العدد 45 -

السنة الرابعة – جمادى الثانية 1411هـ، كانون الثاني 1991م

من يقود العالم فكرياً؟

المفروض أن تكون الأمة الإسلامية هي التي تقود العالم فكرياً. إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين ورسالته هي خاتمة الرسالات. وقد كان كل رسول يُبعَث إلى قومه خاصة وكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة. (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا). وقد كلّف  اللهُ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم أن تحمل رسالة اقتداء به عليه وآله الصلاة والسلام. فحمل الرسالة لهداية البشر مطلوب من المسلمين إلى قيام الساعة، ولذلك فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم على الإطلاق، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). حتى لو وُجِد ناس على الأرض لم يتبلغوا الدعوة الإسلامية بشكل مؤثر فإن الله لا يحاسبهم على كفرهم بل يحاسب المسلمين الذين كلفهم بحمل الرسالة وقصّروا في واجبهم.

هذا هو المفروض ولكن الواقع هو غير ذلك. الواقع أن الأمة الإسلامية الآن تنقاد وتقلّد غيرها، لأنها مرّت في فترات انحطاط فقدت فيها استنارة الفكر وعمقه، وفقدت ثقتها بنفسها، وفقدت ثقتها بمبدئها، وهُزمتْ عسكرياً أمام الدول الغربية. والمغلوب يستسيغ تقليد الغرب، كما يقول ابن خلدون، خاصة إذا كان مهزوماً نفسياً بالإضافة إلى هزيمته العسكرية.

والنهوض من هذه الكبوة يبدأ بإضاءة شعلة الفكر العميق المستنير عند الأمة. لأن الأمة إذا ظلت مبهورة ومفتونة ومأخوذة بالفكر الغربي فستبقى تقلّد الغرب وتتبعه.

وهذه مهمة أهل الفكر وأهل العلم من أبناء هذه الأمة. ولكن كثيراً من هؤلاء أصابتهم لوثات الفكر الغربي وأثّرت فيهم وصاروا يحاولون إنهاض أمة عن طريق إعطائها أفكار الغرب (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا).

حضارة الغرب وأفكاره وقيمه هي الداء، هي المرض، هي الجرثومة وليست هي الدواء. دواؤنا في عقيدتنا، في ديننا، في حضارتنا الإسلامية. نحن أمّة أكرمها الله بالإسلام فإذا ابتغينا الكرامة بغيره فلن نقطف إلا الإهانة.

كل مسلم منا يجب أن يعقل معنى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، وأن يعقل معنى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، وأن يعقل معنى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ)، وأن يعقل معنى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وأن يعقل معنى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ).

فإذا عقل المسلم هذه المعاني وأدركها فلن يبقى في نفسه إكبار لحضارة الغرب ولا افتتان بها، وسيكون إكباره وتقديسه لعقيدته ودينه وحضارته الإسلامية دون غيرها.

إذا عقل المسلم، متعلماً كان أو أمياً، هذه المعاني فستكتمل عنده الثقة بصدق عقيدته وبصلاح نظامه، وستتولد الثقة عنده بأن مجموعة المفاهيم عنده هي الصحيحة وأن المفاهيم الغربية والشرقية هي خاطئة. ولن يقف بعد ذلك أمام الأفكار الغربية موقف المقلّد أو المهزوم، بل موقف القَوّام المرشد والقائد المنقذ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

مهمة العلماء والمفكرين والدعاة ليست تضييق الشقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، وليست أن نصور للمسلمين أن الإسلام يتماشى مع مفاهيم العصر (المفاهيم الغربية)، وليست في التصوير للمسلمين بأننا نحن تخلينا عن الإسلام وتلقف الغرب هذا الإسلام، لأننا نكون بذلك ندعو المسلمين لتلقى حضارة الغرب بإيهامهم أنها حضارة الإسلام.

الفرق شاسع بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية كالفرق بين الإيمان والكفر، وكالفرق بين الجنة والنار.

حضارتهم من وضع البشر وحضارتنا من رب العالمين، أنظمتهم من صنع المخلوق العاجز الناقص وأنظمتنا من لدن حكيم خبير (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). شرائعهم تراعي طبقات أو قوميات أو ظروف، وشريعتنا هي من الله الذي لا يحابي قوماً عن قوم ولا يتحيز لطبقة أو جماعة دون جماعة: «الخلق كلهم عيال الله».

مفاهيم الإسلام تجعل المسلم لا يخاف الموت لأنه يعرف أن للموت أجلاً، لا يتقدم ولا يتأخر. ومفاهيم الإسلام تجعل المسلم لا يخاف على الرزق لأنه يعرف أنه مقسوم. ومفاهيم الإسلام تجعل المسلم لا يجزع لفقد عزيز أو مال أو نزول أية مصيبة لأنه يؤمن بالقدر ويؤمن أن الله يبتلي المؤمنين ليكفّر عنهم خطاياهم ويزيد في حسناتهم. ومفاهيم الإسلام لا تجعل المسلم يبطر إذ كثرت عليه النهم بل هو يشكر المنعم ويؤدي حقه، ما أروع الصورة التي رسمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبتُ للمؤمن كل أمره خير، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرّاءُ صبر فكان خيراً له. فكل أمر المؤمن خير».

في الحضارة الإسلامية المسلم يرى أن الحياة الدنيا ليست غاية وليست أكثر من دار مَمَرّ إلى دار المقرّ، وهي دار العمل والزرع، والقطافُ هو في الدار الآخرة. فلا يحزن إذا فاته شيء من نعيم الدنيا لأنها لا تساوي جناح بعوضة، ولا تغرّه هذه الدنيا ولا تلهيه عن الغاية وهي الدار الآخرة. أما في الحضارة الغربية فالأمر عكس ذلك.

في الحضارة الإسلامية المسلم يرى أن غاية وجوده هي طاعة الله وعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ). (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أما في الحضارة الغربية فالإنسان عبد لغرائزه وشهواته. وبذلك لا توج قيَمٌ إنسانية رفيعة في الحضارة الغربية، وإن زعموا ذلك فإنهم يدجّلون كما تدجّل الفلسفة الميكيافيلية.

والحضارة الغربي مبنية على المنفعة الفردية في قياس الأعمال، وعلى التكالب على المصالح والمنافع، ومن الطبيعي أن تدفع اتباعها إلى الصراع من أجل الطمع، وإلى الحروب من أجل الاستعمار، وإلى الخداع والاحتيال لاقتناص الأموال واللذات. فهي حضارة ضد الإنسانية. وما أكذب بوش وأضرابه حين يتشدقون بأنهم يعملون لصيانة حريات الناس، وبأنهم يحافظون على القوانين الدولية، وبأنهم حريصون على حماية الضعفاء من تسلّط الأقوياء!

أما في الحضارة الإسلامية فإن مقياس العمل هو طاعة الله ونيل رضوانه وليس المنفعة الفردية العاجلة. وهذه الحضارة فيها سعادة المسلمين، وفيها رحمة للإنسانية. فهي الحضارة الوحيدة التي تُصلح الحياة وترتقي بها، وهي الوحيدة التي ينال بها رضوان الله.

فهل يصح بعد ذلك لأصحاب الحضارة الإسلامية أن يهملوها ويقلدوا حضارة الغرب، حضارة التدجيل والظلم؟ (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).

فلا يحل لكم يا أبناء الأمة الإسلامية أن تأخذوا الأخلاق أو الأذواق أو العادات من الأجانب. ولا يحل لكم أن تأخذوا القوانين ولا المعاملات ولا العقوبات من الأجانب. ولا يحل لكم أن تأخذوا طراز العيش في المطعومات أو الملبوسات أو الأفراح أو الأحزان أو الخصومات أو المصالحات من الأجانب. ولا يحل لكم أن تأخذوا نظريات الفلسفة أو الاجتماع أو النفس أو التربية أو القانون من الأجانب لأن هذه النظريات ليس ناتجة عن البحث العلمي بل هي متأثرة بوجهة نظرهم في الحياة.

ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن التشبه بالكفار وعن اتباع سنن الكفار بل أمرنا بمخالفتهم وشدد في ذلك، حتى أنه صلى الله عليه وسلم حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في صحيفة من التوراة تلوّن وجهه غضباً وقال له: «ألمْ آتِ بها بيضاء نقية ولو أدركني أخي موسى لما وسعه إلا اتباعي».

وإذا جاز للمسلمين أن يأخذوا شيئاً من الأجانب فإنما يكون ذلك في العلوم والصناعات والأنظمة الإدارية غير المتأثرة بوجهة نظرهم عن الحياة أو بعقائدهم وأديانهم.

أما فيما يتعلق بالعقيدة والنُّظُّم ووجهة النظر في الحياة فالمسلمون هم القادة وهم حملة الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات الإلهية. وعلى المسلمين أن يدركوا قيمة أنفسهم وأن يدركوا المسؤولية الملقاة على عاتقهم: مسؤولية متابعة حمل الرسالة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا يتطلب منهم أن يثقوا بعقيدتهم وبأنهم وحدهم في الدنيا على الحق وعلى الهدى وسائر الناس غيرهم في ضلال مبين.

وأن يثقوا بأن الرسالة التي يحملون هي الرسالة الوحيدة التي تصلح العالم وتنقذ الناس.

وأن يثقوا أن حمل الرسالة إلى العالم لا يثمر إلا بعد أن يطبق المسلمون الإسلام على أنفسهم وفي بلادهم. وهذا يكون بإقامة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة.

وأن يثقوا بقوله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *