العدد 32 -

العدد 32 – السنة الثالثة – جمادى الأولى 1410 هـ الموافق كانون الأول 1989م

بين العقل والدين

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

هناك من يصنّف المعرفة في ثلاث دوائر: دائرة العلم ودائرة الفلسفة ودائرة الدين. وهناك من يجعلها في دائرتين: العقل والدين. والحقيقة هي أن المعرفة تقوم على أصل واحد هو العقل. فالعلم (بمعناه التجريبي) يستند إلى العقل. والدين يستند إلى العقل، فلا يصح قبول أي شيء من الدين إلا إذا قام الدليل عليه من العقل، أو قام الدليل على أصله من العقل.

أما الذين يعتبرون الدين بأنه مجرد تسليم وجداني بدون أي دليل عقلي فإنهم ضالّون. أما الفلسفة (بمعنى البحث فيما هو غير مادة عن طريق العقل وحده) فهي ليست من المعرفة بل هي ضرب من التخيلات والأوهام.

عندما قال الشيوعيون «الدين أفيون الشعوب» جعلوا كلمة الدين مطلقة وقصدوا بها أيّ دين ومنها الدين الإسلامي. وربما يكون قولهم صحيحاً بالنسبة لبعض الأديان، ولكنه لا يمكن أن يصح بالنسبة للإسلام. وهذا وما نشاهده بوضوح من أثر الإسلام وفعله في الذين نزل فيهم بتحويله لهمن من حال تأخر وانحطاط وتبعية وعصبية، إلى حال نهضة ورقيّ وسيادة، وإلى حمل رسالة حق وهدى إلى البشرية جمعاء.

فالدين الإسلامي لا يدعو إلى الإيمان بالأساطير والترهات، ولا يدعو إلى إهمال العقل وإلغاء دوره في موضوع الإيمان أو في موضوع التسليم بالحقائق الشرعية. وإنما هو يجعل العقل أساساً لعقيدته، بل ويجعله أساساً لكل ما يمكن أن يكون للعقل فيه دور. ويرفض الإيمان أو التسليم بأي قول أو طرح أو عقيدة تتناقض مع العقل. ولذلك فهو ينعي على الذين يؤمنون بالخرافات والأوهام والتصورات غير المطابقة للواقع مثل تعدد الآلهة، أو نفي وجود الخالق أو عبادة الأصنام أو الإيمان بألوهية بشر، أو الإيمان بأن لله ولداً، سبحانه وتعالى. قال تعالى في سورة نوح: (وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا). وقال تعالى: في سورة الأنبياء: (أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، ثم قال تعالى في سورة القصص: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأْ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ) الآيات إلى قوله تعالى: (وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنْ الْمَقْبُوحِينَ).

وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الإسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل العقل مناط التكليف. فمن كان عاقلاً يفهم الخطاب مطلوبٌ منه الإيمان بعقيدة الإسلام والالتزام بأحكامه، ومن كان مجنوناً أو لا يميز ولا يفهم الخطاب فقد رفع عنه القلم، أي أنه غير مكلف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق» فالإسلام قد جعل العقل مناط التكليف مما يدل على الدَوْرَ الذي جعله الشارع للعقل في تلقي الخطاب من حيث فهمه وتمييزه عن غيره ومن حيث التسليم به أو عدم التسليم، والخطاب المقصود هنا ليس هو الخطاب المتعلق بالفعل وحسب، وإنما هو الخطاب المتعلق بالفعل والإيمان.

ولذلك فإن الإسلام عندما يدعو إلى الإيمان بالله فإنه يدعو الإنسان لأن ينظر ويفكر ويهتدي بعقله فيحكم به بوجود الخالق. قال تعالى في سورة الطارق: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) وقال تعالى في سورة البقرة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). وقال تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ) فالإيمان بالله أساسه الصحيح العقل ليس غير. وكذلك عندما طلب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس أن يؤمنوا به نبياً ورسولاً من عند الله وبالقرآن أنه كلام الله. لم يكن قوله هذا بغير برهان أو دليل إثبات، بل إنه أتى للناس من عند الله بحجة تقنع العقول فتحقُّ الحقَّ وتبطل الباطل وترد زعم المبطلين، فقد أتى بالقرآن معجزة ودليلاً على أنه رسول الله وأن القرآن كلام الله. وبالعقل وحده يحكم الإنسان أن القرآن كلام الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله. ولا يمكن أن يثبت النبي نبوته أو رسالته ما لم يكن معه البرهان القاطع الذي يقنع العقل فيحمله على الحكم بثبوت النبوة أو الرسالة.

وهكذا فإن العقل هو أساس الإيمان بالله تعالى وبأن القرآن كلام الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله. ولو كان يدعي الإيمان من غير تفكير واقتناع لكان يصح بمن يدعي النبوة كاذباً أو بمن يحمل للناس رسالة من عنده مدعياً أنها من عند الله. والعقل هو الذي حكم بصحة قول (لا إله إلا الله) وبخطأ قول «المادة أزلية وغير مخلوقة» وهو الذي حكم بصحة (محمد رسول الله) وبخطأ القول بأنه مجرد مصلح أو أنه ليس نبياً ورسولاً. والعقل هو الذي حكم بأن القرآن كلام الله وبأنه ليس أساطير الأولين ولا من عند البشر.

أما العقائد الأخرى التي لا دور للعقل فيها كالإيمان بالملائكة وبالجن والشياطين وبيوم القيامة وبالحساب وبالجنة والنار. فقد ثبت بثبوت أصلها. فإنه لما ثبت بالعقل أن القرآن كلام الله، وكانت هذه مما جاء في القرآن أي مما أخبرنا به الله تعالى، وجب الإيمان بها. لذلك فإن هذه الأشياء وإن كان العقل لا يستطيع أن يبحث فيها لعجزه وقصوره، وإن كان دليلاً نقلياً وحَسْب، وليس عقلياً ـ أي أن البرهان عليها يكون بإيراد النصوص التي فيها الدلالة عليها ـ فإن أصلها وهو القرآن الكريم قد ثبت بالعقل. وما ثبت أصله بالعقل فهو أيضاً ثابت بالعقل.

وعلى ذلك فالعقل هو الأساس في الإيمان، والعقائد كلها والأفكار كلها والأحكام والآراء كلها إن كانت مما ينظر فيها إلى الصحة والخطأ، فإنها لا تثبت إلا بالعقل أو بما ثبت أصله بالعقل، ومن كان يأخذ عقيدته أو أفكاره بغير العقل وبغير ما ثبت أصله بالعقل، فإنه يهمل عقله ويلغي دوره، وبذلك فإنه ينحط بنفسه عن المكانة التي كرمه الله بوضعه فيها، ويكون سبيله سبيل ما لا يعقل. قال تعالى في سورة الإسراء: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) وإنما كان تفضيلهم على غيرهم بالعقل ليس غير. وقال تعالى في سورة الفرقان: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

وما نخلص إليه هنا هو أن دور العقل بالنسبة للعقائد هو البحث والنظر والحكم على الأشياء بتقرير الحقائق. ودوره بالنسبة للعقائد النقلية أو السماعية هو فهم النصوص والإيمان بما ورد فيها بعد تقريره صدقها وصحتها.

أما بالنسبة للأحكام الشرعية فهي ليست مما ينظر فيه إلى الصحة والخطأ لأنها ليست حكماً على واقع لتقرير حقيقته أو لوصفه. فالحكم الشرعي ليس حكماً على الواقع بأنه موجود أو غير موجود أو أنه طويل أو قصير، أو أنه قابل للاشتعال أو غير قابل أو غير ذلك مما هو نظيره. فهو ليس خبراً. وإنما هو مما ينظر فيه إلى الطاعة أو عدم الطاعة. لأن الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. فهو متعلق بالفعل فحسب وليس بالإيمان. والأحكام الشرعية أوامرٌ ونواهٍ من الله سبحانه وتعالى للعباد. فهي طلب قيام بفعل كالصلاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيجاد الخليفة والعمل على إزالة أحكام الكفر وتحويل الدار من دار كفر إلى دار إسلام. أو طلب تركٍ لفعل كالزنا والربا والحكم بالكفر وموالاة الكفار وقتال المسلمين وغيرها. أو تخيير بين الفعل والترك كالنزهة والسفر والمشي والجلوس والأكل والشرب وغيرها.

وكمثال على ذلك لبيان ما يمكن للعقل أن يبحثه من حيث الصحة والخطأ وما لا يمكن له ذلك. قال تعالى في سورة النساء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) فما ورد في هذه الآية مما يمكن للعقل أن يبحث في صحته أو عدم صحته فإما أن يؤمن وإما أن يكفر. فالله سبحانه وتعالى إما أن يكون موجوداً وإما أن لا يكون. وقد ثبت وجوده بالعقل. والملائكة كذلك إما أن يكون هناك ملائكة وإما أن لا يكون. وقد ثبت وجودهم بنص القرآن أي بما ثبت أصله بالعقل. وهكذا قل بالنسبة لقوله: (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فهذه الأشياء المذكورة هي مما ينظر العقل بصحته أو خطئه، وقد طُلِبَ الإيمان بها. فالخطاب هنا متعلق بالإيمان وليس بالفعل.

وقال تعالى في سورة المائدة: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ). وقال تعالى في سورة البقرة: (وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ). وقال تعالى في سورة النساء: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ). وقال تعالى في سورة المائدة: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ). ففي الآية الأولى يأمر الله سبحانه وتعالى بترك أفعال معينة، وهنا لا يتأتى إلا الطاعة أو عدم الطاعة، أي ترك الفعل أو عدم تركه، وفي الآية الثانية يأمر الشارع بإقامة الصلاة وبإيتاء الزكاة وبالركوع مع الراكعين، أي يأمر بعمل معين. وإزاء هذا الأمر لا يتأتى إلا الطاعة أو عدم الطاعة. وفي الآية الثالثة يأمر الله تعالى بطاعته الله وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وبطاعة أولياء الأمر من المسلمين. وهذا كله طلب لفعل الطاعة فيما يأمرون به أو فيما ينهون عنه أو فيما يُخيِّرون فيه. وفي الآية الرابعة يبين الشارع جواز الأكل من طعام أهل الكتاب أي يُخيِّر بين الأكل وعدم الأكل. فالآيات الأربع متعلقة بأفعال العباد لأنها مما طلب فيه القيام بفعل أو ترك فعل أو التخيير بين الفعل والترك. وليست متعقلة بالإيمان، وهي لا يتأتى حيالها إلا الالتزام بالأمر على الوجه الذي جاء فيه أو عدم الالتزام.

ولا يقال هنا أن هذه الآيات أو ما كان مثلها كقوله تعالى: (أَقِيمُوا الصَّلاَةَ). فيها طلب فعل وطلب إيمان: الفعل هو إقامة الصلاة والإيمان هو الإيمان بأن الله طلب إقامتها. لا يقال هذا لأن قوله تعالى: (أَقِيمُوا) أمرٌ فعل إقامة الصلاة، أما الإيمان بأن هذا الطلب هو من الله فإنه آتٍ من جهة إن هذه الآية قرآن والقرآن يجب الإيمان به، فوجب الإيمان بهذه الآية ـ كغيرها من الآيات ـ وبما أن دلالتها قطعية وجب الإيمان بما فيها وهو فرضية الصلاة. ولذلك فالإيمان بالحكم الشرعي ليس آتياً من منطوق النص وإنما من كون النص وحياً من عند الله.

وعليه [كلمة غير واضحة] الأحكام الشرعية لا يتأتى بحث الصحة أو الخطأ، لأن الحكم الشرعي أمر أو نهي أو تخيير، والصحة والخطأ هي مطابقة الخبر للواقع أو عدم مطابقته، وتجاه الأمر أو النهي أو التخيير لا يوجد سوى الطاعة بالالتزام أو عدم الطاعة بعدم الالتزام، ووظيفة العقل في الأحكام الشرعية هي أن يتأكد أولاً أنها جاءت من الوحي ثم أن يفهم مراد الوحي وليس أن يناقشه.

وخلاصة ما سبق أن العقل أساس في الحكم لبيان العقائد الصحيحة من العقائد الباطلة. وما كان من العقائد غير خاضع لبحث العقل فإنه يتوقف فيه حتى يعرف أصله، فيحكم فيه العقل. والأحكام الشرعية أوامر ونواه ولا ينظر فيها إلى الصحة أو الخطأ وإنما: هل يجب طاعتها أولاً. فيُنْظَرُ إلى مصدرها، فإن كان الوحي مصدرها وجب أن تطاع. قال تعالى في سورة الحشر: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

بقيت مسألة وهي التعارض المزعوم بين العقل والدين، أو كما يحلو للبعض أن يقول: بين العلم والدين، وهي مسألة يجب أن لا تطرح إلا عندما يكون الدين غير مبني على العقل فيكون مجمعاً للخرافات والأوهام. وهذا ليس حال الإسلام. فالإسلام عقائد كلها مبنية على العقل أو على أصل بُنِيَ على العقل. ولذلك فالتعارض غير واقع.

والتعارض المزعوم إن كان متصوراً فإنه لا يوجد إذا إلا بين خبر وخبر. كأن يكون خبر من الدين كتقرير وجود لشيء أو كوصف لواقع ما، أو كإيراد أخبار عن أحداث ماضية أو مستقبلية، وحكم مناقض من العقل عن وجود ذلك الشيء أو عن وصف ذلك الواقع أو عن تكل الأحداث. وبعبارة أخرى التعارض هو حكم العقل بعدم مطابقة خبر الدين للواقع. أو تصادم حكم العقل بعدم مطابقة خبر الدين للواقع. أو تصادم حكم العقل مع حكم الدين في الإخبار عن واقع. أو تصادم حكم العقل مع حكم الدين في الإخبار عن واقع. وبناءً عليه لا يتأتى بحث التعارض بين العقل والأحكام الشرعية، لأن الحكم الشرعي ليس خبراً وإنما هو إنشاء، أي طلب فعل أو طلب ترك، وكما بينَّا سابقاً فإنه لا يبحث من جهة مطابقة الواقع أو عدمه.

والتعارض هذا يتصور منطقياً في ثلاث حالات لا رابع لها:

الحالة الأولى: أن يكون التعارض بين خبر قطعي من الدين وخبر ظني من العقل. وهنا يؤخذ خبر الدين القطعي ويُردُّ خبر العقل الظني مهما كانت درجة رجحانه، وخبر الدين نفسُه كما بينا فيما سبق في هذا البحث مبني على العقل فالعقل إذن هو الذي يحكم بقطعيته أي يجزم بمطابقته للواقع، ويكون التعارض المتصور هنا تعارضاً بين حكمين عقليين أحدهما قطعي والآخر ظني. فيردُّ الظني ويحكم بعدم مطابقته للواقع قطعاً.

الحالة الثانية: أن يكون التعارض بين خبر ظني من العقل وخبر ظني من الدين، وفي هذه الحالة لا يُرَدُّ أي واحد منهما رداً قطعياً إلا إذا أصبح أحدهما قطعياً فيرد الآخر. أما إذا بقي كل واحد منهما على حالة فإنه لا يوجد قاعدة ثابتة برد أحدهما وقبول الآخر، وإنما يُعْمَدُ إلى ترجيح أحدهما على الآخر بطريقة بحث صحيحة، كأن يتم ترجيح خبر الدين بأخبار أخرى شرعية أو عقلية، أو أن يتم ترجيح حكم العقل بأخبار أخرى شرعية أو عقلية.

الحالة الثالثة: أن يكون التعارض بين خبر قطعي من العقل وخبر ظني من الدين. وفي هذه الحالة فإنه يؤخذ الخبر القطعي ويرد الخبر الظني. ولا يصح العكس أبداً لأنه لا يمكن أن يتطرق الخطأ إلى الخبر القطعي سواء أكان من الدين أم من العقل. وإذا أمكن أن يتطرق الخطأ إلى الخبر القطعي من العقل فمعناه أنه من الممكن أن يتطرق الخطأ إلى حكم العقل القطعي الذي هو أساس الدين وهذا مستحيل، أما الخبر الظني من الدين ـ أو من العقل ـ فمن الممكن أن يتطرق الخطأ إليه، ولولا ذاك لما كان ظنياً، بل لكان قطعياً. والخبر الظني من الدين لا يكون إلا في ثلاثة حالات:

1- أن يكون الخبر نصاً قطعي الثبوت ظني الدلالة.

2- أن يكون الخبر نصاً ظني الثبوت قطعي الدلالة.

3- أن يكون الخبر نصاً ظني الثبوت ظني الدلالة.

ومثال هذا التعارض تفسير قوله تعالى في سورة النازعات: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) وقوله تعالى في سورة الشمس: (وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) فعند بعض من يفسر هاتين الآيتين اعتبر جِزْمَ الأرض مبسوطاً وليس كروي الشكل. وهذا يعارض حكم العقل بكروية الأرض وهو حكم قطعي لا شك فيه. فوجب هنا أن يُرَد تفسير من قال: إن الأرض ليست كروية. والذي يُرَدُّ هنا هو قول المفسرين وليس الآية، لأن الآية قطعية في ثبوتها، ولكنها ظنية في دلالتها، فَيُرَدُّ المعنى الظني الذي يتناقض مع الواقع القطعي.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طِيَرة في الإسلام» فقد فهم البعض من هذا النص أن العدوى غير موجودة وأن الأمراض لا تنتقل من شخص إلى آخر. وتعتبر كلمة (لا) في قوله: «لا عدوى» لا النافية للجنس عند من أنكر وجود العدوى بناء على الحديث. ولكنه قد ثبت بالعقل ثبوتاً قطعياً وجود العدوى، وأن هناك أمراضاً تنتقل من شخص إلى آخر بالعدوى بدون شك. فلزم من هذا التعارض بين حكم العقل القطعي وحكم الدين الظني، أن يؤخذ حكم العقل القطعي وحكم الدين الظني، أن يؤخذ حكم العقل بوجود العدوى وأن يُرَدَّ الحكم الظني المأخوذ من الحديث. أي يُرَدُّ قول الذين فهموا بأن الحديث نفي لوجود العدوى. ويُلجأ إلى معنى آخر يمكن فهمه من النص ولو باحتمال بعيد ـ أي يؤوَّل النص ـ ولا يتعارض مع حكم قطعي سواء كان للعقل أو للدين. فيُفهم النص بأنه نهي عن العدوى، أي نهي لمن يحمل مرضاً معدياً عن الاختلاط بغير ممن لا يحمل نفس المرض، ونهي لمن لا يحمل المرض المعدي عن الاختلاط بغيره ممن يحمله.

وتكون (لا) في قوله: «لا عدوى» لا الناهية وليست لا النافية. ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «ولا طيرة» فإنها نهي عن التطير وليس نفياً لوجوده لأن التطير فعل من أفعال الإنسان.

هذه الحالات الثلاث لا رابع لها. إنه أنه من الممكن القول بوجود حالة رابعة حسب منطق الاحتمالات وهي التعارض بين خبر قطعي من الدين وخبر قطعي من العقل. وهذه الحالة لا يمكن وجودها في الواقع، والعقل نفسه يقطع باستحالة وجودها. لأن الخبر القطعي من الدين أساسه العقل والعقل هو الذي يحكم بمطابقته للواقع. فكان تصور هذه الحالة مثل تصور تصادم خبر قطعي من العقل مع خبر قطعي آخر من العقل أيضاً. أو مثل تصور تصادم خبر قطعي من الدين مع خبر قطعي آخر من الدين. وهذا غير ممكن.

وعليه فإن الأخبار الواردة في نصوص شرعية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، يلزم الإيمان بها، أي تصديقها تصديقاً جازماً سواء أكانت تخبر عن الماضي أم عن المستقبل ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما نزلت الآيات من سورة الروم: (الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ) وقرأها على الصحابة، وجب على كل واحد منهم أن يعتقدها وهي خبر عن المستقبل، لأن هذه الآيات قطعية قي ثبوتها وقطعية في دلالتها، والشك في مطابقتها للواقع هو شك في الرسالة. وهو غير ممكن لأن الرسالة تثبت ثبوتاً قطعياً بالعقل.

أما مسألة التعارض بين العلم والدين، فإنه ينطبق عليها ما قيل في مسألة التعارض بين العقل والدين. لأن العقل هو أساس العلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *