العدد 384 -

السنة الثالثة والثلاثون – محرم 1440هـ – أيلول / سبتمبر 2018م

الهجرة النبوية

الهجرة النبوية

 المهندس عبد اللطيف الشامي

في الذكرى الماضية لهجرة رسول الله ﷺ، سمعت العجب، وممن؟ من أناس يخاطبون الأمة من على منبر رسول الله ﷺ، ومن كثير من المسلمين، ومن كثير من العلمانيين، تفننوا جميعًا في طمس الحقيقة التي تسطع مثل ضوء الشمس المبهر، وكنت أتساءل: لم يفعلون ذلك؟ وما هي دوافعهم؟.

ففي خطبة الجمعة التي رافقت الذكرى، وقف الخطيب واعظًا مستنتجًا أن أهم ما يمكن للأمة أن تستفيده من دروس الهجرة هو هجر المعاصي والعودة لله. فالهجرة اليوم تعني عنده هجر المعاصي من فجور وخمور وهو يتحدث لمصلين… وآخر تذكره الهجرة الشريفة بمعجزة رسول الله ﷺ مع سراقة بن مالك حين غاصت قوائم جواده في الصخر الصلد… وآخر يستذكر قدرة الله تعالى في التعمية على تحركات رسوله في طريق هجرته، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ٩﴾ ويسرد لك نسجًا لعنكبوت وبيضًا لحمامة وغار… وآخر يستذكر لحنًا لرامي في طلع البدر علينا… أما المتذاكي منهم فقد قال: لقد فرَّ بدينه… والحديث يطول ويطول

ولكن ألا نرى جميعًا أننا بلغنا منزلة كبيرة من التغييب، وكأنه تغييب متعمد!. قال تعالى في سورة النساء الآية 105 ﴿إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا ١٠٥﴾. فسبحانه يبيِّن لنا العلة من إنزال القرآن على رسوله ﷺ وهي: ﴿ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ فغاية وسنام وذروة الأمر هو الحكم بين الناس بما أرانا الله سبحانه من أحكام شرعية في كتابه الكريم، نعم، هذه هي ذروة الإسلام وسنامه أن تكون للإسلام دولة تطبق أحكام الله على كل البشر من رعاياها، مسلمين وكفار، فجميعهم من ﴿ٱلنَّاسِ﴾.

هذا هو هدف الإسلام الذي تتحقق به غاية الإسلام الأسمى ألا وهي عبادة الله، وهذا ما سعى إليه رسولنا الكريم ﷺ طيلة فترة ما قبل هجرته، وهو ما حققه حين هاجر، محققًا به فرض ربه، وما كان ذلك منه إلا امتثالًا لأمر ربه. حدَّث علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما أورد ابن حجر العسقلاني في فتح الباري فقال: «لما أمر اللهُ نبيَّهُ أن يعرضَ نفسَه على قبائلِ العربِ، خرج وأنا معه وأبو بكرٍ إلى مِنَى، حتى دَفعنا إلى مجلسٍ من مجالسِ العربِ، وتقدم أبو بكرٍ وكان نسابة فقال: منَ القومُ ؟ فقالوا…». إذًا، فهو أمر من الله سبحانه لقوله: «لما أمر اللهُ نبيَّهُ» وليس اجتهادًا من قبله ﷺ – إذ لا يجوز بحقه أن يكون مجتهدًا – ولكي لا يقال بأن هذا ما كانت تقتضيه ظروف الدعوة آنذاك. فالله أوحى إليه أن يعرض نفسه على قبائل العرب ليطلب حمايتها ونصرتها لإقامة دولة الإسلام، وبدأ ﷺ، فور تلقيه أمر ربه بالتحرك في المواسم التجارية، ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل في مكة، وفق خطة سياسية دعوية محددة الأهداف، وكان يصاحبه في تحركه إضافة لعلي بن أبي طالب، أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما، الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، كان يقصد غرر الناس ووجوه القبائل، فيبدأ أبو بكر بسؤال وجوه القبائل ويقول لهم: كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله ﷺ ويعرض دعوته.

وتذكر لنا كتب السيرة الشريفة أسماء القبائل التي دعاها ﷺ للإسلام، ثم طلب منها النصرة لإقامة دولة الإسلام، وهي: كندة، وبنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وشيبان بن ثعلبة بن عكابة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة، وبكر بن وائل، وقيس بن الخطيم، والخزرج.

ويدلنا هذا العدد الغفير من القبائل التي قابلها ﷺ، على أن الأمر الذي واظب عليه ست عشرة مرة، هو طريقةً شرعيةً لا يجوز لنا الحياد عنها إلى غيرها، فهي أمر من الله، وليست أسلوبًا من الأساليب، وإلا لكفَّ عنه واكتفى بخمسة أو ستة محاولات لم تجدِ، ولحاول أسلوبًا آخر يوصله لإقامة دولته، ولكنه ظلَّ مواظبًا على فعله إلى أن قيَّض له ربه أنصاره من الأوس والخزرج، رضوان ربي عليهم أجمعين.

كان  الرسول ﷺ يصب اهتمامه على استبيان الجوانب الأمنية والاستراتيجية والجغرافية للقبيلة وعلاقاتها وواقعها، فكان يسأل ﷺ عن المنعة والقوة فيها وعن معاهداتها، بعد أن يعرض عليها الإسلام، وقبل أن يطلب منها النصرة، فقوة ومنعة وعلاقات القبيلة التي ستحمي الدولة الفتية الناشئة، شيء مهم لا بد من معرفته؛ لأنها القبيلة التي ستواجه كل قوى الشر والباطل في الأرض، فلا بد من أن تكون أهلًا لهذا الدور من الاستعداد المعنوي والمادي الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدولة والدعوة، ويتحمل تبعات توسعها وانتشارها، ويزيل كل العقبات التي تقف في طريقها.

ويدلنا على ذلك طريقة المباحثات التي اتبعها مع بني شيبان مثلًا، نذكر جانبًا منه لما فيه من دروس هامة لنا حين نتقيد بطريقة رسول الله ﷺ ونحذو حذوه في استعادة مجد الأمة. ففي حديث علي بن أبي طالب سابق الذكر أعلاه، قال: «… ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله ﷺ وقال: بأبي وأمي، هؤلاء غُرَر الناس.

وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالًا، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف، ولن تُغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله ﷺ فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله ﷺ: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد». فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا، فتلا رسول الله ﷺ: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ﴾. فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا. فقال هانئ : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر، لذلل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وأن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا. فقال المثنى، وهو أسلم بعد ذلك: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين، أحدهما اليمامة، والآخر السَّمامة. فقال له رسول الله ﷺ: «ما هذان الصريان». قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا، ولا نؤوي محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله ﷺ: «ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلًا حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟». فقال النعمان بن شريك : اللهم فلك ذاك».

فالنصرة التي طلبها منهم ﷺ لإقامة دولته لا تصح حين يكونوا مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة، ذلك لأن احتضانهم للدولة والحالة هذه، يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي تربطهم بها معاهدات، والتي ستجد في الدولة الإسلامية خطرًا عليها يهدد مصالحها، فالنصرة المشروطة أو الجزئية لن تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد مهاجمة دولة الإسلام الناشئة، وهذا واضح من ردهم.

كما سأورد بعضًا من طرائق المباحثات التي اتبعها ﷺ مع بني عامر، لما تتضمن من الدروس الشرعية:

لقد قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة، كبيرة العدد وعزيزة الجانب، لم تتبع لملك ولم تؤدِّ إتاوة، مثلها مثل قريش وخزاعة، بدأ رسول الله ﷺ الكلام فدعا إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له بَيْحَرة بن فِراس والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء». فقال له: أَفَنُهدفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك. وهنا رفض ﷺ أن يعطي لأهل نصرته أي ضمانات، كأن يكون لهم الحكم والسلطان من بعده كثمن أو مكافأة لما يقدمون من نصرة؛ ذلك لأن دولة الإسلام إنما هي دولة للمسلمين سواسية، والشرط الأساسي فيمن ينصرها أن يكون إخلاصه لله وحده، لا لمطامع شخصية من نفوذ وسلطان.

ولو انتقلنا إلى سرد طريقة مباحثاته ﷺ مع أنصاره الذين قيَّضهم له ربه؛ فقامت دولة الإسلام على أكتافهم وانتشرت من أكنافهم، لوجدنا أنها قد تمت على مدى ثلاثة أعوام، هي عام اللقاء الأول، وعام بيعة العقبة الأولى (بيعة النساء) وعام بيعة العقبة الثانية (بيعة الحرب)

فقد كان اللقاء الأول بينه ﷺ وبين أنصاره بعد طوافه على خمسة عشر قبيلة، انتهت كلها بخيبات الأمل.

قال ابن إسحاق في تفصيل أحداث اللقاء الأول مع الأنصار:

فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ وَاعِزَازَ نَبِيِّهِ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ. فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا.

فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ. قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ لَهُمْ: «مَنْ أَنْتُمْ؟. قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ قَالَ: أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ؟. قَالُوا: بَلَى. فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ.

قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قد غزوهم ببلادهم، فَكَانُوا إِذا كَانَ بَينهم شئ قَالُوا: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ نَتَّبِعُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ. فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لبَعض: يَا قوم، تعلمُونَ وَالله إِنَّه النَّبِي الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا وواعدوه اللقاء في العام القابل، غادروه مملوئين بالفكرة، فبلغوها.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ، فَلم تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذكر رَسُول الله ﷺ.

فلما كان الموعد المضروب من العام القابل وافى موعد رسول الله ﷺ منهم اثنا عشر رجلًا، عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، شهدوا موسم الحج عامئذ، ثم لقوه ﷺ على موعده بالعقبة، فبايعوه عندها بيعة العقبة الأولى (التي سميت فيما بعد ببيعة النساء لأنها كانت متوافقة مع ما كانت عليه بيعة النساء عام الحديبية)

قابلوه بشوق وتلهف، وقابلهم بصدره الواسع وخلقه العظيم، وقلبه متعلق بربه أن ينجز له وعده، قرأ عليهم من سورة إبراهيم من قوله سبحانه: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا﴾ إلى آخر السورة، وبعدها تمت إجراءات بيعة العقبة الأولى.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصنابحى، عَن عبَادَة، وَهُوَ ابْن الصَّامِتِ، قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا: فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قبل أَن تفترض الْحَرْب، على أَلا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ. فَإِن وفيتم فلكم الْجنَّة، وَإِن غشيتم من ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ.

تريث بهم ﷺ لموعد في العام القابل أيضًا، كيف لا وهم قوم حديثو عهد بالإسلام، لا يعرفون منه إلا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) والقليل مما سمعوا، فكان لابد من أن يرسل معهم من يعلمهم أمور دينهم ويرسخ عقيدته في نفوسهم، مع الأخذ بعين الاعتبار ما هم فيه من الحرب والتناحر، وما كانت حرب حطاب ولا حرب داحس والغبراء ولا يوم بعاث منهم ببعيد، حيث هلك في تلك الحروب رؤوس الشرك والنفاق من الطرفين، ولم يبقَ إلا شباب القوم اليافعين، وكأن الله سبحانه أراد أن يهيئ لرسوله ذلك الحي الذي ستبدأ فيه نشأة دولة الإسلام الفتية، كما قالت أمنا السيدة عائشة، رضي الله عنها وأرضاها، بحق يوم بعاث وفق ما أورد البخاري في صحيحه: «كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ»، فكان لا بد من المؤالفة بين الأوس والخزرج ومؤاخاتهم بأخوة العقيدة؛ بحيث يضمن ﷺ وحدة الصف بين مناصريه لتشكيل القوة الحقيقية القادرة على نصرة دولة الإسلام التي ستغيِّر مفاهيم الكفر في مجتمعها إلى مفاهيم العقيدة الإسلامية، والتي ستحكم بأحكام جديدة وغريبة عما اعتادته مجتمعات الكفر، ألا وهي الأحكام الشرعية التي أنزلها سبحانه على رسوله ليحكم بين الناس بما أراه الله، فهم وإن كانوا جميعًا قد قاموا لهدف واحد، إلا أنه يجب توحيد قواهم، فلا الأوس وحدهم قوة كافية يطلب منها النصرة، ولا الخزرج وحدهم، بل الأوس والخزرج معًا، وهذا درس من دروس النبوة، ولا بد لنا من فهمه وتطبيقه؛ فلذلك كله أرسل معهم مصعب بن عمير (مصعب الخير) موفدًا عنه، بعد أن أوكل إليه القيام بكل ما تقدم أعلاه.

فما مضى عام على وجود مصعب الخير في يثرب يدعو إلى الإسلام، ويؤاخي بين الأوس والخزرج، ويوحد قوى النصرة، ويبين للقوم دورهم ومهمتهم القادمة، ويقيم فيهم الجمعة، إلا استدعاه ﷺ يتبين منه صورة الرأي العام في يثرب حول الإسلام ودولته القادمة المرتقبة، فبشره مصعب الخير بأن الإسلام قد عم معظم بيوت القوم، وأن القوم ها هم على إثره للِّقاء الموعود، عازمين على المضي لما اختارهم له ربهم. فاطمأن ﷺ وانتظر الموعد، ليكون اللقاء ولتكون إجراءات بيعة العقبة الثانية أو (بيعة الحرب).

قال ابن اسحاق : قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابر، سيد من سادتنا أَخَذْنَاهُ، وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا. ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِيَّانَا الْعَقَبَةَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ وَكَانَ نَقِيبًا.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلْثُ اللَّيْل خرجنَا من رحالنا لميعاد رَسُول للَّهِ ﷺ نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي إِحْدَى نِسَاءِ بَنِيَ سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ.

قَالَ كَعْب بن مَالك: فَلَمَّا اجْتَمَعنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثَّقَ لَهُ.

فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ – قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا – إِن مُحَمَّدًا منا حَيْثُ قد عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزَّةٍ مَنْ قَوْمِهُ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُم ترَوْنَ أَنكُمْ وافون لَهُ بِمَا دعوتموه إِلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وخاذلوه بعد الْخُرُوج إِلَيْكُم فَمن الْآن فَدَعوهُ، فَإِنَّهُ فِي عزة وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.

قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قَلَتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَرَغَّبَ فِي الاسلام، قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ».

قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ معْرور بِيَدِهِ وقَالَ: نعم، فوالذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ الحروب وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ.

قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ، وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَبُو الْهَيْثَم بن التيهان فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا وَإِنَّا قَاطِعُوهَا، يَعْنِي الْيَهُودَ، فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ»

قَالَ كَعْبٌ: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَخْرِجُوا إِلَىَّ مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ». فَأَخْرَجُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ.

وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الأنصار أَن جِبْرَائِيل كَانَ يُشِيرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدَ النُّقَبَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَة. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: «أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي». قَالُوا: نَعَمْ.

وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا أنهكت أَمْوَالكُم مُصِيبَة وأشرافكم قتلًا أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ إِنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نَهْكَةٍ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَخُذُوهُ، فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَيْنَا؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ». قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ.

وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَيْعَةَ الْحَرْبِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا أَثَرَة عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ» …قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ». قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا فِيهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا. وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ

ثم صدر أمر رسول الله ﷺ لمسلمي مكة بالهجرة إلى المدينة المنورة، ومن بعدها كانت هجرته ﷺ مع أبي بكر رضوان ربي عليه، فكان ما تذكره الناس من نومة علي بن أبي طالب في فراش رسول الله ﷺ وقوله تعالى: (وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ ٩) وكان سراقة، وكان العنكبوت وبيض الحمامة والغار، وطلع البدر علينا، وبعد هذا الاقتباس من نصوص السيرة، هل يصح أن يفهم من الهجرة أن الرسول ﷺ قد فر بدينه، أم هي من الأعمال التي أقام بها الدولة التي تحمي بيضة الإسلام؛ حيث إنه بدأ من فوره تطبيق أحكام الشرع بين الناس بكل ما فيها، من تشكيل لجهاز الحكم، وتجييش الجيوش ليحكم الأرض بما أراه الله، وليقيم كل حكم من أحكام الإسلام تعلق وجوده بوجود دولة الإسلام.

وفي وقفة مع مجريات الأمور التي سبقت، نجد أن الأنصار قد فهموا بشكل لا يرقى إليه شك أن النبي ﷺ هو من سيكون الآمر الناهي في دولة المدينة، وأن نظام الحكم الذي يبتغي إقامته له متطلبات وعليه التزامات تتعارض مع ما كان سائدًا من عادات وأعراف ومواثيق، نعم لقد أدرك الأنصار أن تلك البيعة تقتضي وضع كافة إمكانياتهم ومقدراتهم بإمرة النبي ﷺ، وأن الأمر كله رهن بما سيشكله من نظام إسلامي يحل مكان الأنظمة القبلية السائدة، لذلك فقد فكر الأنصار مليًا قبل أن ينجزوا البيعة وفق ما قاله أبو الهيثم بن التيهان، وفيه إشارة واضحة على استعدادهم لتقبل النظام الجديد، وما سيبنى عليه من فسخ اتفاقاتهم السابقة مع عبد الله بن أُبي بن أبي سلول الذي كان اتُفق على تتويجه ملكًا على المدينة، وكذلك دخول علاقاتهم مع قبائل يهود المحيطة بالمدينة طورًا جديدًا يخضع للنظام الجديد كما حصل بعد ذلك. وبمجرد أن وصل النبي الكريم أبواب المدينة استقبله مئات من الأنصار المسلحين قائلين له، وكان معه أبو بكر الصديق «ادخلا آمنَين مطاعيَن». هذه هي صورة الهجرة، وليس حصرها بـ «طلع البدر علينا»، وهذه هي المعاني التي يجب أن ندركها من الهجرة النبوية الشريفة، وهذه هي الطريق التي يجب أن نسلكها لاستعادة أمجادنا  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *