العدد 431 -

السنة السابعة والثلاثون – ذو الحجة 1443هـ – تموز 2022م

النظام الاقتصادي الأمثل (1)

(الحاجة إلى العلم بالنظام الاقتصادي الإسلامي)

محمود عبد الهادي

أهمية العقيدة وأفكار الاقتصاد للنهضة

  الاقتصاد من أهم عناصر قوة الدولة، وللاقتصاد القوي أثره البالغ في ازدهار المجتمع وكفاية أفراده، وفي امتلاكهم وسائلَ العيش وتنعمهم بها. وقوته ضرورية للدولة لتتمكن من امتلاك وسائل القوة لحماية حدودها ونظامها وأمنها الداخلي والخارجي، ولتطوير وسائل القوة والتقدم. كما أنه أكثر ضرورة للتأثير في الموقف السياسي الدولي وفي نشر الأفكار التي تقوم عليها الدولة.

إلا أن الاقتصاد ليس العامل الأهم بين عوامل القوة؛ إذ يسبقه في الأهمية بمقدار كبير الأفكارُ التي تقوم عليها الدولة وتحملها الأمة عن الحياة الدنيا، أي الأفكار عن طريقة العيش، وتسبقه أكثر العقيدة التي تشكل الأساس والقاعدة الفكرية لهذه الأفكار. وبغير هذه العقيدة فإن الأفكار التي تنبثق عنها تتبدل وتندثر، فتضعف الدولة وتسير في طريق الانحلال، ويفقد المجتمع عوامل ترابطه وأسباب وحدته، وتفقد الأمة أفكارها التي تتميز بها وخصائصها، وتصبح بلا طريقة عيش معينة، فتفقد وحدتها وتتلاشى عناصر قوتها، فتضعف وتفقد ثرواتها الاقتصادية التي تنقلب نقمةً عليها بدل أن تكون نعمة. بل إن فقدان الدولة للأفكار التي تقوم عليها يعني بالضرورة زوالها في الحقيقة وإن بقي لها هيكل في الظاهر، وفقدان المجتمع أو الأمة للأفكار التي تعتنقها والأفكار والمفاهيم التي تصوغ سلوكها وتُصور طريقة عيشها كفيل بأن تفقد العلوم والمعارف والثقافات التي تتميز بها، وكفيل بأن تجهل تاريخها وتنساه ثم أن تتنكر له.

إن الحقائق الأكيدة والوقائع المشهودة تنطق بهذا ولا تدع مجالًا لشك فيه أو استدراك، فلقد سقطت دولة المسلمين، رمز وجودهم ووحدتهم، وحافظة دينهم وأمنهم، ومبعث عزِّهم وقوتهم؛ الخلافة، سقطت بعد أن نالها من الضعف في إدراك أفكار الإسلام ما نالها. لم تفقد كل أفكارها عن الإسلام، ولا فقدت عقيدتَها أساسَ هذه الأفكار، وإنما أصابها ضعفٌ شديدٌ في فهم أفكار الإسلام فسقطت، وفقدت الأمة الإسلامية وحدتها السياسية، وصارت مِزَقًا متباينة، وتعددت ولاءاتها لغير الإسلام، وصارت مجتمعاتها أقرب في كثير من أفكارها وسلوكها إلى الكفر والكفار منها إلى الإسلام، ونبت فيها كثيرون ممن يُعَدّون – زورًا وخداعًا – نُخَبًا ومفكرين وقادةً وعلماءَ، يفكرون على غير أساس الإسلام في الحكم والاقتصاد والتشريع، وكذلك يُنظِّرون ويُفتون في سائر شؤون المجتمع والعلاقات، بل ويتنكرون للإسلام ويهاجمون أفكاره وتاريخه ويصفونه بالتخلف ويصفون حمَلته بالظلاميين والإرهابيين، ويتآمرون عليه وعلى أمته.

وعليه، فما لم تتمكن أفكار الإسلام من المسلمين أو يتمكنوا منها فهمًا وسلوكًا؛ ليكون وجوب تطبيقها رأيًا عامًا مبنيًا على وعي عام، بأنها هي أفكار الشرع الموحى به من عند الله تعالى فلا ترِدُ المساومة عليها أو التنازل عن بعضها بمنافع أو وعود ولا بمخاطر أو تهديدات، ولا ينطلي عليهم تعديلها أو تحريفها بذريعة ضرورةٍ أو حاجةٍ أو تطويرٍ أو حداثة، ما لم ترجع هذه الأفكار رأيًا عامًا هكذا فلا سبيل إلى نهضة المسلمين وإقامة دولتهم واستئناف طريقتهم في العيش وحمل دعوة الإسلام إلى الناس، وضم سائر المسلمين واستعادة وحدة الأمة في ظلال راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.

عودة الأمة إلى الإسلام كنظام شامل للحياة

ورغم كل ما حل بالمسلمين ويحل من نكبات ونكسات وكوارث ومجازر، ورغم كل ما بُذل من جهود ومؤامرات للقضاء على الإسلام وأمته ومحوهما من الوجود، فإن واقع الحال يؤكد أنهم يرجعون إلى فهم دينهم والتمسك به حيثما وجدوا في بقاع الأرض وزواياها، وقد صار إدراك أن الإسلام ليس دينًا كهنوتيًا كغيره من الأديان، ولا مجرد عقيدة روحية وعبادات فحسب، بل هو عقيدة مقنعة للعقل وينبثق عنها نظام لكافة شؤون الناس والحياة؛ الفرد والمجتمع والدولة، والمسلمين وغيرهم، وكل العلاقات، صار إدراك هذا الأمر رأيًا عامًا عند المسلمين، وهذا ما أرعب دهاقنة الكفر وملوكه من حكام الدول الكبرى وعملائهم وشَغَلهم، فراحوا يفكرون ويقَدِّرون ويتآمرون للقضاء على هذه العودة الحميدة للأمة وتوجهها المبارك.

لستُ في معرض ذكر الشواهد على هذا الأمر إذ ليس هو موضوعي هنا، ولكنني أكتفي بالاشارة إلى التوجه العالمي والشامل من الدول الكبرى وأدواتها لمواجهة هذه العودة الحميدة إلى فهم الإسلام بتسميتها إرهابًا، وبإصدار التشريعات وعولمتها لمحاربة الإسلام، ولاعتبار الساعين إلى إقامة الدولة الإسلامية إرهابيين ومتطرفين يجب القضاء عليهم وعلى أفكارهم، ولإطلاق القوانين لأجل ذلك وجعلها عُرفًا دوليًا. ولقد قطعت جَهِيزَةُ قول كل خطيب عندما وقف وزير خارجية روسيا في الأمم المتحدة ليبرر جرائمه، بل جرائم كل دول العالم، وقال عن ثورة أهل سوريا ضد جزَّارها بشار أسد ونظامه الطاغوتي: «إن ما يجري في سوريا ليس ضد الدكتاتورية، وليس لأجل الديمقراطية، بل إنه ضد المجتمع الدولي لأجل إقامة أمة الإسلام». نعم، هكذا يعلنون من أعلى منصة عالمية حقيقةَ مخاوفهم ومبررات مجازرهم ووحشيتهم. وصدق الله العظيم حيث يقول: (إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ ٣٦).                                                                                                                                           

ولقد وُجد رأي عام لصالح الإسلام ودولته وحكمه ولإسقاط النظم القائمة، إلا أن هناك جوانب من أنظمة الإسلام وقواعدها وتفاصيلها ما زالت مغيَّبة عن المسلمين؛ وذلك بسبب بعد العهد بينهم وبين الإسلام مطبقًا في الدولة، وبسبب محاربة الأنظمةِ القائمةِ الدعوةَ إلى الإسلام ودولته وأنظمته، وبسبب علماء السلاطين الذين يصرفون المسلمين عن حقائق دينهم، وغيرِهم ممن استحوذ عليهم الواقع الفاسد فصاروا يرَوْن أحكام الإسلام أو يفهمونها متأثرين بهذا الواقع وعلى أساس الأفكار الغربية السائدة فيه. وكان من أهم ما حصل الجهل فيه الأحكامُ المتعلقة بأنظمة الحكم والاقتصاد في الإسلام.

الجهل بالنظام الاقتصادي الإسلامي

وإنه وإن حصل وعيٌ إلى حدٍّ ما على نظام الحكم في الإسلام وقواعده وكثير من أحكامه، بسبب تركيز حمَلة الدعوة على هذا الجانب المهم، إلا أن الوعي على مثل ذلك في النظام الاقتصادي ما زال في الحضيض، لا أقول عند عوام المسلمين، بل عند علمائهم ونُخَبهم وعند المتخصصين في هذا الجانب، وعند دعاتهم في حركات إسلامية كثيرة، وهذا يعد نقصًا وعامل ضعفٍ في الصراع الفكري ينبغي الانبراء لمعالجته ولا يجوز إغفاله، وينبغي فرض المعرفة فيه على الرأي العام من خلال فرضها على العاملين والمتخصصين، وذلك بتقديم أفكار النظام الاقتصادي في الإسلام كحقائق وأحكام شرعية لها أدلتها، وكمعالجات عملية لمشاكل الناس والمجتمعات والعالم، وبتحويل هذه الأفكار إلى مفاهيم عند رواد العمل الاسلامي والمتخصصين.

إن العالم يعاني اليوم ويئن تحت وطأة الرأسمالية التي تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، وينبثق عنها أفكار الحريات العامة في الحقوق والواجبات، والديمقراطية في الحكم، والنظام الرأسمالي في الاقتصاد. وإن كان الغزو الفكري الغربي لبلاد المسلمين بهذه الأفكار قد نجح ردحًا من الزمن، وانتشى دهاقنة الكفر وأساطينه في الغرب والشرق بذلك فترةً من الزمن وعلى حين فتورٍ من المسلمين، فإن المسلمين ما لبثوا أن استيقظوا من سبات، وصحَوْا من غفلة، ليطهروا نفوسهم من أرجاس مادية الغرب والشرق، وليلقوا عن كواهلهم أثقال الذلة وينزعوا عن أعناقهم قلائد المهانة والتبعية، وليصرخوا في وجوه مستعمريهم وجلاديهم: لا؛ لا شرقية ولا غربية، إسلامية إسلامية، لا ديموقراطية ولا رأسمالية بل خلافة إسلامية. وبعد خداعات ومخادعات، وأناتٍ وتضحيات، ولجوءٍ إلى الله وحده؛ ما لنا غيرك يا الله، انكشف الغرب ودهاقنته والشرق وأساطينه، وبرز حقدهم على الإسلام والمسلمين، ورعبهم من الحق والحقيقة؛ من الإسلام والخلافة. انكشفوا عن وحوشٍ بشريةٍ وشياطين من الإنس، وتهاوت كل مزاعمهم عن قيم الحرية والإنسانية والحقوق والقوانين، فإذا هم غارقون في الكفر والجشع والتوحُّش، ومتجاوزون في شذوذهم حدود الفطرة الإنسانية، حتى تملكتهم شهواتهم وتمكنت منهم ماديتهم وتلاشى عندهم أي اعتبار لقيمة روحية أو إنسانية أو أخلاقية. استحوذت عليهم شهواتهم فلم يبقَ عندهم اعتبار لشيء إلا للقيمة المادية، وحتى هذه فشلوا فيها وأورثتهم القلق والرعب والطواعين، وأورثت العالم بسببهم شقاءً يتقلب على أشواكه وسعيرًا يتلظى في لهيبه.

نعم، في خِضَمِّ هذا الصراع بين الإسلام الصاعد والرأسمالية المأزومة، لا يكاد يبقى أو يظهر في صراع الغرب ضد الإسلام إلا هذا الجانب، جانب النظام الاقتصادي الرأسمالي، والذي يقوم على السيطرة الاقتصادية على العالم بالقوة والخداع. وهو يدرك أن فقدانه لهذه السيطرة هي سقوطه وسقوط مبدئه واندثار طريقته في العيش. نعم، إن الاستعمار ليس سيطرة اقتصادية فقط، بل هو السيطرة الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية؛ ولكن الغرب سقط فكريًا، وقد صرَّح بعض قادته بأنهم خسروا الحرب الفكرية مع المسلمين، وفشل سياسيًا وانكشف بأنه كذَّاب مخادع، وأضحى لا يملك إلا القوة العسكرية لتنفيذ خططه وسياساته، وهو يخوض حروبًا عسكرية مع الأمة الإسلامية، يقتل فيها ويدمر ولكنه لا يُنهي حربًا ولا يكرِّس نصرًا، بل هو ينكشف سياسيًّا ويتردَّى أخلاقيًّا، وتزداد الأمة معرفةً بشذوذه ووعيًا على دينها وذاتها، وتزداد ثقةً بنصر الله لها وبعودة خلافتها، وتغذُّ الخطى مسرعةً نحو وحدتها، لا تقيم وزنًا لحدود خطَّها الكافر المستعمر في بلادها على حين كبوةٍ منها.

ورغم كل ذلك فإن الجهل بالنظام الاقتصادي في الاسلام، وبخصائصه في معالجة الإنسان، وبقدرته على تفجير الطاقات الهائلة للإنتاج الهائل، وفي استثمار كل موارد الثروة بشكل مثالي بل مُعجز، وفي توزيع الثروة على كل الأفراد وبأعيانهم، وبأحكامه التي تضمن تحقيق الكفاية لكل فرد يعيش في فيء ظلاله الوارفة، وكل ذلك من ضمن نظام كامل للحياة وشامل، لا يقتصر على حفظ عيش الناس واقتصادهم فقط، بل يحفظ عليهم أيضًا دينهم وأعراضهم وكراماتهم وأمنهم وأخلاقهم وطمأنينتهم، إن الجهل بهذا النظام يُفقِدُ حمَلة الدعوة أحد أهم مصادر القوة والحسم في هذا الصراع، ويُعطي العدو الكافر المستعمر مزيد فرص للخداع والنفاذ إلى تحقيق أهدافه في عرقلة نهضة الأمة وتأخير انعتاقها من أغلاله.

 

من علامات الجهل بأحكام الإسلام في الاقتصاد

إن من علامات هذا الجهل، ومن بقايا الانحطاط الذي أصاب الأمة، ومن أسباب إطالة أمد هيمنة الغرب الرأسمالي على المسلمين أن يصرح عالم مشهور بُعَيْدَ حصول الأزمة المالية العالمية في العام 2008م وأن يؤكد أن أمريكا ستخرج من أزمتها؛ لأن الرأسمالية – بزعمه ووهمه – تُجَدِّد نفسها! هكذا يصرح ويكرر فيقرر ما يخدع الغربيون ويخادعون به أنفسهم، بدل أن يبيِّن الحقيقة الصارخة بأن الرأسمالية هي سبب ظلم العالم وشقائه، وأنه قد انكشفت بهذه الأزمة – وبغيرها – عفونةُ أفكارها وجرائم منهجها والدمار الناتج عنها، وبدل أن يشرح حقيقة الرأسمالية بأنها تنهب الثروات وتُفقر الأغنياء وتقضي على الفقراء وتفترس الشعوب وتنهش لحومها، وبأنها عما قريب ستأكل نفسها وتنطفئ كما تأكل النار الحطب وتنطفئ، وستمسي رمادًا تشتدُّ به الريح في ليلٍ عاصف؛ بدلًا من ذلك فإنه يروِّج لها بأنها تجدِّد نفسها وكأنها آية العدل بين العباد، ومنتهى الإبداع في الاقتصاد!

ومن علامات هذا الجهل، ومن دلائل محاربة الإسلام كنظام قادم للتطبيق في دولة الخلافة، ومن دواعي التركيز على بيان النظام الاقتصادي في الاسلام وقواعده وأحكامه، أنه أثناء الثورات التي قامت في بعض البلاد العربية وظهور توجُّه عارم عند الشعوب لانتخاب من يسعى لتطبيق الإسلام تبين أمران:

الأول: إن الشعوب بعمومها تطالب بالإسلام، ولكنها في كثير من الأحكام المتعلقة بالحكم أو الاقتصاد أو العلاقات الدولية، لا تميز بين ما هو إسلام وما هو ليس كذلك، وهذا لم يكن مقتصرًا على عوام المسلمين، بل كان ظاهرًا في مشايخ وعلماء وروَّاد في العمل الإسلامي، وقد كان هذا جليًا في الدستور المصري الذي أقر في العام 2012م؛ حيث عدَّه كثير من رموز العلم والعمل الإسلامي دستورًا إسلاميًا فيما هو يعجُّ بالكفر عجًّا.

الثاني: عندما ظهر تعبير النظام الاقتصادي الاسلامي كنظام تريد الشعوب تطبيقه، تصدَّت رموز علمانية وأجهزة إعلامية وشخصيات مختلفة، تتساءل تارةً باستنكار لهذا التعبير وتارة بسخرية منه وتتبجح بقولها: ما هو النظام الاقتصادي الاسلامي؟! هل هناك نظام اقتصادي إسلامي؟! وهل هناك نظام اقتصادي غير هذا النظام الرأسمالي الذي يعرفه العالم، والذي يمثِّل ذروة التطور الذي تفتقت عنه عبقرية البشر؟!

إن هذين الأمرين يدلَّان على مواطن ضعف ينبغي التركيز عليها في مخاطبة جماهير المسلمين والعلماء والمتخصِّصين وحملة الدعوة؛ إذ ينبغي إيجاد الرأي العام الإسلامي الصحيح، ونبذ كل فكر آخر وعدم الوقوع في أحابيله وفخاخه، وبخاصة فيما يتعلق بدساتير غير إسلامية يُزعَم أنها إسلامية، وبأنظمة حكم واقتصاد غير إسلامية يُزعم أنها إسلامية. فواقع الحال يقتضي مزيد اهتمام وجهد بمواطن الضعف هذه، وبخاصة المذكور أعلاه في الأمر الثاني حول النظام الاقتصادي الإسلامي.

إن المبدأ الرأسمالي يتهاوى، ووجود مطامع غربية في نشره وتحميله للمسلمين وجعله بديلًا عن الإسلام ليس إلا غرورًا جاوز كل حد، ويدلُّ على جهل كبير في فهم واقع الأمة الإسلامية وحركتها واتجاهها، وعلى جهل لا نهاية له في تقدير تأثير الإسلام وعقيدته في المؤمنين به عندما يعُون أفكاره وأحكامه وتصبح مفاهيم لديهم. ويكاد اليوم لا يبقى تأثير كبير لغزو الفكر الغربي على المسلمين إلا في أفكار الاقتصاد والسياسة الاقتصادية، ومن هنا يأخذ الاهتمام بأفكار وأحكام النظام الاقتصادي الإسلامي أهميته، وتزداد هذه الأهمية لما للاقتصاد وقوته من دور وتأثير في الحياة وفي قوة الدولة، وفي القدرة على تنفيذ المشاريع وإنجاز الأعمال وتحقيق الأهداف. وغالبية أعمال الفرد والدولة لا تخلو من أحكام تتعلق بالمال والاقتصاد، وكما يقال فالمال عصب الحياة.

وفي ختام هذا الكلام، وفي مورد استكمال البحث فيه، لا بد من بيان الظلال الوارفة لنظام الاقتصاد الإٍسلامي وبيان حقيقة الشقاء والسعير والخداع والظلم الذي يقابله في النظام الغربي الرأسمالي، ولا بد معه من بيان القواعد العامة والخطوط العريضة للنظام الاقتصادي في الإسلام، على طريقة (والضد يُظهر حسنَه الضدُّ) وفي هذا المجال لن نجد أفضل من الاعتماد على كتاب (النظام الاقتصادي في الاسلام) لفضيلة العلاَّمة المجدِّد الشيخ تقي الدين النبهاني؛ حيث لم أجد في هذا الباب مثله في عمقه وإحاطته، وموضوعيته وعبقريته، ثم ما أعدَّه هذا الشيخ العلاَّمة، من مواد دستورية في هذا المجال، جاءت من ضمن مشروع دستور أعدَّه حزب التحرير للدولة الإسلامية المرتقبة قريبًا بإذن الله تعالى، وهو متوفر كاملًا في كتاب: مقدمة الدستور أو الأسباب الموجبة له، من منشورات حزب التحرير. والقصد من ذلك هو إظهار نموذج للدستور الإسلامي، ولصياغة مواده كدستور أولًا، وكدستور للدولة الإسلامية ثانيًا، وليكون ردًا على المستهزئين المنكرين لوجود نظامٍ اقتصاديٍ إسلاميٍ فريدٍ ومتميزٍ ومستمَدٍّ مما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومستنبطة أحكامه وقواعده بطريقة الاجتهاد الشرعية الثابتة المنضبطة بالأصول الفقهية والمصادر الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله والقياس الشرعي وإجماع الصحابة حصرًا. وفي هذا سنجد بين أيدينا نظامًا اقتصاديَّا إسلاميًّا عصريًّا مستنبطة أحكامه على طريقة الأوائل في الاستنباط يستحق أن يطلق عليه (النظام الاقتصادي الأمثل)… هذا ما سنتناوله في أعداد لاحقة حتى يستكمل بحثنا هذا، وعلى الله قصد السبيل. [يتبع]

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *