العدد 414-415-416 -

السنة الخامسة والثلاثون – رجب وشعبان ورمضان 1442هـ – شباط وآذار ونيسان 2021م

التجديد وعد من الله لا يخلف، يقوم به اليوم من يحيي الله بهم الدين، ويقيمه في حياة المسلمين

عن أبي هريرة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمأنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا» رواه أبو داود، وصححه السخاوي في «المقاصد الحسنة» والألباني في “السلسلة الصحيحة».

فالتجديد لغةً: تصيير الشيء جديدًا، وجدَّ الشيءُ؛ أيْ: صار جديدًا، خِلاف القديم. فالتَّجديد على ذلك: جَعْل القديم جديدًا؛ أيْ: إعادة القديم، ورَدُّه إلى ما كان عليه أوَّلَ أمرِه، وليس تعديلَه، أو تبديله، أو تغييره. أمَّا التجديد شرعًا فهو إعادةَ الدِّين إلى النَّحو الذي كان عليه زمن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وما استقرَّ عليه في القرون الفاضلة الثَّلاثة الأولى. وهو يقتضي إحياء وبعْث ما اندرَس من الدِّين, وتخليصه من البِدَع والـمُحْدَثات، وتَنْزيله على واقع ومستجدَّات الحياة، وتنقية الإسلام مِمَّا علق به من أرجاس الكفر، واستنباط الأحكام الشَّرعية على الطريقة الشرعية كما كانت زمن الرعيل الأول، وتَنْزيلها على ما جدَّ ويجدُّ من وقائع وأحداث، ومعالَجتُه معالجةً نابعة من هَدْي الوحي حصرًا.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحال المبطِلين، وتأويل الجاهلين» حديث مشهور صححه ابن عبد البر. وقال عنه أحمد إنه صحيح سمعه من غير واحد. وذكر العلامة ابن القيِّم طرق الحديث في مفتاح دار السعادة.

 وقال الإمام النووي في شرحه: «هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفِّق له في كل عصر خلَفًا من العُدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بعد فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر»

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فَنَزَلنَا مَنْزِلًا، فَمِنَّا مَنْ يُصلِح خِبَاءَه، ومِنَّا من يَنْتَضِل (يرمي بالنبل)، ومِنَّا مَن هو في جَشَرِهِ (يرعى دوابه) إِذْ نادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاةُ جَامِعَةٌ». فاجْتَمَعنَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّه لَمْ يَكُن نبيٌّ قبْلِي إِلاَّ كَان حَقًّا عليه أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَه عَلَى خَيرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُم، ويُنذِرَهُم شّرَّ ما يعلمه لهم، وإِنَّ أُمَّتَكُم هذه جَعَل عَافِيَتَهَا في أوَّلِها، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وأُمُورٌ تُنكِرُونَهَا، وتَجِيءُ فِتنَةٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعضًا، وتَجِيءُ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هَذِه هذِه. فمَنْ أَحَبَّ أنْ يُزَحْزَحَ عن النار، ويدخل الجنة، فَلْتَأْتِه مَنِيَتُهُ وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وَلْيَأتِ إِلى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إليه، ومَنْ بَايَع إِمَامًا فَأَعْطَاه صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمْرَةَ قلْبِهِ، فَلْيُطِعُه إِن اسْتَطَاع، فَإِن جَاء آخَرُ يُنَازِعُه فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ».

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس» .رواه أبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن، وصححه الألباني. وفي حديث آخر عند الترمذي: «فطوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنَّتي». وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ونقل النووي في شرح صحيح مسلم عن القاضي عيَّاض أنه قال في معنى الحديث: «إِنَّ الإِسْلام بَدَأَ فِي آحَاد مِنْ النَّاس وَقِلَّة، ثُمَّ اِنْتَشَرَ وَظَهَرَ، ثُمَّ سَيَلْحَقُهُ النَّقْصُ وَالإِخْلال، حَتَّى لا يَبْقَى إِلا فِي آحَادٍ وَقِلَّةٍ أَيْضًا كَمَا بَدَأَ «. وجاء في «فتاوى اللجنة الدائمة”: «معنى الحديث أن الإسلام بدأ غريبًا حينما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليه فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فكان حينذاك غريبًا بغربة أهله؛ لقلَّتهم وضعفِهم مع كثرة خصومهم وقوتهم وطغيانهم وتسلطهم على المسلمين، حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة فرارًا بدينه من الفتن وبنفسه من الأذى والاضطهاد والظلم والاستبداد، وحتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى إلى المدينة بعد ما ناله من شدة الأذى ما ناله رجاء أن يهيئ الله له من يؤازره في دعوته، ويقوم معه بنصر الإسلام، وقد حقَّق الله رجاءه فأعزَّ جنده ونصر عبده وقامت دولة الإسلام وانتشر بحول الله في أرجاء الأرض، وجعل سبحانه كلمةَ الكفر هي السفلى، وكلمةُ الله هي العليا، والله عزيز حكيم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، واستمرَّ الأمر على ذلك زمنًا طويلًا، ثم بدأ التفرُّق والوهنُ، ودبَّ بين المسلمين الضعفُ والفشلُ شيئًا فشيئًا حتى عاد الإسلام غريبًا كما بدأ؛ لكن ليس ذلك لقلَّتهم، فإنهم يومئذ كثير، وإنما ذلك لعدم تمسُّكهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم، وتنكُّبِهم هديَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من شاء الله، فشغلهم بأنفسهم وبالإقبال على الدنيا، فتنافسوا فيها كما تنافس من كان قبلهم، وتناحروا فيما بينهم على إمارتها وتراثها، فوجد أعداء الإسلام المداخل عليهم، وتمكَّنوا من ديارهم ورقابهم فاستعمروها وأذلُّوا أهلَها وساموهم سوء العذاب، هذه هي غربة الإسلام التي عاد إليها كما بدأ بها». وقد رأى جماعة – منهم الشيخ محمد رشيد رضا – أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية، آخذين ذلك من التشبيه في قوله صلى الله عليه وسلم «وسيعود غريبًا كما بدأ» فكما كان بعد الغربة الأولى عزٌّ للمسلمين وانتشارٌ للإسلام، فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار.

– روى البخاري ومسلم عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» وفي رواية لمسلم «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ». قال شيخ الإسلام رحمه الله: «هذا الحديث حديث ثابت متواتر من جهة استفاضة ثبوته عند الأئمة، ومخرج في الصحيحين من غير وجه وفي غيرهما. وهذا الحديث فيه تقريرٌ لكون الأمة سيدخلها افتراقٌ واختلافٌ في مسائل أصول الدين؛ ولهذا وصف عليه الصلاة والسلام هذه الطائفة بأنها الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأنهم على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تخلو الأرضُ من قائمٍ لله بحجة، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة. وهذه الطائفة هي التي تقوم بمجموعها أو ببعض أفرادها بأمر تجديد الدين، بإحياء ما اندرس منه، ودعوة الناس إلى العودة إليه والعمل به كاملًا كما أنزل.

وهناك أحاديث أخرى في هذا الباب؛ ولكن هناك أمور لا بد من تسليط الضوء عليها حتى ندرك مدى أهمية هذه الأحاديث، ومن ذلك:

إن ما ورد من أحاديث التجديد فيها إخبار من الشرع للأمة بأنه يحصل تغيُّر في الدين بين الحين والحين، وهذا التغيُّر أراد الله سبحانه أن يبعده عن الدين فلا يبقى؛ فتفضَّل على المسلمين بأن هدى منهم مَن يُعيد الدينَ إلى ما كان عليه نقيًّا من كل ما يمكن أن يكون قد علق فيه مما ليس منه، صافيًا لا غبش فيه، ويعود بهم في فهم الدين إلى طريقة الأولين، ويجنِّبهم البدع، ويبعد عنهم محدثات الأمور، ويرد الشبُهات، ويدحض التشكيكات… فهو سبحانه كما حفظ الدين بنصوصه فقال: ( إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩ ) كذلك حفظه رحمة منه وفضلًا بأن يسَّر له من أهله من يحافظ على فهمه غضًّا طريَّا، صافيًا نقيًّا، تمامًا كما كان زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؛ حتى يبقى هذا الدين على كماله وتمام نعمته إلى قيام الساعة، وحجَّةَ الله على خلقه أو حجة لهم.

إن مثل هذه الأحاديث لتشبه إلى حد بعيد ما ذكره القرآن أنه وُجد في الأمم السابقة من كانوا أولي بقية ينهَون عن الفساد في الأرض، وذلك بقوله تعالى: (فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ ١١٦) فالله سبحانه جعل كذلك في أمة الإسلام أولي بقية ممن ينهَون عن الفساد، ولا يضيع الحق عندهم، بل يحيي الله بهم الدين، ويقيمه للمسلمين، وقد ورد في هذا المعنى كلام رائع للإمام أحمد (وينسب كذلك لسيدنا عمر بن الخطاب) يقول: «الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبِرون على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيَوه، وكم من تائهٍ ضالٍّ قد هدوه، فما أحسنَ أثرَهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متَّفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهَّال الناس بما يشبهونه عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلِّين». 

إن الله سبحانه قد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وجعل الدين الإسلامي خاتم الأديان، وفي الوقت نفسه جعل الخلفاء يأخذون مهمة الأنبياء في الحكم بما أنزل الله ورعاية شؤون الرعية. ففي الإسلام يستمر الدين في مهمته هداية الناس إلى قيام الساعة بالخلافة الراشدة والخلفاء العدول الشهود على الناس. واليوم نحن نرى أن الاستخلاف الذي كان مهمة الأنبياء، والذي يرثه من بعدهم الخلفاء وراثة تكليف هو معطَّل، ومعطَّلة معه معظم أحكام الإسلام، والمطلوب شرعًا اليوم هو إقامة الدين كله بإقامة الخلافة الراشدة، وحتى تكون راشدة لا بد أن تكون في فهمها وتطبيقها للإسلام على طريقة الرعيل الأول من الأمة، أي زمن النبوة والخلافة الراشدة، حتى إنه ليمكن القول بكل ثقة واطمئنان إن التجديد اليوم محصور بإقامة الخلافة الراشدة.

إن الله سبحانه قد وصف الأمم السابقة بالقرون وجعل لكل أمة أجلًا، وجعل لمهلكهم موعدًا،

وفي هذا ربط للأمم التي ترسل إليهم الرسالات بالزمن كما رُبط التجديد في الإسلام بالزمن حيث حدد بقرن أو بمئة سنة كما ورد في الحديث. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *