردي ص 134 – 136].

فإن علماء كأبي الحسن البصري وغيره قد علموا بوجوب إقامة إمام يحكم الأمة الإسلامية بالإسلام، فأين علماء اليوم ليقوموا بما قام به من سبقوهم من علماء المسلمين بالأمس؟ قالت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» [متفق عليه]. وأي خبث اليوم أكبر من إحلال الحكم بغير ما أنزل الله بين ظهراني المسلمين، محلَّ الحكم بما أنزل الله عن قصد ودراية، لا عن جهل وغواية!!

فمع نهاية الحرب العالمية الأولى نزع الحلفاء سلطان الأمة الإسلامية من يدها، وهدموا دولة الخلافة، وقسَّموا بلاد المسلمين إلى أكثر من خمسين كيانًا، جاعلين بينها حدودًا تَحُوْلُ بينها وبين عودتها تحت إمرة خليفة واحد، ونصَّبوا حكَّامًا على المسلمين للحكم بغير الإسلام في مختلف شؤون الحياة، وحتى اليوم، فهل يتوجَّب على علماء المسلمين اليوم إلا أن يتصدَّروا المشهد وأن يكونوا في صفوف العاملين لاستعادة سلطان الأمة الإسلامية المسلوب منها، وتبصيرها بالواجب المناط بها من وجوب استعادة الحكم بالإسلام، وتنصيب خليفة للمسلمين ومبايعته على الحكم بالإسلام، وإعادة بلاد المسلمين إلى لُحْمَتها كما كانت، تحت راية العقاب، راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، محل أعلام ذات ألوان ترمز إلى أفكار ومفاهيم هبَّت علينا من الغرب اللاديني، قُلِّدت فيها الوطنية القادمة من فرنسا، ونُزِعَتْ عنها سيادة الشرع، واستُبدلت بها سيادة الشعب؟!.

بل يتوجَّب على علماء المسلمين تشمير سواعدهم للعمل على إقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوَّة. وإبعاد يد الاستعمار الرأسمالي الغربي عنها بشتى أشكاله الظاهرة والخفية، العسكرية والاقتصادية والثقافية، وإزالة هيمنته وسيطرته عن بحار المسلمين، واستعادة مآثر المسلمين من خير الدين بربروسا وطرغد، والاستفادة مما تبقَّى من نفط مضى ما يزيد عن قرن على استخراجه واستنزافه بعيدًا عن منافع المسلمين ومصالحهم.

لقد سرَّنا ما رأينا منذ أعوام حشد لا بأس به من علماء المسلمين، يذكرون دولة الخلافة وعودتها المرتقبة، من بعد غياب زاد عن المدة المحددة بالشرع، فلم تعدَّ بالأيام بل عُدَّت بعشرات السنين؛ إلا أن ذلك لا يكفي، خصوصًا أن الطريق صار مرسومًا واضحًا لإقامتها، الطريق الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة دولة المسلمين الأولى في المدينة المنورة، لا الديمقراطية اليونانية، ولا سواها من الطرق التي لن تؤدي إلى إقامة دولة للمسلمين.

ولينضم ذلك الحشد من العلماء مع علماء نذروا أنفسهم للعمل على إقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة (فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا)، فيكتب لهم عزُّ الدنيا من بعد الهوان، وثوابُ الآخرة الذي يرجوه، ويكونون من الفائزين، وينجون من سؤال الله: ماذا فعلتم في زمان يُحكم فيه أمام أعينكم بغير ما أنزل الله؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *